الإقلال: حين نمتلك الوفرة ونُظهر الندرة

الصورة: Getty

تالا العيسى
نشر في 2022/04/04

تنحني امرأة على ركبتيها لتحيك لرجل بنطاله الممزق في ملصق أمريكي يعود إلى العام 1943، بهدف تشجيع المواطنين على التوفير وإعادة استخدام ما يملكونه من لباس، لمساندة دولتهم التي تخوض معاركها في الحرب العالمية الثانية. قبل ذلك بثلاثة عشر عامًا، كانت قد راجت سبل تقشفية مشابهة ولم تكن الولايات المتحدة حينها في حالة حرب، وإنما كانت قد خيمت عليها أسوأ أزمة اقتصادية في القرن العشرين. خلال الأزمة، راح مواطنوها يرشدون استخدام ما يملكون، فيصلحون الثقوب في الجوارب النسائية بدلًا من رميها، ويعيدون استخدام ورق القصدير أكثر من مرة.

واليوم نعيش واقعًا مشابهًا في عدم استقراره، ابتداء من جائحة كورونا التي فرضت علينا أولويات جديدة منذ مطلع العام 2020، وانتهاء بأزمة أوكرانيا التي بدأنا نشهد تداعياتها الاقتصادية منذ شهرها الأول.

من البديهي أن تظهر معالم تدهور الاقتصاد وتزعزع الاستقرار السياسي على ملبس ومسكن الطبقات الوسطى والفقيرة، التي يجري إفقارها عادة خلال الأزمات. ولكن من المثير للاهتمام أن تظهر ملامح التقشف ذاتها على طبقة الأثرياء التي لا تعاني بالضرورة من تدهور الدخل، لا بل أحيانًا على فئات يتضاعف دخلها خلال هذه الفترات، فهؤلاء يمتلكون أمانًا اقتصاديًا بعملات أجنبية تتيح حماية لباسهم وتصاميم بيوتهم من أثر الأوضاع الاقتصادية.

لا يأتي ترشيد الاستهلاك هنا مرتبطًا بالحاجة الملحة للتوفير، بل هو خيار نابع من الكثرة ونية البحث عما هو مستتر خلفها، عن جوهر أو ذات مجردة بعيدًا عن المظاهر والشكليات. لا يبدأ هؤلاء الأشخاص تقشفهم من الندرة، بل من الوفرة التي يتخلصون منها لكي يتمكنوا من تأمل الصفر.

الصورة: ncdcr.gov

من الأمثلة التي تدل على ذلك تجربة سيدة اسمها ماري كوندو، وهي المرأة اليابانية التي أثارت ضجة عالمية بفضل طريقتها في ترتيب الخزانات والبيوت بأسلوب يركز على تقليل المقتنيات. تقوم فلسفتها على مبدأ الحفاظ على «الأشياء التي تخاطب القلوب، والتخلص من جميع المقتنيات التي لا تجلب السعادة».

تبلغ ثروة كوندو ما يقارب ثمانية ملايين دولار، بينما تروج لبيوت شبه فارغة وقلة من المقتنيات. وفي العام 2015، ظهر اسم كوندو على لائحة مجلة تايم للأشخاص الأكثر تأثيرًا، بعد أن حصد كتابها الكثير من القراء في الولايات المتحدة. كتبت كوندو مجموعة من الكتب حول سحر الترتيب، انتشرت في 42 دولة حول العالم، وبيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة.

تبقى التجربة الأبرز التي ضاعفت من شهرتها البرنامج الذي أنتجته شركة نتفليكس عام 2019، والذي تدخل كوندو في كل حلقة منه إلى بيت مختلف، وتساعد ناسه على ترتيبه، وتوديع ما ترى أنه يجب عليهم توديعه من مقتنيات البيت والخزانة «بحب»، والاكتفاء بما تجد أنه يمكنهم الاكتفاء به.

أغنياء يجدون السعادة

التصوير : Getty

خلال الفترة ذاتها التي اشتهرت فيها كوندو، ظهرت أيضًا شخصيات ومبادرات أخرى تدعو إلى العيش بما هو قليل، حتى أنه أصبح من الشائع التباهي بقلة المقتنيات والتنافس على العدد الأقل من الأشياء، ضمن دوائر مهتمة بما أصبح يعرف بـ«فلسفة الإقلال»، وهو نمط حياة قائم على فلسفة تقليل المقتنيات المادية قدر الإمكان. فمثلًا، يعلن الكاتب جوشوا ميلبورن في مقال منشور على مدونته أنه يمتلك 288 غرضًا فقط، في الوقت الذي يحتوي فيه البيت الأمريكي العادي حسب قوله على أكثر من 300 ألف غرض. ورغم ذلك، يعترف جوشوا بأنه يخسر أمام أشخاص آخرين استطاعوا خفض ما يملكونه إلى 47 غرضًا فقط.

اتجه جوشوا مع صديقه ريان نيكوديموس نحو الإقلال في العام 2009، بعدما كانا قد تسلقا السلم الوظيفي وضمنا رواتب وفرت لهما سيارات فاخرة وبيوتًا كبيرة: «كنا نملك كل ما كان من المفترض أن يجعلنا سعيدين»، لكن «رغم كل تلك الأشياء التي امتلكناها، لم نكن مكتفين».

مع الوقت، وجد جوشوا وريان أن الإقلال يمنحهما السعادة، لأنه يساعدهما على إعادة ترتيب أولوياتهما وإزاحة الملهيات الزائفة عن طريقهما، فبدءا يساعدان الناس على العيش بما هو قليل، ويقولان إنهما استطاعا الوصول إلى 20 مليون شخص. يعد الشابان اليوم من رواد الإقلال في الولايات المتحدة، حتى أنهما صنعا فيلمًا وثائقيًا يسرد رحلتهما من الوفرة إلى القلة.

لا تنحصر تجارب الإقلال في الولايات المتحدة واليابان، بل توجد مؤشرات تدل على حضور لهذه الظاهرة في العالم العربي. فهناك مجموعات على فيسبوك معنية بالموضوع، مثل المجموعة الإماراتية Minimalism UAE Minimalist Lifestyle التي تضم قرابة ألف مشارك، ومجموعة أخرى مصرية تسمى Arabic Minimalism - بالعربي: بساطة يتابعها أكثر من 28 ألف شخص.

تتلاقى تطلعات هذه المجموعات مع طرح جوشوا وريان حول ارتباط الإقلال بالسعادة والاكتفاء، إذ تعرّف المجموعة المصرية الإقلال بأنه «أسلوب حياة لتقليل المخلفات وتقليل القلق، يساعد على الشعور بالشكر والامتنان ويساعد على إنك تركز في العلاقات اللي حواليك بدل ما تركز سعادتك في الأشياء اللي بتملكها، واللي سعادتها لحظية مبتستمرش».

يجدر الذكر أنه يوجد مفهومان للإقلال، أولًا: الإقلال كحركة فنية راجت في ستينيات القرن الماضي، وتتسم بالتجرد من الزخارف والتفاصيل ليظهر المنتج النهائي نظيفًا، بسيطًا، نقيًا، يرتكز على هندسيته أكثر من محتواه. مثال على ذلك: الحوائط البيضاء والخطوط المستقيمة.

وثانيًا: الإقلال كأسلوب حياة يحرص على تقليل عدد المقتنيات، وأيضًا كجمالية مرئية تحتفي بما هو خام وإن كان مزخرفا أو متعرجًا. مثال على ذلك: جينز ممزق من كثرة الاستهلاك، أو سقف مقهى مرشوم بأسلاك ومواسير مكشوفة، وكأن التصميم توقف عند مرحلة التصنيع.

وبينما يهتم المفهوم الأول بالجمالية المرئية فقط، يولي المفهوم الثاني اهتمامه بشكل أساسي إلى الاستهلاك والعملية التصنيعية. في بعض الأحيان يتداخل المفهومان ليكملا بعضهما البعض، بحيث يكون المنتج «قليلًا» من الناحية الجمالية وكذلك من الناحية التصنيعية.

في جميع الأحوال، يكمن اهتمامي في هذا المقال بالمفهوم الثاني.

لماذا الآن؟

تصميم زها حديد في الجامعة الأميركية في بيروت 2017. ومن الممكن اعتبار انتشار استخدام الواجهات الإسمنتية غير المقننة في السنوات الأخيرة أحد مظاهر الإقلال - الصورة: Getty

يصعب تعقب تاريخ واضح للإقلال كأسلوب معيشي وذلك لتعدد مسبباته، فهنالك من يمارسون الإقلال بسبب أوضاع اقتصادية حرجة، مقابل آخرين ينطلقون من فكر أو عقيدة معينة، مثل الكهنة البوذيين والهندوسيين الذين يعود نمط حياتهم المقل إلى ما قبل الميلاد. وهناك من يمارس الإقلال من باب المناصرة البيئية، التي بدأت تتشكل بجدية عقب الثورة الصناعية الأولى. 

لكن بغض النظر عن الهدف، ظهرت في العقود الأخيرة مقومات ساعدت على تعميم الظاهرة وتوسيع قاعدة منتسبيها. تطور التكنولوجيا من أهم هذه العوامل، خاصة بعد أن ساعدت السحابة الإلكترونية على إعادة تنظيم مفهومنا عن المساحات الافتراضية. 

لنأخذ الكتب كمثال، فقبل رقمنة الكتب وظهور أجهزة حديثة مثل أمازون كيندل، كان من الطبيعي جدًا أن تستحوذ الكتب الورقية على مساحات ضخمة من مكتباتنا وبيوتنا. أما اليوم، فبفضل الوسائل التكنولوجية الحديثة أصبح بإمكاننا تخزين آلاف الكتب على جهاز واحد لا يتعدى حجمه بضعة سنتيمترات. 

لا أعتقد أنني بشكل عام شخص يتبع الإقلال بحذافيره، ولكن أستطيع أن أجزم أن مقتنياتي عبر السنين قد قلت بكثير، وإن لم يكن ذلك بإصرار واعٍ مني. فلقد وفرت التكنولوجيا بما يشمل ذلك الهواتف الذكية، بديلًا رائعًا للاحتفاظ بجميع الأوراق والمستندات المهمة، خاصة وأنني في مرحلة ما وجدت نفسي أتنقل بين ثلاث مدن وأربعة بيوت، الأمر الذي جعل الاحتفاظ بكم هائل من المقتنيات فعلًا غير عملي.

الترحال إذًا، إضافة إلى التكنولوجيا، يعد عاملًا مهمًا في تقديم الإقلال كحل للمشكلة. فالتنقل يدفعنا لألا نتمسك بعدد كبير من المقتنيات لصعوبة نقلها معنا. ونظرًا لارتفاع عدد المهاجرين في العالم ليصل إلى أقصاه، يبدو أن التنقل أحد الأسباب المنطقية لرواج ظاهرة الإقلال.

الصورة: Getty

طبعًا من المهم جدًا التمييز بين المهاجرين واللاجئين، فرغم حاجة المهاجرين للتخلي عن مقتنياتهم لدواعٍ لوجستية، يجبَر اللاجئون على فعل ذلك لدواعٍ خارجة عن سيطرتهم، كأن تكون الحرب قد دمرت مقتنياتهم، أو أن تكون القوارب التي تنقلهم عبر البحر لا تكاد تسع الأجسام المتراصة عليها. إذًا فالإقلال الذي يتسم به اللاجئون لا يندرج تحت «نمط حياة» أو «أسلوب معيشة»، بل هو حقيقة مفروضة. 

أما على الصعيد الفكري والثقافي، فنجد أن رواج التنمية البشرية وخطاب الصحة النفسية في السنوات الأخيرة قد يكون له صلة مباشرة بظاهرة الإقلال. يحاجج المفكر نيكولاس روز في كتابه Governing the Soul بأن القوى المهيمنة في زمننا الحاضر تتميز بقابليتها لاختراق حواجز الخصوصية، لتتعدى ما هو جسدي ومادي بهدف السيطرة على ما هو أهم وأكثر هشاشة: النفس والذات.

أما الآليات التي يُمارَس من خلاها هذا النوع من القوى فيصفها روز بالـPsy Disciplines، أي المجالات المعنية بالعقل والسلوك، بما يشمل علم النفس والمعالجة النفسية والطب النفسي والتحليل النفسي، والتي يرى روز أنها تنتج أفرادًا واعيين ذاتيًا بكل ما يدور داخلهم، يراقبون أفكارهم ومشاعرهم وكأنهم يرون أنفسهم من الخارج بعيون عقولهم. 

التمحيص بالذات على هذا النحو يعزز تحويل الأنظار من الخارج إلى الداخل بنية البحث عما هو مستتر خلف الماديات، لتكون النتيجة في نهاية المطاف تحقير كل ما هو دنيوي وفانٍ، والوصول إلى استنتاجات نيوليبرالية مثل أن «المال وحده لا يجلب السعادة»، أو أن «الفقراء أسعد من الأغنياء»، أو أن «القناعة كنز لا يفنى»، وهي الخطابات ذاتها التي يتحلى بها المقلون الأغنياء، والتي ليست حكرًا على أفراد مثل كوندو وغيرها، بل تضم كذلك شركات رأسمالية ضخمة مستفيدة من هذا الخطاب، هذا إن لم تكن هي التي صنعته. شركات تسوق لمنتجات تُشعر المشتري بأنه لم يشتر شيئًا، منتجات تكاد تكون لا شيء على الإطلاق.

منتجات شفافة

«مكياج غير مرئي لمثالية مرئية»، هكذا تقدم ماركة جورجيو أرماني خط مكياجها «العاري» (Nude Makeup). في طيات هذا النوع من المكياج تكمن مفارقات عديدة، كونه مكياجًا يهدف إلى إظهار الوجوه وكأنها دون مكياج: No Makeup Makeup Look. لا يقتصر هذا النوع من المكياج على أرماني فحسب، بل بات متداولًا في المحال والمتاجر الكبيرة، حتى أن مجلة فوغ، وهي واحدة من أبرز مجلات الموضة على الصعيد العالمي، صنفت «الوجه المجرد» واحدًا من الأنماط السبعة التي رصدتها في مجموعة الأزياء الخريفية لعام 2020.

يستخدم مروجو هذا المكياج خطاب الإقلال، لكنهم في الوقت نفسه يحرصون على ألا تستغني وجوههم عن المكياج، فينتج عن هذا التضارب سردية تؤكد أن الاستغناء عن المكياج ليس ضروريًا طالما أنه من الممكن وضع مكياج يوحي بأنه مستغنَى عنه. وبالتالي ليس غريبًا أن نجد المصطلحات والأوصاف التي تُلصَق بهذا النوع من المكياج هي ذاتها التي يستخدمها المقلون للحديث عن تفضيلهم لما هو باطني مقابل ما يعتبرونه سطحيًا.

كلمات مثل «طبيعي» و«مجرد» و«خفيف» و«سهل» و«صادق» و«عفوي». في أحد مقاطع الفيديو الترويجية لخط مكياج أرماني Neo Nude (العري الجديد)، تقول إحدى العارضات واصفة المنتج: «إنه مكياج يسمح لي بأن أُظهر أفضل ما يمكن أن أكونه، من دون الحاجة إلى الإدعاء بأنني شخص آخر. أستطيع أن أكون على طبيعتي». أما شركة لانكوم فتقدم مكياجها العاري واصفة إياه بـ«الخفة»، رغم أنه يحتوي على ما يقرب 40 مكونًا.

من جهتها، تؤكد عارضة الأزياء المصرية حبيبة قبرصي في مقابلة مع «منشور» أن بلوغ السهولة والخفة ليس سهلًا أو خفيفًا على الإطلاق. انضمت حبيبة، ابنة الـ24 عامًا، إلى وكالة الأزياء المصرية أون عام 2019، وهي وكالة تفضل الجمال المجرد والمكياج الخفيف، فأعادت حبيبة شعرها إلى لونه الطبيعي بعدما كانت تصبغه بالأشقر، وكفت عن وضع المكياج الثقيل.

اليمين: حبيبة قبرصي بمكياج كامل خلال إحدى جلسات التصوير الحر عام 2018. اليسار: حبيبة بعد استعادتها لون شعرها الأصلي. التُقطت الصورة خلال إحدى جلسات التصوير الحر عام 2019

ورغم تفضيلها الشكل الطبيعي، فإنها لا تنكر مدى صعوبته في عالم الأزياء: «الناس بتشوف الصورة وبتقول: الله! بصوا، مش حاطة مكياج! بصوا شعرها، مش عاملة أي pose، دي بسيطة خالص! بس فعليًا أنا posing، لكن posing بوضعية بتبان إنها مفيهاش مجهود».

تعتبر حبيبة أن الجهد الذي تبذله لتظهر طبيعية أكبر من الجهد الذي كانت تبذله في الماضي، عندما كان وضع المكياج والإكسسوار جزءًا لا يتجزأ من عملها. فالمكياج يخفي التعب والبثور والزوان والجيوب السوداء، أما تصوير الوجه الطبيعي فيكشفها جميعها على الملأ، ما يعني أن العناية الجدية بالبشرة أمر لا بد منه: «لازم أحافظ على روتين معين لبشرتي وشعري. لازم ألتزم بأسلوب أكل معين. الموضوع بيتطلب نمط حياة كامل»، تقول حبيبة في حديثها معنا.

بالإضافة إلى تغيير أسلوب الحياة، يتطلب الوجه الطبيعي من حبيبة الكثير من التمرين: «لازم أقف أتدرب قصاد المراية عشان زوايا الكاميرا. الكاميرا بتاخد الوجه زي ما هو، إنت لازم تسيطري على وجهك على زواياكي. لازم تبقي عارفة أنهي ناحية في وجهك أحلى من التانية. طب أنا لو رفعت وجهي كده، هيبان ازاي؟ طب لو عملت مناخيري كده، هيبقى مثلًا شكل وجهي ازاي؟».

الموضة؟ بضاعة بالية

الصورة: Getty

بالإضافة إلى بيع منتجات «غير مرئية»، تمكنت شركات أزياء أخرى من حجز حصة لها في سوق الإقلال وجوهر الباطن عبر تقديم منتجات تبدو وكأنها بالية أو قديمة.

يؤدي ترشيد الاستهلاك في الكثير من الأحيان إلى إعادة استخدام أغراض وملابس قديمة، لنا أو لغيرنا، نتبادلها مع الإخوة والأقارب وأحيانًا المعارف وغير المعارف. ومن الطبيعي أن تظهر على هذه الملابس علامات تسجل مرور الزمن وماضي الاستخدام، مثل الثقوب أو ضعف الألوان. ولكن، بينما تظهر هذه العلامات كنتيجة لسياق معين عاشته الملابس، «تختلق» شركات الملابس الكبرى هذه العلامات عمدًا لكي تبدو وكأنها عتيقة، وكأن لابسيها أطالوا استهلاكها حتى تهلهلت.

هنا أيضًا، كما المكياج العاري، يحاول مصممو الملابس تعزيز فكرة أن الإيحاء بالإقلال هو الطريق إلى الإقلال. يمكن الاستمرار في شراء الجديد والإحساس به كجديد، طالما أنه يوحي بأنه عتيق ومعاد استهلاكه ومنهك. لماذا ترتدي العتيق طالما يمكنك أن توحي بأنك ترتدي العتيق؟

«ليفايس»، وهي إحدى أكبر شركات الجينز عالميًا، تسوق جينزًا أسود ممزقًا وتحرص على موقعها الإلكتروني أن تؤكد للمشترين أنه «مصمم بهذا الشكل ليبدو وكأنه ملكك من زمان».

كانديل جينير، شقيقة كيم كارداشيان والتي كانت تملك 16 مليون دولار، عند ظهورها بفستان ممزق خلال إحدى فعاليات الأزياء عام 2016

وعلى الصفحة ذاتها، تحضر قصة اختراع شركة ليفايس للجينز عام 1873، ليكون سروالًا مخصصًا للعمال. سعى تصميم الجينز وقتها إلى تحمُّل التمزقات الناتجة عن العمل الشاق في الحقول وفي المناجم: «هكذا كان الأمر، إلى أن أصبحنا نمزقها عن قصد».

هذه المبادرة لا تقتصر على ليفايس طبعًا، أو الجينز بخصوصية تاريخه العمالي، فمجموعة غوتشي للعام 2019 تشمل أحذية تبدو بالية يصل سعرها إلى 870 دولارًا، والأمثلة في هذا السياق كثيرة.

في كتابه «Privilege»، يروي شاموس رحمان خان عالم الاجتماع الذي درس في واحدة من أكثر المدارس نخبوية بالولايات المتحدة خلال تسعينيات القرن الماضي، كيف كان الطلاب الأكثر ثراء في مدرسته يرتدون أحذية قديمة ويربطون تمزقاتها بشريط لاصق، رغم أنهم يملكون ما يكفي من المال لاقتناء شركة أحذية بأكملها: «وحدهم الطلاب الأكثر ثراء كانوا يفعلون ذلك، وكان ذلك يبدو كمؤشر على عدم وجود أي هموم تقلقهم»، حسبما يكتب خان، مضيفًا أنه «كان باستطاعتهم التحرك كيفما يحلو لهم، فثراؤهم يحميهم».

شاموس خان يلقي كلمة في الذكرى 25 لمهرجان شيكاغو للعلوم الإنسانية.

يظهر الإقلال اليوم في أشكال عدة متناقضة: ففي بعض الدوائر يقدم حلًا للتوفير الاقتصادي، أما في دوائر أخرى نجده يعطي معنى أعمق لحياة مليئة بالمقتنيات. ونظرًا إلى أن النظام الرأسمالي يتميز بقدرته على احتواء مضاداته، أصبح الإقلال منتجًا استهلاكيًا يمكن المتاجرة به، هذا إن لم يكن النظام الرأسمالي هو محرك الظاهرة من الأساس.

تتعدد طرق التسليع، ولكن أشهرها يبقى بيع منتجات غير مرئية لإشعار المشتري أنه لا يستهلك شيئًا، ناهيك بالمنتجات البالية التي تتيح للمرء أن يوحي بأنه يرتدي قديمه.

وبما أن الإقلال صار موضة قابلة للاستهلاك، يبدو أن علينا تغيير السؤال من «هل يبدو عليه الثراء؟» إلى «ماذا يملك؟». فمن غير الدال أن يمتلك مارك زوكربيرغ تيشيرت أسود واحدًا يجدده مرة في السنة، طالما أنه يمتلك 86 مليار دولار قابلة للتجدد في كل سنة.

مواضيع مشابهة