في كتابه «عالم جامح: كيف تعيد العولمة تشكيل حياتنا»، يتحدث «أنتوني جيدنز» عن آثار العولمة وكيف تعيد تشكيل عالمنا، ويذكر بشكل عارض (ويا للأسف) أن إنسان العولمة يعيش في عالم «ما بعد الطبيعة».
توقفتُ كثيرًا عند المصطلح، تمنيت لو استفاض، وجدت نفسي أسترجع قراءتي مؤخرًا للكلاسيكية العالمية «هايدي» لـ«يوهانا شبيري»، أقرأها للمرة الأولى، وبترجمة كاملة للقديرة بثينة الإبراهيم.
كانت قراءتها شيئًا يشبه التذكر، لأنني، لحسن الحظ، أنتمي إلى ذلك الجيل الذي اكتشف هايدي وبيتربان وسندباد وشيرلوك هولمز وروبنسون كروزو من خلال مسلسلات وأفلام الكرتون، وصارت جزءًا من ذاكرته. جيل ثُقف دون أن ينتبه، ودون أن يبذل جهدًا يُذكر من أجل أن ينتسب إلى هذا النسيج العالمي، الذي يشد إنسانًا إلى أخيه.
جيل مبارك بأخوة من طراز مختلف، بدت لنا في ذلك الزمن من قبيل البديهيات، ولكنني أنظر اليوم إلى عالم أطفالي الخالي من تلك المتون الكلاسيكية وأعي كم كنت محظوظة، وكم عليهم أن يبذلوا من جهد لكي يجدوا أنفسهم امتدادًا لذاكرة العالم.
ولكنني أريد الكتابة عن هايدي.
عن إنسان «ما بعد الطبيعة»، بحسب جيدنز
عندما قرأت هايدي، فوجئت بالتلال، والعشب النديّ، وأشجار التنوب، والأزهار البرية الزرقاء، وسمعت ثغاء الماعز، وشممت رائحة الحليب، وفُتنت بمشهد صناعة الزبدة. كنت أتذكر طفولتي في شكلها البكر، مثالية وافتراضية كما ينبغي، طفلة حافية وماعز وعشب. لا شيء آخر يهم، ولا شيء يُغني عن ذلك الشعور بكونك تعيش متناغمًا مع العالم كما أوجده الله.
فكرة يبدو أنها تصبح في كل يوم أكثر تعذرًا، لأن إنسان ما بعد الطبيعة صار مضطرًا للخروج بسيارته (أو بالطائرة ربما) مئات أو آلاف الكيلومترات لكي يلتقي البحر، ويتنشق الغابة، ويرى النجوم.
عندما تقرأ عن الطفلة المقعدة التي ذهبت لزيارة الجبل فتمكنت، أخيرًا، من النهوض عن كرسيها المتحرك ولمس العشب بباطن قدميها، ورغم غياب التفسيرات العلمية والعقلانية التي نحبها كثيرًا، فإنك تصدق الأمر ببساطة.
إنه لا يبدو مستحيلًا ولا خارقًا، بل «طبيعيًا» ببساطة
الأمر نفسه حصل مع الولد العليل، الذي قيل له طوال حياته بأنه يحتضر، سيكبر بحدبة في ظهره، ولن يعيش إلا سنوات قليلة في سريره، الشمس تؤذيه، والجراثيم تتربص به في كل مكان. مربيته، التي تصرُّ على أنها الشخص الوحيد الذي يحبه ويسعى لمصلحته، تعمل على حبسه من أجل مصلحته.
ذلك الصبي، الذي نجده محبوسًا في قصر في رواية «الحديقة السرية» لـ«فرانسيس هودسون برنيت»، تستدرجه طفلة دخيلة على عالمه إلى الخارج، لكي يلمس الأشجار ويرى طائر أبي الحناء ويكتشف حديقة أمه الخبيئة. هو أيضًا، مثل كلارا في رواية هايدي، استطاع أن يمشي، وأن يركض، وأن يمزق حجب الوهم بكونه وُلد وسيموت عليلًا وأحدب.
كنا نعود دائمًا إلى الكوخ الجبلي ونؤْثر أن نرسمه على أي شيء آخر، كأنه بيتنا نحن، كأننا ما غادرناه قط.
إننا لا نستطيع أن نعي حجم الخسائر التي تكبدناها عندما انفصلنا عن الطبيعة. أقول لا نستطيع، لأننا ببساطة لن نتذكر. نحن جيل الأسفلت المسلح، مدن الإسمنت، والسيارات السريعة، وناطحات السحاب، والتلوث الضوئي، والهواتف الذكية، وتطبيقات التواصل الاجتماعي بسعارها المجنون نحو إثبات وجود هش وعديم المعنى. نحن جيل ولد ببوصلة مكسورة، ولا يستطيع أن يتذكر العالم قبل الانفصال عن الطبيعة. مثل بطل جورج أورويل في «1984» الذي يريد أن يتذكر: هل كان العالم قبل الثورة أفضل، أم أنه بالسوء نفسه؟
مع ذلك، ففي حصة الرسم، وفي كل حصة فراغ في المدرسة، كنا نرسم ذلك الكوخ أعلى الجبل، وثلاثة من أشجار التنوب العملاقة، ولا ننسى النافذة المستديرة في العِلِّية حيث سرير هايدي المصنوع من التبن.
في مكان ما، كنا نعود دائمًا إلى الكوخ الجبلي ونؤْثر أن نرسمه على أي شيء آخر، كأنه بيتنا نحن، كأننا ما غادرناه قط. وكانت معلمة الرسم تأتي في نهاية الحصة لتختار اللوحات التي تعلقها، لوحات ينسخ بعضها بعضًا من فرط التشابه. لم يرسم أيُّنا بيتًا إسمنتيًا بثلاثة طوابق، بسور عالٍ، في حي سكني. لقد كنا نعرف منذ البداية أن البيت الحقيقي موجود في أعلى الجبل، وكلاهما موجود في رواية.
يشبِّه «راي برادبري»، في كتابه «الزن في الكتابة»، الفنانين والشعراء بطيور الكناري المحبوسة في مناجم الفحم. كان صمت تلك الطيور هو المؤشر على ارتفاع نسبة الكربون في هواء المنجم، وعلى ضرورة أن يغادر الرجال المكان إلى سطح الأرض لكي يعبُّوا من الهواء النظيف، وكانوا يعرفون أنهم لو تأخروا، فقد يموتون جميعًا.