تنبثق الرغبة داخل الإنسان من غير أن يدري عنها الآخرون شيئًا، ويتساءل الشخص الراغب عما يفعل إزاءها. نتحدث هنا عن «الأورغازم»، لا النشوة.
تُصوَّر حالة الأورغازم، في أدبيات الجنس العربية، على أساس أنها حالة غياب عن الوجود. لكن مصطلح «الأورغازم» تسرب إلى اللغة العربية، وأصبح ما تشير إليه مفهومًا يختلف عن مصطلح «النشوة» من حيث دلالته الزمنية بالأساس.
الأورغازم تعبير عن لحظة الذروة عندما يتجمع الجهد والتوتر كله، ويتحول إلى شيء جديد مختلف. تسترخي النهايات العصبية، ويطلق المخ مواده الكيميائية. أما النشوة، فهي الحالة المستمرة فترة من الزمن إثر الانتهاء. إنها تعبير عن حالة مستمرة يشعر بها المرء.
اكتشاف جديد اسمه الرغبة
يدخل الإنسان طورًا جديدًا في مرحلة البلوغ. يتجلى العالم في ألوان جديدة، واعدًا برغبات كثيرة، يتفوق مذاق النشوة الجنسية على متع الطعام والشراب وسائر المتع.
دون النشوة، ربما ما وجد المحبون الرومانسيون شيئًا يفعلونه معًا، وربما انعدمت الفائدة من مشاعر الحب أصلًا. فكل هذا التوتر يحتاج إلى نقطة حرجة ينتهي إليها، ومن ثَم يبدأ من جديد.
للفكرة أصول كذلك في علم التحليل النفسي. فعالم النفس الأسترالي الأصل «فلهلم رايش»، كتب في ملاحظاته، أنه في أثناء عمله في التحليل النفسي، رأى كثيرًا من الحالات التي تعاني نفسيًّا بشكل واضح، لعدم حصولهم على أورغازم مشبَع. لهذا لا يمكنهم أن يطلقوا سراح الطاقة النفسية.
في مقال نشره موقع «IAI News»، بعنوان «فينومينولوجيا الأورغازم»، تتأمل أستاذة الفلسفة «سارة هايناما» في ما وراء فكرة الأورغازم والرغبة. تتساءل: كيف صورت السينما والأدب والفن شعور الأورغازم والنشوة؟ ويوضح المقال التركيب المعقد للرغبة، ويستخدم تقسيم «سيمون دي بوفوار» لأنماط الرغبة إلى نمط «ذكوري» وآخر «أنثوي».
قد يهمك أيضًا: الجنس هو الحل: العلاقة الحميمة تهب لحياتنا معنى
ما هي «الفينومينولوجيا»؟
«الفينومينولوجيا» فرع من الفلسفة يقوم على دراسة العالم عبر ما يُظهره لنا. في الفينومينولوجيا نتوقف عند الأشياء التي نجربها، آملين أن تنطق بالسر. نترك معرفتنا ومعلوماتنا المسبقة وننظر إلى ما يحدث أمامنا. تحاول الفينومينولوجيا أن تحلل التجارب والخبرات المعيشية. قد يكون اتجاه الاهتمام بالظواهر مضادًا للاهتمام بعالم المُثل الأفلاطوني أو عالم الماوراء، وهو يمثل قطيعة مع الاعتقاد الشائع بأن ما يظهر هو السطحي والزائف. الفينومينولوجيا فلسفة الظواهر باختصار. ظهور الأشياء كما تتجلى في تجربتنا.
فينومينولوجيا الأورغازم: نشوة الإفلات من الذات
في البداية، تحاول سارة هايناما استكشاف طرق تمثيل الأورغازم في السينما الحديثة، والتعبير عنها للمُشاهد، وتصويرها كعنصر فني. ترى سارة أن هناك دلالة ما لاستخدام مَشاهد الألعاب النارية أو شلالات المياه في الأفلام القديمة، كتجربة يمكن التعبير عنها بأشياء خارج الذوات الفاعلة في الممارسة الجنسية، تزامنًا مع ظهور الأفلام الطويلة. الأمر الذي يستدعي إلى الذهن تمثيل مَشاهد الجنس في السينما العربية بالاستعانة بمَشاهد فوران القهوة واصطدام الريح بالنوافذ وغيرها.
المثال الكلاسيكي على ذلك، ربما يكون مشهدًا من فيلم «To Catch a Thief»، إنتاج 1955، للمخرج «ألفريد هتشكوك»، في الفيلم الحوار الرومانسي بين البطلين يُقطع (cross-cut) بصور ألعاب نارية بكل الألوان.
استُخدِمت كذلك شلالات ضخمة لتأطير اللقاءات الرومانسية المحتدمة في عدد من الأفلام الجماهيرية، منها: «The Last of the Mohicans» إنتاج 1992 و«Avatar» إنتاج 2009. والغرض دائمًا هو الإشارة إلى الذروة الجنسية التي تحدث حالًا، أو الإيحاء بأنها قادمة في الطريق، والتي يعبَّر عنها في هذه الأفلام كانفجار أو فيض يسقط علينا، إذ تُصوَّر كظاهرة من ظواهر الطبيعة أو كأنها فرقعة ميكانيكية.
في هذا أصداء أعمال أدبية وتاريخية صوَّرت الأورغازم في شكل «Ex-stasis» (خروج عن الطور)، بمختلف المعاني الجمالية والروحانية الدينية والوجودية، صور الفيض والتفجر ترجمة من مظاهر الطبيعة للفكرة الرئيسية للخطو خارج النفس واجتياز الفرد للحدود.
قد يعجبك أيضًا: اختراع المغايرة الجنسية: ما هو «الطبيعي»؟
تدفق السوائل
ترى سارة أن هناك رابطًا وثيقًا بين حركة المتعة وتدفق السوائل، مع وضع جميع الأطراف داخل إطار حركة الزمن.
بمصطلحات فلسفية، فإننا نستطيع فهم التمثلات الصورية واللغوية للنشوة إذا حللنا ظاهرة التدفق. في كتاب «فينومينولوجيا الإدراك» للفليسوف الفرنسي «موريس ميرلو بونتي»، يلفت الانتباه إلى القوى الثنائية لعناصر التدفق. فمن جانب تميل عناصر التدفق إلى الانتشار دون حواجز في حالات كثيرة، على جانب آخر، تمتلك عناصر التدفق المقدرة على حمل أنفسهم، مثل تيار في اتجاه واحد أيضًا من غير حواجز. ينطوي الأورغازم قطعيًّا على كلا الشكلين من توزع الإحساس، ويمكننا وصف الأورغازم بالتدفق متعدد الاتجاهات.
لذلك، فكلٌّ من شكلي التدفق أساسيان لخبرتي الذروة. تجادل سارة بأن أورغازم الأنثى خصوصًا لا يكون إثارة محلية تستوطن منطقة التحفيز الجنسي فقط، أيًّا ما تكون الشدة. أورغازم الأنثى يكون فورانًا للمتعة يتوزع في كل الجسد الخاضع للتجربة، تنبع اللذة من مصادر الإحساس، لكن سرعان ما تنتقل بسلوك تراكمي أو انفجاري، حرفيًّا من الرأس إلى القدم.
زيادةً على ذلك، حينما تصل اللذة الحسية إلى قمة المتعة، تحمل موجة الأورغازم نفسها إلى الأمام من غير أي حافز أو مثير إضافي.
يستخدم الفرنسيون مصطلح «الموت الصغير» لتوصيف الأورغازم، في إشارة إلى حالة تراجع حدة الوعي واضمحلال الحاضر.
يتيح لنا هذا الطرح الانتباه لجانب آخر لمتعة الأورغازم، يمتلك الأورغازم القدرة على اعتراض مسار الحياة المعتاد والإلقاء بنا خارج الزمن.
تجربة الأورغازم لا تُظهِر البنية الثلاثية للتعامل مع الزمن، كماض وحاضر ومستقبل، ولا تستقر في التنظيم الزمني لحياتنا الفعلية. الأورغازم يلغي مكان الشخص مؤقتًا، يبدو أن الأورغازم يطفو بالشخص فوق الزمن أو يدفعه تحت سطح الزمن.
لذلك يتوازى الأورغازم مع الإغماء وفقدان الوعي وحالة النوم دون أحلام، ويحاكي الموت في الأخير.
يستخدم الفرنسيون مصطلح «الموت الصغير» لتوصيف الأورغازم، في إشارة إلى حالة تراجع حدة الوعي واضمحلال الحاضر التي تتضمن في الأساس تخلخل التدفق الزمني للوعي.
الرغبة مضطربة لا ثابتة
فلاسفة الفينومينولوجيا يلفتون انتباهنا إلى سمة بنيوية أخرى تخص الإثارة. في كتاب «الجنس الثاني» تجادل سيمون دي بوفوار فكرة أن تمظهرات الإثارة الجنسية والإشباع غامضة ومتعددة.
لا تقصد الرغبة الجنسية موضوعها كما في الجوع أو العطش. لا تريد الإشباع مباشرة. فبدلًا من أن تتقدم الرغبة على خط مستقيم من نقطة إلى أخرى، بإمكان الرغبة الإيروتيكية البقاء أو الاستطالة في حالة من التوقع والانتظار، تتطور الرغبة وتنمو وتتكثف في موقع وسط بين الأشياء.
تجادل سيمون دي بوفوار أننا يمكننا التمييز بين شكلين للرغبة البشرية: شكل ذكوري وآخر أنثوي. الشكل الذكوري للرغبة يستجيب للموضوعات التي تبدو جذابة ببساطة. الشكل الأنثوي يستجيب للموضوعات التي تجذبه بقوة، لكن في نفس الوقت يطلب أن نبقى على مسافة.
الرغبة الأنثوية تنطوي على ازدواجية مضافة. يبدو أن الموضوع المرغوب يبعث رسالة مزدوجة إلى الشخص الراغب: تعال، لكن بحذر. لذلك لا يظهر موضوع الرغبة شيئًا جيدًا فقط، بل مثيرًا للشك كذلك. لهذا السبب تكون بعض أشكال الرغبة البشرية غامضة في تقييمها لموضوعات الرغبة.
تركز بوفوار على الأسلوب والسلوكيات ذات الصلة. لذلك ليس من اللازم ربط الذكورة بالرجال والأنثوية بالنساء. ما يهم في الرغبة الأنثوية ليس ما تجربه المرأة من رغبات، لكن المقصود هو نمط حذر ومتردد من فعل الرغبة.
في المقابل، الرغبة الذكورية لا تكوِّن الرغبة التي يجربها الرجل فقط، لكنها الرغبة القاطعة التأكيدية. كلٌّ من نمطي الرغبة يمكن أن يُجربا بواسطة الرجال والنساء، بل إن أي شخص يقدر أن يجرب الرغبة في حالتيها الذكورية والأنثوية، أحيانًا حتى تجاه نفس الشريك.
الأورغازم كإشباع جسدي وحسي خام للرغبة لا يكون نقطة النهاية، بدلًا من القضاء على الرغبة، يشبعها ويُدخلها في حالة خمود.
يعطينا فيلم «Wright’s Anna Karenina» مثالًا عن النموذج المثالي للرغبة الأنثوية والذكورية. الرغبة الأنثوية ليست سمة طبيعية مقصورة على أحد المحبين، لكنها تصف السلوك الذي يتصرف به أي منهما تجاه الآخر. يتردد الاثنان ويحذران في مبادراتهما، كلاهما يجرب الآخر كشيء جذاب بشدة ومثير للنفور، يتأرجح الاثنان في اتجاهين متضادين، يضاف ذلك الغموض إلى عاطفتهما المشتركة.
قد يهمك أيضًا: لماذا يعزف جيل الألفية عن ممارسة الجنس؟
الأورغازم كإشباع جسدي وحسي للرغبة، ليس نقطة النهاية
المحللون الفينومينولوجيون يسلطون الضوء على تعقيد الرغبة البشرية والأورغازم. يُظهرون أن الرغبة الجنسية بأشكالها المختلفة تكون في العادة أشد تعقيدًا من الرغبات الأخرى. يوجد في الرغبة الجنسية التوتر والقوى المضادة. فالجنس هو الشهوة الإنسانية الوحيدة التي تُشبَع عبر إنسان آخر، ومن خلال الالتقاء به والانفصال عنه، في نفس اللحظة.
الأورغازم كإشباع جسدي وحسي خام للرغبة لا يكون نقطة النهاية، بدلًا من القضاء على الرغبة، يشبعها ويُدخلها في حالة خمود، لتستيقظ ثانية بفعل الموضوع المرغوب أو ذكرى منه أو شيء من متعلقاته.
تجربة الرغبة والأورغازم تتشابه مع الأشكال الروحانية للنشوة. ليس السبب احتمالات تفاعلات كيميائية وعمليات عصبية فقط، لكنها إمكانيات بشرية تحتاج إلى الخيال حتى تنشط وتزدهر.