بالإمكان أن أعتبر نفسي كويتيًا، لا لأني ولدت في الكويت وعشت هنا طوال حياتي، ولا لأني أبدو من حيث الظاهر كويتيًا، فأنا أجيد الحديث بالدارجة، وأستطيع بسهولة أن «أنسف غترتي جريمبه»، وبالتأكيد أستطيع الحديث لساعات عن شغفي بنادي القادسية صغيرًا. لا، ليس بتاتًا لهذه الأسباب المؤثرة والعميقة في داخلي، بل لأن جزءًا من تكويني البُنيَ تم فوق هذه الأرض، ذكرياتي الأكثر حميمية، آلامي، تطلعاتي... الكثير والكثير من التفاصيل التي نسجت هيكلي الكوشي الصومالي، ندوبي الإفريقية، أنا كما أنا. ربما ذلك هو الشيء الوحيد الحقيقي الذي يُعرّفنا، ويميزنا، بل ويصنفنا: «الذكريات». أين كانت تلك الذكريات؟ ومع من؟
الحرب الأهلية الصومالية عام 1991 وهجرة الآلاف
منذ اندلاع الحرب الأهلية في الصومال منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، غادر الكثيرون البلاد. كانت الحرب أكثر المظاهر الإنسانية بشاعة. الدمار الذي حل وطال كل شيء كان مهولًا. الحنق الذي كان لدى الجميع على العسكري الذي استولى على السلطة بالانقلاب «سياد بري» لم يكن موجهًا لشخصه فقط، بل كان موجها بغيظ شديد إلى جميع تلك المعامل التي خلفها ذاك الدكتاتور. أراد اللاوعي الجمعي الغاضب محوه من الوجود، بل محو كل ما يمت له بصلة.
كانت والدتي واحدة من تلك الأمهات، وكان عليها أن تتخذ خيارًا صعبًا وهو أن تكون هنا بمفردها. تلك الفتاة التي لم تفكر إطلاقًا في القدوم إلى الكويت. لم تفكر في ذلك أبدًا، كانت تخطط للعيش في دبي أو ربما جدة. وكان ما كان، فلم يحط رحالها في أيٍّ من المكانين اللذين رغبت فيهما، وكما يقال: لا يمكنك أبدًا التغلب على قوانين مورفي.
لم تكن الحياة مشرقة جدًا لأولئك الذين عاشوا هنا في الثمانينيات والتسعينيات، خاصة عندما لا يعرفون اللغة المحلية أو الدارجة، بالإضافة إلى المستوى الثقافي المحدود لدى الجالية الصومالية. فمع أن جودة التعليم حينئذ في الصومال كانت عالية نسبيًا، فإن إمكانية الوصول والحصول على التعليم لم تكن متوفرة للجميع.
هنا يأتي الإلحاح في التفكير مليًا متى قررت التقديم لوظيفة أو حتى للسياحة، فأنت بحاجة إلى معرفة اللغة التي يتحدث بها أهل البلد، على الأقل في الحوار الضروري اليومي. اللغة العربية ضرورية جدًا للتواصل اليومي، وقد كانت الأمور أكثر راحة بالنسبة للجيل الثاني مقارنة بالجيل السابق، بالنسبة لي، فلقد درست جميع المراحل هنا، وتخرجت أخيرا في جامعة الكويت.
الكويت.. كما بدت لي
تعتبر الكويت مجتمعًا يتفاعل أفراده بطريقة تعتمد على ثقافة عالية في مؤشر «مسافة السلطة»، والذي وضعه العالم الهولندي المشهور «جيرت هوفستيد»، وينص على أن علاقات الأفراد تتشكل على تراتبيات محددة، فيحافظ أصحاب النفوذ الأعلى على مكانتهم وفق هرمية منضبطة يكون فيها لكل شخص مكانته الخاصة في المجتمع، وهو ما يسميه هوفستيد «المجتمعات ذات السلطة العالية».
كثيرًا ما يسألني أصدقائي هذا السؤال بشكل متكرر، هل سأغادر الكويت يومًا ما إذا ما أتيحت لي فرصة ممتازة في مكان آخر؟
ومع ذلك فإن الشعب الكويتي مخلص للغاية لأصدقائه، فبمجرد أن تبدأ في زيارة الديوانية، ويبدأ الناس في التعرف عليك، ستجدهم ودودين وأسخياء. يميل الناس هنا إلى العيش في مجموعات للحفاظ على مكانتهم الثقافية، إلا أن التمدن قد أثر فيهم كثيرًا. ستجد الكثير من الطوائف والأسر والقبائل المختلفة تتعايش بود وتعمل بمهنية، الأمر الذي ليس متاحًا لدى شعوب أخرى، أو ربما لم تفهمه تلك الشعوب الأخرى. فمثلًا حيث جاء والداي، يتقاتل الجميع بضراوة، رغم أنهم يعتنقون دينًا واحدًا: الإسلام، ويتبعون مذهبًا ومدرسة فقهية واحدة: الشافعية، ويتحدثون بذات اللغة: الكوشية.
الحديث عن الحرب والسلام دائمًا ما يكون مسرفًا في الآلام والخيبات، وكذلك الشعور بالسعادة الغامرة في الأمن والنصر. للتو قد انفتلنا من الذكرى المجيدة لتحرير الكويت في فبراير السالف، ومع أني كنت صغيرًا حينها، كنت بالكاد أبلغ الثلاثة سنوات، فإن تلك المشاهد التي يغطيها الغَبش والدخان ما انفكت من التحرك والعبث في مخيلتي، السواد الذي عم الأرجاء، الشعور المخيف بأن العفاريت والأشباح قد صعدت من تحت الأرض فملأت الأرجاء رعبًا وصياحًا. ثم تتقافز الصفحات البيضاء في عقلي، لا شيء واضح منها سوى ذلك المشهد الخالد لشادي الخليج، بحماسة أكيدة، وملحمية صادقة، يصدح بكلمات الشاعر عبد الله السنان:
آن آن نصمد صفًا واحدًا ... آن آن نُقصي العدو الأرعنا
هكذا كبرت، وكنت في جميع تلك السنوات أصادف فضول الأصدقاء عني وعن بلدي، بل حتى أساتذتي الجامعيين، فلم تكن تخلو محاضرة إبان دراستي الجامعية من الحديث عن القرن الإفريقي وتطلعات الشباب الصومالي هناك. وكان أساتذتي يبادرون بسؤالي عن ذلك، ودائمًا ما يتشعب النقاش إلى الحديث عن أصل العرق الصومالي وعلاقته القديمة بالخليج. ومهما يكن من شيء، فإن السمة الصادقة لتلك المناقشات هي الشغف بمعرفة الآخر، والأُخوة الصادقة والعاطفة العميقة لجميع ما يحدث في جميع البلاد.
في البدء كانت الكويت.. لكن أين المصير؟
كثيرًا ما يسألني أصدقائي هذا السؤال بشكل متكرر، هل سأغادر الكويت يومًا ما إذا ما أتيحت لي فرصة ممتازة في مكان آخر؟
هذا الحديث عن المصير، والغد المجهول، أحيانًا ما ننتقل إليه بشكل عفوي، ذلك الفضول المُلح من أصدقائي وأساتذتي، الذي دافعه الود الأكيد والشفقة الغامرة والتوجس من المستقبل. وعادة ما أجيب بأنني لا أعرف ما يخبئه المستقبل لي، هناك الكثير من الفرص التي انحرفت عن مساري، وهناك المزيد من الفرص التي لم تتشكل بعد، ولا أدري كيف ستكون، بل أين ستكون.
ومع ذلك، أنا متيقن من أني إذا كنت سأموت في مكان ما، فإني أفضّل الموت هنا في الكويت لأني.. لأني بنيت كل ذكرياتي الخاصة هنا، ومن الصعب تركها.