بينما طفلك يلعب ويعبث في الأشياء المحيطة، يعثر على شيء ما لا تتركه أمامه عادة (هاتفك المحمول مثلًا) مما يعني أنه شيء جديد بالنسبة له، فيتحرك فضوله ويحاول استكشاف هذا الشيء بطرقه الخاصة التي تختلف باختلاف مرحلته العمرية: يقلبه، يضغط أجزاءه المختلفة، يشد أجزاء منه، يرُجُّه بقوة، يخبطه في الحائط، وربما يخدشه أو يكسره، إلخ.
وحين تراه تفزع وتهرول وتنتزع منه الهاتف صارخًا فيه بأن هذا خطأ ومهددًا إياه بالعقاب إن كرر هذا مرة أخرى. أنت المخطئ الوحيد هنا.
ما سيستقر في عقل طفلك ويعلق بذاكرته من هذا الموقف، هو أنك انقلبت عليه فجأة دون سبب وأفزعته وصرخت فيه وهددته وحرمته مما كان يلعب به، بينما كنت تبتسم له منذ لحظات.
صراخك في الحقيقة لن يجدي نفعا ولن يفيده بأي شيء. لماذا تصرخ؟ هل تريد معاقبته؟ هذا هو الخطأ، فهو لا يستحق العقاب لأنه لم يكن يعرف أن ما فعله خطأ.
هل تريد تعليمه أن هذا خطأ؟
هذا لن ينجح بالصراخ، لأنه لم يفهم هنا أن هذا خطأ، فضلا عن السبب في أنه خطأ. الدافع الوحيد لصراخك هو غضبك خوفا على هاتفك، فتنتقم من طفلك بالصراخ فتهدأ نفسيا.
ليس هذا ما تقصده ربما، لكن هذا ما فعلته بالضبط. لكننا سنحتاج إلى وسيلة عقاب في النهاية، فالشرح الهادئ لا يجدي نفعا في كل شيء. أليس كذلك؟
أساليب التربية المختلفة تحدد شخصية الطفل
هناك مفهوم حديث في التربية (ليس حديثا جدا في الحقيقة، فقد ظهر في البداية في كتاب «الأطفال: التحدي» لرودولف دريكيرس، سنة 1964) وهو مفهوم «العاقبة بدلا من العقاب».
العقاب وسيلة لا تحترم حق الطفل في اتخاذ قراراته، حتى ولو كانت قرارات غير صائبة
لنقل أن طفلك مثلا لم يقم بواجباته المدرسية أو حتى المنزلية (لم يرتب حجرته أو تسبب في فوضى في المنزل مثلا)، هنا ستكون العواقب أننا «مضطرون» إلى قضاء بعض الوقت لمساعدته في عمل هذه الواجبات المدرسية أو لترتيب وتنظيف الفوضى التي تسبب فيها سواء بمشاركته أو من دونها، وهذا الوقت سيأتي على حساب الوقت المخصص للخروج أو اللعب أو مشاهدة التلفزيون.
في المقابل فإنه لو أظهر أداءً أفضل في عمل واجباته سيترتب على ذلك توفير المزيد من الوقت الذي سيعني اكتسابه الحق في المزيد من وقت اللعب والترفيه في ذلك اليوم.
«العواقب» هي النتائج الطبيعية المترتبة على اختياراتنا. السلوك هو مجموعة من القرارات والاختيارات التي تتخذها بإرادتك، والعواقب قد تكون إيجابية أو سلبية، هذا هو الطبيعي، وهكذا هي الحياة، وعلى الطفل أن يتعلم هذا مبكرا. هنا تصبح الأخطاء والقرارات غير الصائبة فرصا للتعلم بالنسبة للطفل، ويصبح بإمكان الوالدين اتخاذ قراراتهما التربوية بناء على المبادئ والقيم التي يريدان للطفل أن يتعلمها، بدلا من أن تكون مجرد ردود أفعال مبنية على الغضب اللحظي من سلوكيات الطفل.
والعواقب ليست فقط وسيلة لتقويم السلوكيات السلبية، لكنها تضمن أيضا تعزيز السلوك الإيجابي عنده، لأنها تتضمن عواقب جيدة يشعر بقيمتها بعدها، وتشعره بالفخر لانتهاجه السلوك الحسن. أسلوب العقاب يتضمن رسالة منك إلى طفلك، تقول: «عليك أن تفكر مثلي و تطيع أوامري وإلا فسوف أجعلك تعاني وتدفع ثمن عصيانك لي، حتى تضطر في النهاية إلى الإذعان لأوامري».
اقرأ أيضًا: تحكم الوالدين يجعل الأطفال أميل إلى القلق وجلد الذات
العقاب وسيلة لا تحترم حق الطفل في اتخاذ قراراته، حتى ولو كانت قرارات غير صائبة، ما يعني أنه لن يتعلم كيف يتخذ قرارا، وسيظل طيلة حياته يبحث عمن يتبعهم ويتخذون له قراراته، سيظل تابعا للأب ثم المدرس ثم المدير ثم الوزير ثم الرئيس! سيتبنى مواقف ومبادئ وأفكارا بناء على الأشخاص الذين «يتبعهم»، وسيَعرِف الحق بالرجال وليس الرجال بالحق. سيعتاد عدم تحمل مسؤولية قراراته واختياراته، لأنه لم يختر شيئا من البداية، وإنما «اختير له»
تعزيز مفهوم المشورة للطفل
بينما مفهوم «العاقبة» أو «العواقب» يُعوِّد الطفل على أن سلوكه هو اختياره الحر، وهو مسؤوليته التي سيتحملها كاملة. وعليك أن تضعه أمام هذه المسؤولية، مهما كانت صعبة.
فكرة «العاقبة» تحترم حقه في اتخاذ القرار حتى ولو لم يكن قرارا صائبا، فهو سيتعلم من قراراته، وسيتعلم كيف يتحمل مسؤوليتها، وسيفهم قيمة المشورة ويقدرها ويطلبها عندما يشعر أنه بحاجةٍ إليها حقا، كما أن هذه الطريقة ستحافظ على علاقتك الطيبة بطفلك، فإحساسه بأنك تحبه لن يتأثر بتحمله عواقب قراراته وسلوكياته، لأنك لن تضع هذه العلاقة على المحك أصلا، بل إنك ستُشعره بالحب والتعاطف طوال الوقت، حتى وأنت تضعه أمام مسؤولياته وتشرح له العواقب التي سيكون عليه أن يتحملها، فأنت ستقولها بتعاطف وأسف من أجله لأنه سيضطر إلى ذلك.
ستكون في موقف الصديق الذي يقف بجانبه، بدلا من «السُلطة» التي تحمله الأعباء وتتسبب في معاناته، والتي يظل يتمنى في قرارة نفسه أن يتخلص منها.
قد يعجبك أيضًا: خلف الأبواب الموصدة.. كيف نضع حدًا لتعنيف الأطفال؟
عندما تعاقب طفلك فإن انتباهه يتركز عليك أنت: أنت ظالم متجنٍ غير عادل، وأنت المشكلة! حتى لو كان يعرف أنه ارتكب خطأ، فإنه لا يستطيع أن يرى أبعد من العقاب ومن فرضه عليه. أما عندما تضعه أمام عواقب الخطأ فإنه يفكر أكثر في سلوكه وكيف كان يجب أن يتصرف بشكل مختلف. ودورك هنا لا يعتمد على الإجبار بقدر ما يعتمد على الملاحظة والمراقبة.