لم يتخيَّل عدد كبير من اللبنانيين أن يتفقدوا شبكات التواصل ليشاهدوا مقطع فيديو يوثق ردود فعل بعض الناس في الشارع، بعد مصارحة فتاة باكية لهم بتعرضها للاغتصاب، أو أن يجد صفحة على فيسبوك وإنستغرام تروِّج لطفلات جاهزات للزواج مع رقم هاتف حقيقي للاتصال والتنسيق.
كل هذا كان نتاج حملات اختارت أسلوب «التجارب الاجتماعية» لتسليط الضوء على موضوعين من الأكثر تداولًا في لبنان.
بين حملتي «16 يومًا» العالمية للقضاء على العنف ضد النساء والفتيات، و«اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة»، انتشرت في لبنان حملات محلية لتسليط الضوء على عدد من التحديات التي تواجه الفتيات والنساء بشكل عام في لبنان، لكنها سببت جدلًا وانقسامًا اجتماعيًّا كاد يُطيح بأهداف الحملات.
من أشهر الحملات «مين الفلتان» و«العروس الصغيرة». إضافة إلى إعادة إطلاق حملة «مكرورة»، التي نفذتها منظمة «كفى» في 2017، دعمًا لمشروع قانون تجريم التحرش الجنسي.
في خضم تزاحم الحملات في الشهرين الأخيرين من 2018، برز رقم هاتف حقيقي، نشرته أيضًا منظمة «كفى»، بالتعاون مع الأمن الداخلي، هدفه مساندة ضحايا العنف الأسري.
لكن، ما هي «التجربة الاجتماعية»؟
التجربة الاجتماعية مشروع بحثي يُجرى مع أشخاص في العالم الحقيقي، باختيار موضوع متداوَل، أو قيد الدراسة، ليجري طرحه وتسجيل ردود الفعل، سواء أكانت سلبية أم إيجابية، في محاولة لمقاربة الموضوع والخروج بمجموعة من الطروحات أو الحلول، ويكون الاختيار العشوائي للعينات شرطًا أساسيًّا من شروط التجربة.
انطلقت أولى التجارب الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف تسليط الضوء على ضرائب الدخل بسلبياتها وإيجابياتها. بعد ذلك جرى اختبارها من خلال دراسة السياسات الاجتماعية ومدى تأثيرها في المجتمع، واستُخدمت بعض التجارب الاجتماعية لتقييم التغييرات الإضافية في البرامج القائمة أو تقييم الفعالية الإجمالية للبرامج.
غالبًا ما نرى مصطلح «التجربة الاجتماعية» الآن في شكل مقاطع فيديو قصيرة أو صور على مواقع التواصل الاجتماعي.
طرحت مسألة التجارب الاجتماعية عدة تساؤلات عن سُبل طرح موضوعات وتحديات اجتماعية حساسة، تتمحور حول الكراهية والعنصرية والأخلاق والتحيز الجنسي والعرقي، ما أدى إلى إعادة تقييم مجالي علم النفس الاجتماعي والتجارب التي أجريت.
تثير التجارب الاجتماعية عددًا من المخاوف الأخلاقية، بسبب تلاعب بعضها بمجموعات كبيرة من السكان في كثير من الأحيان دون موافقتهم.
اليوم، غالبًا ما نرى مصطلح «التجربة الاجتماعية» على منصات التواصل في شكل مقاطع فيديو قصيرة أو صور، يُستخدم فيها ممثلون يحاولون طرح موضوع معين لإثارة ردود فعل، وغالبًا ما تكون مصوَّرة بكاميرا خفية.
بمقطع فيديو ذي بداية مثيرة، وجد اللبنانيون أنفسهم غارقين في مشاهدة فتاة باكية في أحد الشوارع، تحاول الاستنجاد بالمارة بتردد وخجل، بتنورتها القصيرة وكنزتها مفتوحة الأكتاف. تقول الصبية للمارة: «مَسَكَني فجأة. تعرضت للاغتصاب. لا أملك هاتفًا».
تبيَّن للمشاهدين أن الفيديو تجربة اجتماعية ضمن حملة «مين الفلتان»، نفذتها منظمة «أبعاد»، لتسليط الضوء على الاغتصاب وضحاياه في لبنان. لكن المقطع جاء ينقصه قسم أساسي: الحل. إضافة إلى ذلك، لم يقدم مضمونًا جديدًا، بل قدَّم فقط مضمونًا «صادمًا»، بحسب ما توضحه لـ«منشور» سارة ملاط، عالمة الاجتماع التي تركز على دراسة النشاط الالكتروني.
فيديو «مين الفلتان» من وجهة نظر الضحايا
«عندما شاهدت الفيديو باعتباري ضحية سابقة، أزعجني، وشعرت بأن الأيام عادت بي إلى الوراء كثيرًا، بعدما كنت تخطيت الموضوع جزئيًّا منذ سنوات»، هكذا تحكي سيلين (اسم مستعار، 30 عامًا).
شعرت الفتاة بأن رد فعل الفتاة المغتصَبة في الفيديو ليس واقعيًّا على الإطلاق، ولا يشبه ردود فعل ضحايا تعرَّضوا للموضوع نفسه.
تعمل سيلين في مجال البحوث الاجتماعية، وتتذكر أنها لم تكن تملك وقتها رفاهية الركض والصراخ بصوت عالٍ: «لا أعرف لماذا كنت أظن أنه من العيب أن أخبر حتى أمي بما حصل، ظننت أنها ستضربني».
انغماسها في عملها ساعدها في تخطي الحادثة ولو جزئيًّا، فباتت شخصًا يهوى الحياة الاجتماعية. لم تتزوج بعد لأنها تختار الانتظار كما تقول، إضافة إلى أن عملها يتطلب ساعات عمل طويلة وسفرًا كثيرًا.
حين سمعتْ آراء الأشخاص في الفيديو، قالت لنفسها: «أحسنتِ أنك لم تخبري أحد بما تعرضتِ له يومئذ، وإلا كنت ستواجهين ردودًا سلبية كالتي وردت في الفيديو». فتح المقطع جروحًا حاولتْ إغلاق الباب عليها، وللأسف «لم يقدم لي أي حلول، بل عرض مشكلتي فقط. لم يساعدني باعتباري ناجية، بل أعادني إلى الوراء نفسيًّا».
الحملات تؤدي إلى زيادة الوعي بالتأكيد، لكن وجودها على منصات التواصل الاجتماعي يُنتج مشكلات كبيرة.
فيديو «مين الفلتان» لم يكن سبب الجدل الوحيد، فـ«العروس الصغيرة» تسببت في غضب عارم على شبكات التواصل، رصده القائمون على الحملة. وكشف «تجمع النساء الديمقراطي اللبناني» عن أهداف الحملة بعد ذلك بأيام، إذ إن التجمع يقود العمل على صعيد إقرار قانون حماية الأطفال والقاصرات من التزويج المبكر في لبنان.
اختار التجمع لحملته إنشاء صفحة مزيفة على إنستغرام، ونشر صور فتيات صغيرات بهدف «استقطاب الرجال المهتمين بالزواج من صغيرات»، واستخدم القائمون على الحملة صورًا من «شاترستوك»، وهي صور متاحة يمكن شراؤها عن طريق الإنترنت.
أما منظمة «كفى»، فاختارت أن تُطلق سلسلة من مقاطع الفيديو، عبارة عن لقاءات قصيرة لشخصية «مكرورة»، وهي دمية متحركة تزور شخصيات رسمية. بدأت جولتها على السياسيين للمطالبة بإقرار مشروع قانون «تجريم التحرش الجنسي»، وسألتهم أسئلة مهمة عن مصير حقوق المرأة والقوانين التي يُفترض أن تحميها في لبنان.
ترى سارة ملاط أن الحملات تؤدي إلى زيادة الوعي بالتأكيد، لكن الوسيلة المستخدمة (منصات التواصل الاجتماعي) تنتج ثلاث مشكلات أساسية:
- غياب قوة التأثير المستمر للحملة، بسبب فائض المعلومات الذي يُنشر في فترة قليلة بشكل سريع، ثم يختفي بسرعة بظهور محتويات أخرى جديدة
- إثارة الجدل المكثف على الإنترنت دون أي نشاط في الواقع (Slacktivism)، بحيث يظن المشاركون أن التعليق والمشاركة كافيان، بينما تلك الأفعال ليست كافية على الإطلاق
- إشعال الغضب على شبكات التواصل، وهو أمر قد يكون إيجابيًّا لتسليط الضوء على موضوع ما، لكنه يتحول إلى نقاشات غير مجدية وتوجيه الاتهامات بين الطرفين، إضافة إلى ظهور تعليقات مسيئة ونقاشات غير فعالة تحيد بالموضوع عن هدفه
في بعض الأحيان، تضع تلك الحملات السكانَ المعرضين للخطر بشكل أكبر تحت مجهر المجتمع، و«مجتمع الميم» مثال على ذلك. قد تخلق الحملات ردود أفعال سلبية بين مزيد من المحافظين من الجمهور، والسلطات الدينية وأجهزة الأمن كذلك، ما قد يؤدي إلى تشويه صورة أو اضطهاد الأشخاص أو المجموعات محل التجربة.
يعيدنا هذا إلى مسألة أخلاقيات التجارب الاجتماعية وأهمية مراقبة نتائجها، واستباقها أحيانًا، لأنها ربما ترتد بطريقة سلبية، أو تحديد خطوط عريضة لها في المجتمعات القابعة بين الانفتاح والانغلاق.
لم يحمل مقطع فيديو «مين الفلتان» أي رقم هاتف أو طريقة دعم للفتيات اللاتي يتعرضن للاغتصاب.
إضافة إلى ذلك، عندما تعمل عدة منظمات على عدة حملات في ذات الوقت، تتسبب في تشتت الجمهور وتسرق النظر عن بعضها، ومن ثَم تصبح الحملات متنافسة، ولو دون قصد.
حين تواصلنا مع الجهات المشرفة على الحملات: (أبعاد، كفى، تجمع النساء الديمقراطي اللبناني)، كان الرد أنهم يتشاركون المستجدات بشكل دوري، لكن لم يكن هناك أي تنسيق مباشر بينهم إبان إطلاقها الحملات الأخيرة.
على الضفة النفسية: هل الصدمة الاجتماعية مفيدة؟
لم تفهم كوزيت معلوف، المختصة في علم النفس العيادي، الهدف من المقطع: «هل هو أن نصدم المشاهد؟ نحن نعرف أن المجتمع اللبناني قاسٍ وظالم في هذا الخصوص. لذلك لم يطرح الفيديو أي نقطة جديدة باعتبارها تجربة اجتماعية».
لدى كوزيت تحفظات عدة على استخدام تجربة الصدمة لتسليط الضوء على أي قضية: «يمكن أن تلعب الصدمة دورًا إيجابيًّا عندما نريد أن نمتلك رأيًا معينًا عند شخص بخصوص قضية ما، لأن كل شيء ينطلق من خلال محاولة بناء الرأي، وبعد ذلك يبدأ العمل على تغيير السلوك. لكن الصدمة في هذا الفيديو لم تكن في مكانها».
وفقًا لما تؤكده كوزيت، لن يكون للفيديو أي تأثير أو تغيير: «مَن قالوا إن ملابس الفتاة وخروجها ليلًا سبب الاغتصاب، لم يغيروا نظرتهم للموضوع الآن. أما من تعرضوا لحوادث مماثلة، فعلى الأرجح سيجعلهم المقطع يعيشون التجربة نفسيًّا من جديد، وسيتألمون أكثر لرؤية المجتمع يهاجمهم. ضحايا الاغتصاب سيرون أنه حتى المرأة لم يكن لها دور داعم في الفيديو، بل إنهن طلبن من الضحية ألا تروي ما حصل لها، وأن تحمي نفسها من ألسنة المجتمع، بدل أن نحميها نحن النساء من الظلم الذي تعرضت له».
هل قدمت «العروس الصغيرة» و«مين الفلتان» دعمًا؟
تتساءل كوزيت أيضًا عن مدى فعالية حملة «العروس الصغيرة»، ووصولها إلى أولئك الذين يدعمون هذا النوع من الزيجات: «مَن الجمهور المستهدف هنا؟ ناشطي شبكات التواصل الذين يعارضون التزويج المبكر أصلًا؟ كيف نضمن وصول التجربة إلى المستهدَفين، وحققت أهدافها في المجتمعات والمدن والقرى اللبنانية التي لا تزال حتى اليوم تبرر التزويج المبكر؟».
تشرح كوزيت أن سبب التزويج المبكر يعود تاريخيًّا واجتماعيًّا إلى الفقر، وهو أعمق من أن يُناقَش بحملة على الإنترنت. والفقر أسوأ أنواع العنف، ومعالجته تحتاج إلى تغييرات اقتصادية جذرية.
ريم يحيى، التي تعمل مسؤولة في قسم «حماية المرأة وتمكينها» في «لجنة الإنقاذ الدولية» (IRC)، تصف فيديو «مين الفلتان» بأنه «يشبه القنبلة الصوتية، التي تُحدث صدمة وتخيف الناس، ويتكلم عنها المجتمع لوهلة، لكنها لا تقدم أي حل. من يرى أن الفتاة سبب المشكلة لم يغير رأيه، ومن ترى أن الكلام عن الاغتصاب عيب لم تغير رأيها».
بحكم عملها واهتماماتها، تفكر ريم في ضحية الاغتصاب: «بماذا ستشعر حين تشاهد شبابًا يقولون إنها فلتانة، ولذلك تعرضت للاغتصاب؟».
توضح ريم أن هناك من تعرضوا للأذى ولم يتكلموا عنه بعد: «فيديو مثل هذا لن يشجعهم على مشاركة تجربتهم. حتى الفتيات اللاتي لم يعشن تلك التجارب، يوحي الفيديو إليهن بأن مجرد تعرضهن لذلك وصمة، فيتحول الموضوع إلى مصيبة كبيرة».
كان يمكن أن يكون الفيديو مفيدًا في سياق مختلف، وفقًا لريم، مثل أن يهدف إلى الضغط على الدولة لإقرار قانون لحماية ضحايا الاغتصاب في لبنان، أو لو كان هناك قانون، يمكن عندها طرح فيديو الصدمة وإتباعه بتذكير: «هناك قانون يحميكن. المجتمع قاسٍ، نعم، لكن القانون إلى جانبكن. وقتها يكون الفيديو أكثر تأثيرًا».
زينة علوش، المختصة في تصميم حملات توعية وإنتاجها، التي عملت مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة، تختصر التساؤلات التي تحيط بالحملات في منشور كتبته على فيسبوك: «في كل المقاربات والقراءات والدراسات، لم يثبت حتى الآن أن استدراج الناس لإظهار السلبي فيهم، يسهم في زيادة الوعي المؤدي إلى تغيير السلوك عند الفئة المستهدفة. لا إيجابية في استدراج الناس إلى أبشع ما عندها. المعنِي بالأمر سيكون في موقف الدفاع عن النفس، إما أن يبرر وإما أن يلقي باللوم وإما يتمسك بسلبيته بشراسة. لا شيء إيجابيًّا في الاستدراج سوى تعزيز الإحساس بالفوقية من جهة، والدونية من جهة أخرى، وفي الوقت المستقطع: مزيد من الضحايا وكثير من الهدر».