عشاق القرن الحادي والعشرين مهووسون برموز الحب، سواء كانت هذه الرموز أشكالًا كالقلوب، أو دُمى لطيفة المنظر، أو أقفالًا يضعونها على الجسور، أو عروض زواج في الأماكن العامة.
مثلًا، كان على بلدية باريس تخليص جسر الفنون من وطأة 45 طنًّا من الأقفال وضعها العشاق على أسواره، وأحكموا إغلاقها، ثم ألقوا بمفاتيحها في نهر السين، إيمانًا منهم بأن هذه الممارسة الرمزية ستجعل حبهم أبديًّا. لا تزال أقفال الحب معلقة على مبانٍ تذكارية في دول العالم، منها جسور أخرى في باريس، وجسر بروكلين في أمريكا، وأسوار عدة في هاواي وأستراليا.
يستعرض مقال نُشِرَ على موقع «The Paris Review» آراء اثنين من الفلاسفة الكبار حول العشق، هما «فريدريك نيتشه» و«جان بول سارتر»، في ضوء رمزية استخدام الأقفال كتعبير عن الحب الأبدي.
أقفال وخواتم: حب أبدي أم رغبة في التملك؟
تدعونا كاتبة المقال إلى تأمل بعض العادات والرموز التي تعبِّر عن الحب.
أصبحت أحزمة العفة (طوق من الحديد أو الجلد تلبسه المرأة حول خصرها ليمنع اللقاء الجنسي) شيئًا من الماضي، لكن ما زالت هناك أشياء معدنية، مثل خواتم الزواج، نراها من أهم رموز الارتباط والولاء للطرف الآخر في علاقة الحب. ربما كان هذا منطقيًّا، وفق الكاتبة، فالأشياء المصنوعة من المعادن صلبة وثابتة وطويلة العمر، بل إنها تفوقنا في طول البقاء إلى درجة تجعلنا نؤمن بإمكانية وجدود الحب الخالد. معظمنا يريد الحب، ونريده أن يبقى ويعيش، فلا عجب أننا نحاول تكبيله بالسلاسل.
رغم هذا، تبدو تلك الرموز ذات المعاني السامية ظاهريًّا مقلقةً لو تأملنا ما لها من معانٍ أخرى. فإلى جانب كون الأقفال والخواتم باردة وغير مرنة، فإنها بقايا تراث يعكس رغبة في التملُّك، فخواتم الزواج واحدة من العادات المرتبطة بتقديم المهور، وتعبر عن الامتلاك.
قد يهمك أيضًا: الزواج في مصر لمن يدفع فقط
نيتشه: الرغبة في التملُّك سجن الحب
لو كان الفيلسوف الألماني نيتشه بيننا اليوم لأزعجه استمرار هوسنا باستخدام الأقفال للدلالة على الحب، غير أنه لم يكن ليندهش، وفق كاتبة المقال. رأي نيتشه أن الحب «أكثر غريزة ملائكية» يملكها الإنسان، و«أعظم حافز في الحياة». لكن كثيرًا ما يتخذ الحب شكل رغبة طماعة ومنحطة في التملُّك في رأيه، فكثيرًا ما يتصرف العشاق مثل «تنين يحمي كنزًا من الذهب»، أو يعامل الحبيب حبيبه كطائر نادر، أو كشيء ينبغي حبسه لمنعه من الطيران بعيدًا.
قد تعطي السلاسل شعورًا بالراحة مثل الارتماء في أحضان الحبيب، إلا أن نيتشه أرادنا أن نتحرر من القيود التافهة لأساطير الرومانسية، وخصوصًا فكرة حفظ الحب أو ضمان بقائه، فالحب شعور، ومن السخف أن نظن أننا سنظل نشعر بنفس الحب حتى يفرِّقنا الموت، ناهيك بأن نتعاهد على بقائه.
سارتر: الحب مفتاح يكشف شخصية الحبيب
من دون وجود محب يتأمل شخصيتك ويتفاعل معها ويقدِّرها، ستظل جوانب من شخصيتك خافية إلى الأبد.
سخر الفيلسوف الفرنسي سارتر من آراء نيتشه، وكان من أقوى المدافعين عن الحرية الوجودية، أي حرية الإنسان ضد أي لون من ألوان الحتمية، فلا توجد أي ضرورة مفروضة على الإنسان من الخارج، أو مستمدة من الأشياء، أو من أي نظام ديني أخلاقي.
رأى سارتر أن تقبُّل آراء الآخرين بشأن الكيفية التي ينبغي أن نحيا عليها يتطلب نوعًا من خداع النفس، أسماه «الإيمان الرديء». واعتقد أن كل شخص مسؤول عن خياراته في حياته، فلا ينبغي على شخص حر أن يقيد نفسه بأصفاد علاقة قد تتحول إلى سجن غير مريح. حين تلقي المفتاح في النهر، فإنك تلقي معه بحريتك، بينما الحرية تتطلب أن تتوفر لديك إمكانية تغيير مسارك، وإعادة تعريف نفسك، والتخلص من الصور التي يرى الآخرون أنك يجب أن تكون عليها.
الحب يتمثل حصرًا في الأفعال، وفقًا لسارتر. فإذا كان شراء قفل حديدي وتركه مع آلاف من الأقفال الأخرى معلقًا على مبنى تذكاري أمرًا جميلًا وذا خصوصية، فلم يكن سارتر ليعترض عليه، بل ربما راودته شكوك بشأن صدق تلك اللفتة.
أقفال الحب ليست عادة قديمة، فهي تقليعة بدأت في روما عام 2006 بعد أن اشتهر كتاب «Ho voglia di te» (أنا أريدك)، الذي تحول إلى فيلم يضع فيه حبيبان قفلًا حول عمود إنارة على جسر في روما ويلقيان بالمفتاح في نهر التيبر، في إشارة إلى أنهما سيكونان ملكًا لبعضهما بعضًا إلى الأبد.
رمزية القفل قد تبدو مناقضة تمامًا للنظرة الوجودية في ما يتعلق بالحب.
تُعلي الوجودية من قيمة الحرية التامة في التفكير، وتؤكد تفرد الإنسان، فلا وجود للحب «الأبدي» هنا، وبمجرد أن يُلقَى القفل لا يعود هناك مخرج. لكن سارتر رأى الرمز نفسه بشكل مختلف، واعتبر أن العاشق يستطيع أن يفتح الأبواب المغلقة ليحرر ما في داخل حبيبه، فمِن دون وجود محب يتأمل شخصيتك ويتفاعل معها ويقدِّرها، ستظل جوانب من شخصيتك خافية إلى الأبد. تستطيع حميمية المحبين أن تكشف تلك الرغبات وجوانب السلوك المستترة.
قد يعجبك أيضًا: كل الزيجات الفاشلة، تفشل لنفس السبب
سارتر: التملُّك يحول الحب إلى صراع
المشكلة في رأي سارتر أن هذا وهم بالكامل، فلا يوجد أمان على الإطلاق في علاقة الحب الرومانسي. ولأن المحبين أحرار في اختيار دخول علاقة عاطفية، فهُم بالمثل أحرار في الخروج منها، وهذه الحرية هي ما يمنح الأمر معناه، وهي التي تُكسب الحب كل هذه الهشاشة، وهذا هو ما يدفع المحبين إلى دخول في حلقات سادية من ألعاب القوة، فيحاول كلٌّ منهم السيطرة على الآخر، فيتطلبان شكلًا من التملُّك كالذي توفره رمزية تلك الأقفال.
النتيجة أن كل محب يسلب الآخر حريته دون إشباع الرغبة في الامتلاك التي يسعى إليها حثيثًا، ولهذا يستنتج سارتر أن الحب صراع.
تقول كاتبة المقال إنه لا يوجد خطأ في أن نأمل أن يعيش الحب، بل إن الأمل في استمراره هو ما يميزه عن الشهوة.
المحبون، وفقًا لسارتر، يعرِّفون أنفسهم باختيارهم أن يحب كلٌّ منهم الآخر في الحاضر كما في المستقبل. وهذه بالضبط مفارقة الحب: ليس في استطاعتنا أن نعرف ما سنكون عليه في المستقبل، ورغم هذا نختار بحرية أن نلتزم به، فتكبيل أنفسنا في المستقبل تفريط في الحرية.
قد نتساءل: ألا يمكننا أن نتخلى عن الرغبة في أن نكون سلسلة قيد للآخر؟
هذا ما حاولت «سيمون دي بوفوار»، المفكرة والفيلسوفة الفرنسية، الإجابة عنه، فرأت أن أفضل العلاقات هي «الحقيقية»، التي يحترم المحب فيها حرية الطرف الآخر، ويستمر كلٌّ منهما في ممارسة حريته.
تحكي الكاتبة أن سارتر ودي بوفوار ارتبطا بعلاقة مفتوحة، أي أنهما اتفقا على أنهما يريدان أن يكونا معًا دون أن يتعاهدا بعدم مواعدة أشخاص آخرين، وهو خروج صارخ على العادات السائدة آنذاك. رغم هذا طالب كلٌّ منهما الآخر بضمانات أنه سيظل صاحب الأولوية في حياته، الأمر الذي ربما تطلب تضحيتهما بحقوق أخرى.
تقول الكاتبة إن سارتر اعتقد أن التملُّك شيء أساسي في علاقة الحب، وأن التغلب على الرغبة في تملُّك الحبيب قد يُنهي الحب نفسه. لكن رغم هذا، دافع سارتر عن ترك الأقفال واستخدام المفاتيح، فالحب عنده مثل القفز من أعلى الجسر في نهر السين، يتطلب شجاعة لخوض العلاقة دون أن تعرف أين ومتى ستستقر، هذا إذا وصلت إلى الاستقرار أصلًا.
رغم كل هذا، تُذكرنا الكاتبة بأن سارتر ونيتشه أحبَّا الحب، ولو كانا بيننا لدعيانا إلى عدم الاكتفاء منه.