كُتبت هذه المقالة باللغة الإنجليزية، وترجمها أحمد جابر.
تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لرحيل ناصر الظفيري. بالنسبة لأولئك الذين لا يعرفون من هو ناصر الظفيري، فهو روائي من مجتمع البدون في الكويت، هاجر هو وعائلته إلى كندا عام 2001 بحثًا عن المواطنة، وقبل ذلك عن التقدير لإنسانيته.
غادر الظفيري الكويت التي أحبها من كل قلبه تاركًا وراءه الكثير من الذكريات وجهراءه الحبيبة والأشخاص الذين نشأ معهم. ورغم رحيله لم تغب الكويت عن ذهنه أبدًا، فكتب روايات ركزت على الهوية والمواطنة والانتماء، من خلال ما قصه عن شخصيته التي وضعها في السياق الاجتماعي والسياسي للكويت، لا سيما في ما يتعلق بالبدون، مثل «سماء مقلوبة» و«المسطر» و«كاليسكا» وغيرها، وذلك كشكل من أشكال سرد القصص للتصدي للروايات التاريخية السائدة، التي غالبًا ما تمحي تاريخ البدون أو تحوره لتجعل من إقصائهم وإخضاعهم أمرًا ممكنًا ومستمرًا حتى يومنا هذا.
كبدون، هاجرتُ إلى كندا في سن الحادية عشرة، ونشأت هناك لسنين قبل تحول حياتي إلى حياة متقطعة بين الكويت وكندا.
وجدت نفسي في كتابات ناصر، إذ إن الكثير منها يحاكي تجارب حياتي الشخصية، وكذلك لأنه من البدون الذين يعيشون في الشتات. نعم، أسميهم البدون في الشتات لأن هناك مجموعة كبيرة من الذين نُفوا من الكويت ومن لم يُسمح لهم بالعودة إليها، وكذلك الذين هاجروا إلى بلدان مختلفة بحثًا عن المواطنة. من الصعب أن يقرأ أي بدون في الكويت أو مهاجر روايات الظفيري دون الارتباط بالشخصيات التي يجسدها، ولذلك ألهمني ناصر من بين العديد من الكتاب، ولذلك أكتب عنه اليوم.
روايات الظفيري وواقع متنوع للبدون
كرس ناصر حياته وقلمه لإعادة كتابة التاريخ وتوثيق الحقائق وإفساح المجال لصوت البدون. كانت قضيته النبيلة، وكان ملتزمًا بمتابعتها حتى نهاية حياته، واستمر في الكتابة رغم معاناته مع السرطان في السنوات الأخيرة من حياته. فكما لم تقطع الهجرة إلى كندا مسيرة كتابته التي بدأها في الكويت، لم يتمكن المرض من أن يوقف قلمه، إلى أن جاءت الهجرة وتوسع منظوره عن واقع البدون.
كتب في بداية مشواره عن هجرة البدون، وكانت قصصه مثل «سماء مقلوبة»، التي تنتهي باحدى الشخصيات جالس في طائرة بانتظار الطيران إلى حياة مجهولة، تصور معاناة البدون مع المجهول، وربما في ذلك الوقت استطاع ناصر أن يتخيل هجرة البدون حتى نقطة المغادرة، وأن الخلاص الوحيد من الواقع الذي يعيشونه في الكويت هو الرحيل، ولكن ما يأتي بعد الهجرة غالبًا في النسيان وغير مذكور في الحديث عن البدون بشكل عام.
في ملاحظاتي على مدى السنوات الماضية للمناقشات والدفاع عن حق البدون في المواطنة، وجدت أن هناك رواية واحدة تهيمن على المشهد، تصور البدون على أنهم مجموعة من الفقراء وغير المتعلمين والأميين، والعاطلين عن العمل وغير المتزوجين الذين يحتاجون إلى من يخلّصهم. كان هناك اهتمام بالضرر الذي يواجهه الكثير من البدون نتيجة إقصائهم من قبل الدولة وحرمانهم من حقهم في المواطنة والحقوق المترتبة عليها، وكذلك نتيجة للتسلط والطبيعة التعسفية للجهاز المركزي في تعامله مع البدون في السنوات الأخيرة.
وفي حين أن الكثير منها صحيح ويجب ألا نقلل من شأنه بالتأكيد، لكن تبقى هناك حقائق وتفاصيل أخرى في حياة البدون لا نعرفها، وربما أحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك أن معظم الذين تحدثوا عن قضية البدون لم يعيشوا هذه الحقائق، أما الذين يعيشون فيها فإما أنهم لا يملكون المساحة، أو يفضلون الهدوء بدلًا من مواجهة العواقب.
من السهل رؤية البدون الذين يبدون مختلفين وكذلك تقسيمة «المواطن والآخر»، لأن هذا الموضوع انعكاس لكل ما هو «غير مواطن». وكما أن التعرف إلى البدون من زاوية واحدة أو من خلال الصورة النمطية ليس أمرًا صعبًا، فإنه لن يكون مخيفًا أيضًا، لأن هذا المنظور لا يتعارض مع التاريخ الذي نشأ كثيرون وهم يتعلمونه، وكذلك لأنه لا يتحدى الهوية الوطنية التي تشكلت على أساس استبعاد الآخر من جميع جوانب ومساحات الحياة التي يتمتع بها المواطنون الكويتيون.
لكن ظن البعض أن مشاركة المواطنة مع البدون تشكل خطرًا على الهوية الوطنية ناتج عن أمرين:
- أنهم يعتقدون أن هناك هوية واحدة للجميع (وغالبًا تكون مرآة لهويتهم الاجتماعية)، وبذلك يجب على الجميع أن يتشبه بها كي يُحسب كمواطن
- عدم الاعتراف بالتداخل الاجتماعي والثقافي للبدون كجزء من المجتمع الكويتي، وهذا ناتج عن عدم وجود تمثيل لتنوع البدون
والنقطة الأخيرة تسهل على الناس أن يشعروا بالشفقة، لأنهم لا يستطيعون رؤية السمات المشتركة أو التجارب المشابهة لكي يدركوا أنه كان من الممكن أن يكونوا هم أصحاب المعاناة، من الصعب رؤية البدون حولهم في نفس مكان العمل أو المدرسة أو المطعم الفاخر أو عند نفس إشارة المرور. نعم، يشترك العديد من البدون في هذه المساحات أيضًا، لكن يصعب التعرف عليهم عندما لا يتناسبون مع الصورة النمطية التي تجسد البدون بكل ما هو مهمش.
لست في محل الكتابة عن جميع البدون ومختلف تجاربهم وحياتهم، بل ويستحيل ذلك، ولا أريد تلخيص الروايات لأجعل كل قارئ يكتشفها ويتعرف إلى كتابات ناصر الظفيري بنفسه. ولكن ما أوده (ولا أكثر في هذه اللحظة) هو معرفة أن هنالك ضررًا أكثر من الفائدة للرواية الواحدة التي تشكل صورة نمطية للبدون، والتي مثل التاريخ الرسمي تزور واقع الكثير من البدون وتمحو تنوعهم الذي يعكس تنوع المجتمع الكويتي، وتلونهم بفرشاة واحدة كمقيمين بصورة غير قانونية.
منذ بضعة أيام كنت أتحدث مع أحد الزملاء القدامى الذي أخبرني أنه اكتشف مؤخرًا فقط أن صديقه بدون، رغم أنهما قضيا كل وقتهما معًا تقريبًا طوال أكثر من 20 عامًا، ولم أفاجأ بذلك في الحقيقة، فبعض البدون يعيشون مثل المواطن، لكن يخبئون الجوانب البدونية من حياتهم، وأنا كنت واحدة منهم، فقد أكملت برنامج البكالوريوس كاملًا في واحدة من أغلى الجامعات البرجوازية الخاصة في الكويت دون الإعلان عن هويتي، وتمكنت من إخفاء أي دليل عليها بسهولة رغم أن بعض أصدقائي المقربين اكتشفوا في النهاية. لقد شكُّوا، وأنا أكدت لهم شكوكهم.
مقاومة نسخة مختلفة
أحد أكثر الردود التي تلقيتها من الناس حين يكتشفون أني «بدون» (علمًا بأني لم أعد كذلك من الناحية القانونية، ولكن لم أزل اجتماعيًا وسياسيًا) أنهم يعتقدون أني «لا أبدو بدون». لم أكن متأكدة من كيفية الرد على ذلك. كان الأمر أكثر إثارة للاهتمام عندما يسمعوني أتحدث الإنجليزية باللهجة الكندية، وكانوا يسألون: «كيف تتحدث الإنجليزية بهذه الطريقة الجيدة؟».
بالطبع، في الوقت الذي اعتدت فيه إخفاء هويتي، أخفيت أيضًا قصة الهجرة بأكملها. لم يعرف أحد أني كنت أعيش في كندا، لأن ذلك يعني تلقائيًا أني كنت هناك من أجل الحصول على الجنسية، فلماذا يضطر كويتي للهجرة إلى هناك؟ لذا، احتفظت بها لنفسي.
راوغت أكبر عدد ممكن من الأسئلة، ويجب أن أعترف كم كان مضنيًا أن أخفي أجزاء من نفسي. ولكنه كان أيضًا نتيجة للشعور بالعار الذي يُغرس في البدون منذ ولادته، والوصمة الاجتماعية التي ترعاها الدولة.
استغرق مني الأمر سنوات حتى استطعت أن أتصالح مع هويتي وأفهم تاريخي، لكني ما زلت أعاني من فهم موقع هجرتي وحياة الشتات التي أعيشها من هذا التاريخ. تمكنت فقط من العثور على روايات تتحدث عن حياة البدون في الكويت، وبينما أعطاني هذا بعض الإجابات على نصف قصتي، ظل النصف الآخر قيد المجهول.
كان الأمر كما لو أن البدون الذين هاجروا بطريقة ما لم يعودوا بدون: كما لو أنه نُسي هذا الجزء من هويتهم، أو افتُرض أنه لم يعد يشكل جزءًا من حياتهم بعد مغادرة الكويت، أو أنه بمجرد أن يصبح البدون مواطنين في دول أخرى تنقطع صلتهم بالبدونية.
لكن ماذا يعرف الناس عن هذا؟ أسمع اتهامات بأن البدون في الخارج نسوا تاريخهم ومجتمعهم من البدون في الكويت، وأنهم يعيشون حياة امتياز ولا يستخدمون هذا الامتياز لتقديم المساعدة إلى البدون المحاصرين في عدة جوانب من الحياة في الكويت، أو أنهم هربوا من الحقائق القاسية التي يعيشها مئات الآلاف من البدون المنسيين. لكن هل هم كذلك؟ إذا تركنا جانبًا أولئك الذين عادوا إلى الكويت كأجانب بعد حصولهم على جنسية دول أخرى، فهل حقًا نسي البدون في الشتات الكويت والبدون هناك؟
بالنظر إلى أنه كان يسكن في أوتاوا، فإن معظم قصصه عن البدون في الشتات حدثت هناك. لقد كان قادرًا على توضيح الحقائق بالطرق التي عاشها هو نفسه والآخرون الذين عرفهم عن كثب، بتجسيدها من خلال شخصياته.
عبّر ناصر في روايته «كاليسكا» عن الإحساس المرعب بالنفي والتشرد الذي عاشه بطل روايته «عواد»، الذي غادر الكويت بعد قصة حب قاسية انتهت بالقوة، مما أدى إلى نفيه لينتهي به المطاف في كندا. لم يكن عواد قادرًا أبدًا على الكف عن الالتفات إلى الماضي والمضي قدمًا في حياته الجديدة، بل استمر في العيش مع مشاعر الحب نحو حبيبته السابقة، حتى بعد أن التقى امرأة أخرى في كندا، وهي التي أحبته لكنه لم يتمكن من مبادلتها الحب لعدم قدرته على النسيان.
في هذه الرواية كان ناصر يحاول التعبير عن صعوبة التمزق بين مكانين، وطنين، وعدم العثور على السلام في أي منهما، كما عبّر عن تعلق البدون بالكويت والذكريات التي يحتفظون بها حتى بعد الهجرة، وصعوبة الاستقرار في «أوطانهم الجديدة» ونسيان الماضي والبدء من جديد. لقد عبّر عن حقيقة قاسية للغاية يعيشها الكثير منا في الشتات.
الجحيم: أن نُدفن في الثلج
كتب الظفيري على تويتر: «الكويت أحببتها ولم أتزوجها، وكندا أحبتني وتزوجتها. أحب الكويت أكثر من كندا، وتحبني كندا أكثر من الكويت. هذا تعريفي للجحيم».
صور ناصر جزءًا كبيرًا من واقع وتجارب بدون الشتات الذين هم من جيله. أقول هذا لأن هناك جيلًا ثانيًا على النحو الذي ذكرته، والآن هناك جيل ثالث من البدون في الشتات في مختلف أنحاء العالم، لا تزال قصصهم غير مكتشفة وغير موثقة، وهذا ما أكرّس بحثي وكتابتي الأكاديمية للتطرق إليه.
رأى الظفيري هذه الحقائق من خلال عدسة الجيل الأول من البدون في الشتات، ومع ذلك تجاوزت كتاباته الحدود الزمانية المكانية التي تجاهلت التاريخ والقصص المتنوعة للبدون على مدى الستين سنة الماضية. تحدى روايات الجانب الواحد، ولعبت قصصه دور الشاهد على تاريخ البدون، إذ وثق التجارب الاجتماعية الجماعية من خلال القصص الفردية، القصص المنسية والمزورة بالتاريخ الذي يعلمونه. هذه القصص تعمل كأداة لتمكين وربط البدون عبر المكان والزمان، وخلق مساحة لأولئك الذين يعيشون في الشتات للتواصل والتقارب وإيصال الصوت.
كنت أنوي لقاء ناصر الظفيري بخصوص بحثي، فقد كنت مغرمة جدًا بكتاباته. كان صديقًا مقربًا جدًا لوالدي، ولكن من المدهش أني لم أقابله شخصيًا من قبل. لقد هز اليوم الذي توفي فيه مشاعر مجتمع البدون في الشتات، وأثار سيلًا من مشاعر الخوف والقلق تجاه حياتهم غير المستقرة.
«لا تتركني أموت غريبًا هنا. حين أموت أعدني إليهم، إنهم أهلي وأريد أن أُبعثَ في قيامتي معهم» - ناصر الظفيري، رواية «المسطر».
العدالة ليست في الاعتراف بفئة كاملة في وقت الحاجة، بل الاعتراف بالجميع (بكل أنواعهم) في أوقات الراحة.
تمكنت من التعرف إلى ناصر من خلال الروايات. ورغم أنه لم يتحدث أبدًا بصوته الفردي، فإنه بالتأكيد عبّر عن بعض تجاربه الخاصة من خلال بعض شخصياته، بالإضافة إلى أنه تحدث معي من خلالهم.
لعل ما يشهده العالم حاليًا من خطر الوباء قد كشف جوانبًا مهمة من قضية البدون من المهم الاطلاع عليها وربطها بتاريخ نشأة وتطور القضية، وهي كيف يُصور البدون في القصص والتاريخ. اليوم يُحتفى بدور الأطباء والممرضين البدون ضمن الصفوف الأولى لمواجهة الوباء، الخوف فقط أن يُنكَر دورهم عندما يحتاجهم وطنهم الكويت كما أُنكِر آباؤهم وأجدادهم من قبل، بل وزُيف تاريخهم كذلك.
ناصر وثق التاريخ كما كان للبدون في الرواية، كشاهد على الحقيقة. يجب علينا ألا نسمح للتغيير المفاجئ تجاه البدون الذي نتج عن ظرف طارئ بأن يغطي على الواقع الذي يعيشونه. العدالة ليست في الاعتراف بفئة كاملة في وقت الحاجة، بل الاعتراف بالجميع (بكل أنواعهم) في أوقات الراحة.
كتب ناصر الظفيري عن حياة البدون من منظور البدون، كأننا نحن من كتبنا. وأنا اليوم أدعوكم لقراءة قصصنا، مكتوبة منا، ولنا في الرواية، لتتعرفوا إلى أكثر من واقع عن البدون.