الحياة تجبر معظمنا على دخول صراعات لا تنتهي، صراعات من أجل النجاح والبقاء والاختيارات الأنسب والنجاة من الندم والحصول على السعادة وتجنب الشعور بالذنب وتحاشي الآثار المدمرة للشهوات. بعض البشر يجيدون وضع أنفسهم في مرحلة من السلام التام، فتهدأ عواصف المعاناة وتحل عليهم نسمات النعيم النفسي. إن مررت بهذه الحالة، فمرحبًا بك في «النيرفانا».
يتمتع مفهوم مرحلة النيرفانا بمكانة خاصة في الفكر البوذي، ليس فقط لأنه يمثل الهدف الأسمى للطريق الذي يسلكه معتنق البوذية، بل لأنه يمثل أيضًا نقطة التقاء تيارين أساسيين لتلك الديانة. لكن حتى غير معتنقيها قد يجدون في مفهوم النيرفانا معنًى منشودًا وهدفًا نفسيًّا يسعى إليه كثيرون من مختلف المعتقدات، حسبما ذكرت مجلة «Aeon» في مقال لها.
النيرفانا عند مفرق الطرق
يقف مفهوم نيرفانا عند نقطة تشعب طريقين أساسيين في البوذية:
- طريق طبيعي واقعي: يستعرض الأفكار التي من السهل على الباحث في علم النفس أو الفلسفة تقبلها، وتتحدث عن طبيعة العقل البشري، وأسباب معاناة الإنسان، والطرق التي يمكن أن يحيا بها الإنسان سعيدًا وفقًا لمثل هذه الحقائق. ويرى أتباع ذلك الطريق أن التأمل في البوذية طريقة علاجية أكثر منه ممارسة روحانية.
- طريق غريب: يركز على مفاهيم ما وراء الطبيعة، أو على الأقل المفاهيم التي لا تقبلها العقول المعتمدة على التفكير العلمي المنطقي فقط. من بين تلك المفاهيم ما يُعرَف بالتجسد، أو ما يُطلِق عيله البوذيون «إعادة الميلاد» (انتقال الروح بعد وفاة الشخص إلى جسد جديد).
وفقًا للمعتقد البوذي، فإن إدراك المفاهيم الغريبة للبوذية يعني التحرر من سيطرة دائرة لا متناهية من إعادة الميلاد، لكن حتى هذه الفكرة الميتافيزيقية تقود إلى أفكار أكثر واقعية متعلقة بمعاناة الإنسان ورضاه، ويمكن من خلال هذا المزج بين طريقي البوذية النظر إلى ممارسة التأمل بنظرة مختلفة.
عندما تتحرر من معاناتك تدخل حالة النيرفانا، التي تسمح لك بالاستمتاع ببقية حياتك.
ترجمت مخطوطات قديمة مصلطح النيرفانا إلى «غير المشروط». ولفهم أعمق لما تعنيه تلك الترجمة، ينبغي أولًا معرفة ماذا تعني صفة «المشروط» في الديانة البوذية.
أحد تعريفات المشروط في البوذية أنه «المسبِّب»، فعندما نتحدث عن شروط غليان الماء أو هطول المطر، فإننا في الأساس نتحدث عن مسببات هذه الأحداث.
وبما أننا عرفنا النيرفانا بأنها «غير المشروط»، يمكننا القول إنها تعني الهروب من المسببات. ولمزيد من توضيح المعنى ينبغي التطرق إلى أحد أبرز المذاهب في البوذية: «النشأة المعتمَدة»، والذي يشير في أبسط معانيه إلى فكرة السببية، ففي ظل ظروف معينة تنشأ أشياء، وفي ظل ظروف مغايرة تنشأ أشياء جديدة.
يشير مفهوم النشأة المعتمدة أيضًا إلى سلسلة من الأسباب يبلغ عددها 12 سببًا يترتب بعضها على الآخر، وتؤدي إلى حبس الإنسان في دائرة لامتناهية من إعادة الميلاد، تلك الدائرة يقال إن حالة النيرفانا تكسرها.
لا يهمنا هنا ذكر الأسباب كلها، سنذكر فقط ما يعنينا.
السبب الأول هو الوعي، الذي يتشكل عندما تتشكل حواس الإنسان، من سمع وبصر وتذوق وغيرها، والتي يدرك بها العالم المادي، فمن خلال القدرات الحسية يحدث التواصل.
بعده يأتي سبب آخر متعلق به، هو المشاعر، التي تتولد كنتيجة طبيعية لهذا التواصل. وبعد المشاعر يأتي الشوق والحنين، حين نحِنُّ إلى المشاعر الجميلة، ونشتاق للهروب من المشاعر السلبية.
قد يهمك أيضًا: كيف تجتمع المبالاة مع اللامبالاة عند «زن»؟
نيرفانا: التحرر من المعاناة
الراهب البوذي الأمريكي «بهيخو بودي» ترجم أجزاء من نصوص بوذية قديمة تتحدث عن تلك المعاني، جاء فيها أن بين المشاعر والشوق تشتعل حرب حول من منهما سيستمر في المستقبل، ومن سيُستَبدل به التنوير الروحي والتحرر.
من هنا يمكن الفصل بين الطريق الطبيعي للبوذية والطريق الغريب، فالتحرر الذي يتحدث عنه بودي هو تحرر من دائرة الحياة المغلقة بالميلاد المتكرر، لكنها في نفس الوقت تتطلب التحرر في اللحظة الحالية والمكان الحالي.
يُقصَد بذلك التحرر من المعاناة التي تسببها مشاعر الشوق والرغبة الدائمة في أن تكون الأمور على غير ما هي عليه، واستبدال مشاعر السرور والرضا بها، إذ يربط بوذا دائمًا بين مفهوم معاناة الإنسان وشعوره بعدم الرضا.
بهذا نجد أن وجود نوعين من التحرر (من الميلاد المتكرر والمعاناة) انعكس على وجود نوعين من النيرفانا، فعندما تتحرر من معاناتك في اللحظة والمكان الحاليين، تدخل حالة النيرفانا التي تسمح لك بالاستمتاع ببقية حياتك، وعندما يحين الموت الفسيولوجي تكون هي الميتة الأخيرة التي تغلَق معها دائرة إعادة الميلاد.
بعضهم يرى أن النيرفانا حالة ميتافيزيقية لا يمكن تحقيقها باستراتيجيات محددة، بينما يرى آخرون أنها حالة وعي للعقل للهروب من سيطرة الظروف والأسباب.
تؤدي مراقبة المشاعر بوعي وحضور كاملين للعقل إلى التحكم في تلك المشاعر تمامًا، بدلًا من الاكتفاء بمجرد إبداء رد فعل عليها. فإذا التزم الإنسان بممارسة طقوس التأمل التي تتضمن مراقبة العقل للمشاعر، سيشعر بتحول جذري في علاقته بمشاعره، بحيث يصبح الخيار في يده بالإبقاء على مشاعره الجيدة وتجنب المشاعر السلبية. لكن ذلك في النهاية يتوقف على مدى نجاح الإنسان في تركيز انتباهه على اللحظة الحالية والمكان الحالي، وإسقاط التفكير في المستقبل والماضي من حساباته.
ولأن عقل الإنسان مبرمَج بشكل فطري على الاقتراب من المعاني التي تعكس له الراحلة والمتعة، والابتعاد عن تلك التي تمثل المعاناة والألم، فإن الاستسلام لفكرة الشوق لمسببات السعادة سيجعل الإنسان أسيرًا لمكونات العالم من حوله، فيظل في معاناة دائمة مع ما يتمناه ويطمح للوصول إليه ولا يستطيع. أما بمراقبة مشاعر الشوق بوعي وحضور كاملين، يمكن للإنسان كسر دائرة الرغبة والخروج إلى سعادة مفهوم «غير المشروط» أو النيرفانا.
الوعي الحقيقي والوصول إلى التنوير
الوعي الذي يؤدي لتحرير الإنسان ينبغي أن يتضمن إدراكًا نقديًّا للمشاعر، ما يضع الإنسان على مشارف مرحلة التنوير الروحي.
رغم اتضاح مفهوم النيرفانا إلى حد بعيد، فلا يزال هناك جدل لدى معتنقي الديانة البوذية حول علاقتها بمفهوم «غير المشروط»، إذ يرى فريق أنها حالة ميتافيزيقية لا يمكن تحقيقها باستراتيجيات محددة، بينما يرى فريق آخر أنها حالة وعي للعقل للهروب من سيطرة الظروف والأسباب.
ينبغي الانتباه هنا إلى أن مصير كل أمر مشروط بظروف معينة ويتغير هو تبعًا لتغير تلك الظروف. ويجد المؤمنون في مبدأ «عدم وجود الذات» ضالتهم، فإذا لم تكن النفس إلا التفاعل المستمر مع ظروف البيئة المتغيرة، وهي مكونة من الأفكار والمشاعر والتصرفات وحتى الأجساد، فإن كل ذلك خاضع لظروف تتغير طوال الوقت.
قد يعتقد بعضهم أن المضي قدمًا على طريق التأمل يتطلب وعيًا كاملًا بالظروف والأسباب المحيطة بالإنسان، والتي تتحكم في مصيره، وإدراك أن جزءًا أساسيًّا من هذا التحكم يقع بسبب المشاعر المسببة للشوق وللمشاعر الجيدة والنفور من المشاعر المزعجة، فالوعي الحقيقي الذي يؤدي إلى تحرير الإنسان ينبغي أن يتضمن إدراكًا نقديًّا للمشاعر التي تثيرها المفاهيم والأفكار، والمشاعر التي توجه دفة التفكير، ما يضع الإنسان على مشارف مرحلة التنوير الروحي.
هناك عامل مشترك بين التنوير الروحي في الديانة البوذية، والتنوير في النظريات الغربية القائمة على العلم، هذا العامل هو العلاقة بين السبب والمسبِّب. فالتنوير في البوذية قائم على الوعي بالآليات التي تشكل مشاعر الإنسان وفقًا لمفاهيمه، بينما تروِّج النظريات الغربية لفكرة الوعي بمكونات البيئة المحيطة، التي تسبب تلك المشاعر.
سواء في البوذية أو النظريات الغربية، فإن الهدف الرئيسي من التأمل والوصول إلى مرحلة التنوير التي تمتاز بالسلام الداخلي أن يُخضِع الإنسان جميع قدراته ومشاعره للتحليل المنطقي، الذي يستطيع معه اختيار منها ما يمكنه أن يوصله إلى هدفه من سلك طريق التنوير، وأن يحقق رؤية أوضح للعالم من حوله.