لم تفهم خديجة ما الذي يدور حولها، فقد كانت تتناول وجبة الغداء قبل ساعتين مع زوجها، والآن هي داخل سيارة الإسعاف في طريقها من العيادة إلى المستشفى لإجراء عملية ربط عنق الرحم، وهي عملية تُجرى في الشهر الرابع من الحمل لإنقاذ الجنين في الحالات التي تتعرض فيها الأم لخطر الولادة المبكرة لطفل غير مكتمل النمو.
لم تكن هناك علامات على أن الحمل سيؤدي إلى نتائج سيئة، ففي ذلك اليوم شعَرت خديجة بآلام بسيطة لكنها قررت تجاهلها، لظنها أن ما تمر به يحدث بسبب تقلصات طبيعية ناتجة عن تمدد عضلة البطن.
ذهبت إلى العمل مثل أي يوم آخر، لكن بعد ثماني ساعات بدأت تشعر بتصاعد الآلام بشكل متسارع فقررت زيارة عيادة الطبيب، وهناك اشتد الألم على خديجة وبدأت في النزيف، وبعد الكشف تبين أن جسمها كان يمر بتقلصات الولادة منذ ثلاثة أيام دون علمها.
كانت تلك هي اللحظة التي قررت فيها إجراء عملية ربط عنق الرحم لتثبيت الجنين، و بعد مرور 11 ساعة على زيادة تقلصات الولادة، اضطرت الطبيبة إلى صرف النظر عن عملية الربط والاستعاضة عنها بالولادة المبكرة.
كم جنينًا يفقد العالم؟
كان أكثر شعور سيئ مررت به في حياتي، لأني لم أستطع إنقاذ أطفالي من جسد أمهم الذي رفضهم.
وفقًا لإحصائيات أجرتها منظمة الصحة العالمية عام 2015، يولد 18.4 جنين ميت بين كل ألف حالة ولادة طفل مكتمل النمو في العالم، 98% منها تحدث في الدول النامية أو متوسطة الدخل، إذ تبلغ نسبة ولادة جنين ميت عند المرأة الإفريقية بالتحديد 24 ضعف النساء في الدول ذات الدخل العالي، ويموت الجنين لأسباب متعددة، منها مضاعفات الولادة والشذوذ الكروموسومي.
يقدَّر عدد النساء اللاتي تعانين اكتئاب ما بعد فقدان الجنين بنحو 4.2 مليون امرأة، بحسب تقرير نشرته مجلة «لانسيت» العلمية، كما أن وصمة العار المرتبطة بالعائلات التي فقدت أجنتها مبكرًا، وتجنُّب الحديث عن ما وقع، تُضاعف من صدمة الفقد وتُعيق الوقاية من حدوث مزيد من الحوادث في المستقبل.
تقول المسؤول عن دائرة الأسرة والمجتمع في منظمة الصحة العالمية، الدكتورة «فلافيا بوستريو»، إن «كثيرًا من حالات الإجهاض تظل خفيَّة لأنها لا تُسجَّل ولا يُنظر إليها كإحدى المشكلات الصحية الرئيسية، غير أنها تمثل خسارة مفجعة بالنسبة إلى النساء والأسر، ولا بد لنا من الاعتراف بتلك الخسائر وبذل قصارى جهدنا للحيلولة دون حدوثها».
التعامل مع صدمة الفقد: «قتلت أبنائي بنفسي»
في الأسبوع الواحد والعشرين من حملها، خسرت خديجة جنينيها التوأمين اللذين كانت تنتظرهما بعد رحلة علاج مكثفة في خطتها سعيًا للحمل. شعرت بقلة الحيلة، خصوصًا أن جسدها خذلها بدفع التوأمين خارجه، وكانت تلك خسارة مضاعفة، لأنها كانت تختبر فقدان شخص قريب منها للمرة الأولى.
«لم أفهم كيف خسرتهما، كنت أشعر طَوَال الوقت بحركاتهما ونبضهما داخل بطني. لقد كان طفلاي حييَّن في اللحظة التي اختار فيها جسدي التخلص منهما. كان أكثر شعور سيئ مررت به في حياتي، لأني لم أستطع إنقاذ أطفالي من جسد أمهم الذي رفضهم».
تنظر بعض النساء إلى خسارة الجنين على أنها إخفاق لها كامرأة.
بما أن صلة الأم مباشرةً بجنينها واهتمامها بنفسها يؤثر عليه طَوَال فترة الحمل، فإن ذلك يجعلها تلقي باللوم على ذاتها عندما تتعقد الأمور ويقع مكروه للجنين.
تشرح الطبيبة الأمريكية والكاتبة «مارثا دايموند» ذلك الشعور فتقول: «تحاول المرأة إيجاد سبب كي تلوم نفسها لاستيعاب ما حصل، مع أنه ليس خطأها، فتعذب نفسها بفكرة الذنب واللوم، وتعيد كتابة حادث فَقْد الجنين في ذهنها بحيث تنسب الخطأ إلى نفسها في كل مرة، كأن تقول إنها لو لم تذهب إلى السوق ذلك اليوم لما حدث ما حدث، أو إنها لو لم تسهر حتى الصباح لما فقدت الجنين. إنها إحدى الطرق الكثيرة للتعامل مع الألم».
يأخذ بعض النساء حادثة فقد الجنين إلى أبعاد أعمق من مجرد عقدة الذنب، وتنظر إلى خسارتها للجنين على أنها إخفاق من جسدها في إكمال وظيفة طبيعية من وظائف المرأة، وبالتالي تجد نفسها أقل أنوثةً بالمقارنة مع سواها من النساء اللاتي لم تخذلهن أجسادهن في تحقيق وظيفة طبيعية.
تحكي خديجة لـ«منشور» عن تجربة فقدان جنينيها التوأمين: «شعرت بأني قتلت أبنائي بنفسي، كان أسوأ شعور خالجني في حياتي، لدرجة أني لم أرغب في رؤيتهما بعد الولادة ثم ندمت على ذلك لاحقًا، لكني حينها لم أعرف ما الذي سأشاهده».
«رغبتُ في الصراخ بعد القيام من التخدير من هول الأمر، لكني أردت أن أبقى قوية، كما أن الانهيار لن يهوِّن من الأمر أو يعيد الطفلين إلى الحياة، فتحاملت على نفسي ورفضت مشاهدتهما، وتركت موضوع إجراءات الدفن لزوجي».
«لا أحب كلمة الإجهاض»: لماذا يولد جنين ميت؟
تحاول خديجة صياغة تجربتها بإيجاز، فتقول: «لا أحب كلمة الإجهاض فهي غير لطيفة، أفضِّل أن أسمي ما مررت به ولادة جنين ميت (Stillborn)»، رغم أن المصطلح الإنجليزي الذي استخدمته يعني أن الجنين يولد ميتًا عند أو بعد إتمامه 24 أسبوعًا في بطن أمه.
يشيع استخدام كلمة الإجهاض عند الحديث عن الوفاة المبكرة للجنين، إلا أن المفردة الصحيحة هي الإملاص، وتعني في اللغة ولادة الجنين في موعده المحدد ميتًا، وهي الكلمة الصحيحة التي تستخدم لوصف حالات دفع الجسم للجنين الميت، لكن على ما يبدو أن الناس لا يجدونها معبرةً، لذا نستخدم في هذا الموضوع كلمة «الإجهاض».
بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية، تكون حالات الإجهاض ووفيات الوِلْدان (موت الطفل حديث الولادة قبل بلوغه 28 يومًا) فاجعةً بالنسبة إلى الأمهات المُتضرِّرات وعائلاتهن، لكنها تبقى شائعة في البلدان النامية. وتحدث جميع الحالات تقريبًا، المُقدَّرة بثلاثة إلى أربعة ملايين حالة إجهاض وثلاثة ملايين حالة وفيات وِلْدان، في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
يحدث الإجهاض لخمسة أسباب رئيسية: مضاعفات الولادة، والالتهابات التي قد تتعرض لها الأمهات في أثناء الحمل، والاضطرابات التي تصاب بها الأم الحامل (خصوصًا تسمم الحمل ومرض السكَّري)، وتوقف نمو الجنين والتشوهات الخلقية (الشذوذ الكروموسومي).
اكتئاب ما بعد الإجهاض: «لا ضمان لاستمرار الحمل»
تقول الاستشارية النفسية «كريستيان مانزيلا» في إحدى مقالاتها على موقع «سايكولوجي توداي»: «من المعروف أن الحزن جرَّاء فقدان الجنين أمر طبيعي وصحي. تتمكن بعض النسوة من تجاوز الألم الجسدي والعاطفي سريعًا، بينما تحتاج أخريات إلى فترة أطول للتعافي قد تمتد إلى أشهر أو حتى سنة، ورغم أن جميع النساء يتجاوزن مرحلة الحزن تدريجيًّا، إلا أن فقدان الطفل يكون خسارة تحملها المرأة معها إلى الأبد».
حتى بعد التعافي، تظل المرأة عرضةً للاكتئاب والقلق في السنوات اللاحقة حسب الجمعية الأمريكية لعلم النفس، ولا يزول هذا الخطر عنها حتى بعد إنجاب مولود آخر بصحة جيدة، إذ تظل معرَّضة لاكتئاب ما بعد الولادة.
أسوأ مخاوف خديجة هي «فقدان جنين آخر، فلا ضمان حقيقي لاستمرار الحمل مهما حصل، وأنا أكثر من يعلم ذلك، فقبل أسبوع من الإجهاض طمأنتني طبيبتي إلى أن حملي سليم وفي أفضل حال».
الاندماج في المجتمع: «كانوا قساة دون علم منهم»
اعتادت النسوة ثقافة الصمت والاحتفاظ بسر الجنين في الفترة الأولى من الحمل، خصوصًا في المجتمعات العربية، اعتقادًا بأنه كلما علم عدد أكبر من الأشخاص بوجود الجنين قلَّت احتمالات ثبوت الحمل، وبالتالي تتعاملن مع الحمل منذ اللحظة الأولى على أنه سر ثمين لا ينبغي مشاركته مع الآخرين. في هذه الحالة، عندما تخسر الأم طفلها في الأشهر الأولى تصير مُجبرة على الاحتفاظ بسر خسارته، كي لا تلاحقها نظرات الشفقة كلما صادفت أحد معارفها.
تعاني المرأة العاملة أكثر من سواها في هذا الأمر، لما تسببه مشاركة خبر فقد الجنين مع مديرها أو زملائها في العمل من حرج، فتجد نفسها عاجزة عن شرح موقفها مخافة أن يُنظر إليها على أنها كائن ضعيف.
تحكي خديجة أنها مرت بأوقات صعبة كثيرة، لكن «الأصعب كان مواجهة المجتمع بعد فقد الجنين، فقد كان يوم العودة إلى العمل ثقيلاً وشاقًّا بسبب صدمة مواجهة الواقع. كنت أشعر بالشفقة في عيون زملائي كلما رحبوا بعودتي. كانوا قساةً دون علم منهم، كانوا يرغبون في مساندتي معنويًّا، لكن في نهاية الأمر لا أحد يرغب في الحديث عن الأطفال الميتين».
تتوقف خديجة عن الحكي لحظةً ثم تستأنف: «كل ما حولي كان يذكرني بحملي السابق، حتى الجمادات. هناك أشياء ما زالت تذكرني بطفلي المفقود، مثل مكتبي في العمل وساعة يد كنت قد ابتعتها خلال حملي».
لسوء الحظ، يواجه عديد من النساء المجهضات مشكلة جهل مَن حولهن بكيفية التعامل مع الحزن وما الذي يجب أن يُقال، فيُشعرهن ذلك بالوحدة وسوء الفهم، ممَّا يخلق فرصة للدخول في نوبة اكتئاب شديدة، وهنا يجب المبادرة بالحديث عن ما حدث مع الأصدقاء أو الكتابة عنه، كي تتمكن المرأة من تجاوز التجربة والمُضِيِّ بحياتها قدمًا.
إن الحديث عن الأمر لأشخاص محل ثقة أو اللجوء إلى العلاج النفسي يساعد المرأة التي فقدت جنينها كثيرًا في تخطي مشاعر الحزن وفاجعة الفقد، كما أن شغل الوقت بأنشطة مختلفة يجنِّبها الانغماس في الحزن لفترة أطول من اللازم، وهو ما قد يؤدي إلى حالات اكتئاب حادة.
الحديث عن التجربة ساعد خديجة في الخروج من قوقعة الحزن، فبعد ثلاثة أيام من فقدان التوأمين بدأت تتحدث عن الموضوع لأصدقائها المقربين في أول الأمر، ثم بحثت عن آخرين مرُّوا بالتجربة ذاتها كي تشارك مشاعرها وأفكارها معهم، خصوصًا أولئك الذين خسروا أجنتهم ونجحوا في ولادة طفل سليم لاحقًا.
دعم المرأة المجهضَة: «استمددتُ منهم القوة»
يتجنب الناس عادةً الحديث مع الأزواج الذين مرُّوا بمثل هذه التجربة، بسبب عدم معرفتهم كيفية مواساتهم أو انتقاء المفردات الصحيحة لمثل هذه المواقف، بينما يختار آخرون أن يقتنصوا الفرصة لشرح وجهة نظرهم الشخصية في الموضوع، كأن يُفتي أحدهم بأن ما وقع كان عقابًا للزوجين بسبب خطيئة ارتكباها في الماضي، أو نتيجةً لحسد شخص يُكِنُّ لهما ضغينة، أو حتى الإقرار بأن ما حدث خير، لأنهما لم يكونا مستعدين لاستقبال طفل جديد بعد.
لاقت خديجة صعوبة في مواجهة معارفها والعودة إلى وظيفتها أول الأمر، ووجدت راحة في المكوث في المنزل، رغم أنها شخصية اجتماعية وكانت تحب الخروج مع أصدقائها بصورة يومية قبل الحادث، لكن إحدى قريباتها نصحتها بالانضمام إلى مجموعة دعم نفسي لأمهات مررن بنفس التجربة.
تمنح مجموعات الدعم الأمل، لأن المرأة بعد أن ترى آخرين فقدوا أبناءهم في ظروف مشابهة، تتقبل خسارتها وتتفهم أنها ليست سبب حدوثها، وأن الأمور تحدث أحيانًا رغمًا عن إرادتها.
تقول خديجة: «حاولت شرح ما حصل لنفسي، غضبت على جسدي في أول الأمر ثم بدأت بالتفكير في سيناريوهات: لو فعلتُ كذا كذا لاختلف الأمر، لكني استمعت إلى تجارب وقصص أشخاص مرُّوا بما هو أسوأ مني واستمدَدْتُ منهم القوة، فإحداهن فقدت ابنتها بعد بلوغها عامًا».
يجرب بعض النساء الخضوع للعلاج النفسي للتعامل مع فقد الجنين، وهو ما فعلته خديجة كخطوة ثالثة بعد التحدث إلى أصدقائها والانضمام لمجموعات الدعم النفسي، وتشير إلى ذلك بقولها إنه «بعد مرور خمسة أسابيع من الخسارة، قررت أنني مستعدة لمقابلة مختص نفسي من أجل الحديث عن حزني، وهو ما ساعدني بقوة».
ما بعد العلاج: «أغبط مَن لا يعرفون إحساس الفقد»
تحكي خديجة أنها تعيش أيامًا جيدة وأخرى سيئة، لكنها تبدو اليوم، وبعد مرور أربعة أشهر على إجهاض توأميها، أفضل ممَّا كانت عليه في يومها الأول، وتتطلع إلى نجاح حملها القادم أكثر من السابق، لأنها اقتربت من مشاهدة طفليها ولم تنجح.
في الوقت الحالي، تحب خديجة ممارسة تمارين التأمل، التي تساعدها على الراحة والاسترخاء وتهدئة فوضى رأسها وتقدير اللحظة الحالية.
تشرد خديجة للحظة بأفكارها ثم تقول: «أشعر أني فقدت براءتي». بعد بُرهة صمت، تقول إنها تغبط مَن لا يعرفون إحساس الفقد، لأنه «أبسط من شعور الخوف من خسارة الجنين، وهو الشعور الذي سيطاردني في حملي القادم، ولكني أهوِّن على نفسي بالتفكير في الخسارة كخطوة أعادت ترتيب أولوياتي في الحياة، فدائمًا تكون المعاناة أسوأ في رأسي ممَّا هي عليه في الحقيقة، هذا ما استنتجته بعد كل ما مررت به».