منذ عدة أسابيع، كنت عند الحلاق كي أقص شعري ولحيتي؛ استعدادًا للكشف الطبي الذي سأجريه لتحديد مدى لياقتي لأداء فترة التجنيد الإجبارية في الجيش، كنت أراقب رأسي البارزة من مريلة الحلاقة وهي تتحول على غير رغبتي إلى شبه كرة معدومة الإرادة، واسترجع مشهد البداية في فيلم (Full Metal Jacket)، ونظرات المُجندين الخاوية ورؤوسهم تُحلق على خلفيةٍ موسيقية تُغني: «امنحيني قبلة الوداع، وأرسلي لي خطاباتك وأنا راحلٌ. وداعًا حبيبتي، مرحبًا فيتنام»، لكن على عكس الأغنية التي سُجلت أثناء الحرب الأمريكية على فيتنام لتبث في روح المُجندين المسؤولية، وتذكرهم بواجبهم تجاه أمريكا، كانت نظراتهم، مثل نظرتي وأنا بين يدي الحلاق، خاوية، تستر وراءها حزنًا وخوفًا تجاه ما ينتظرني.
فلتتخلص من شخصيتك على باب الكتيبة
كنت أفكر حينها أن بداية علاقتي بالتجنيد، عند الحلاق، تخبرني بوضوح بكل ما ينتظرني بعد ذلك في الحياة العسكرية، فلن أكون بعد الآن سوى فردًا مسلوب الإرادة، يُفترض منه أن يتخلص خلال فترة التدريب من كل النزعات الإنسانية إلى التميز أو الاعتداد بالنفس، وأن يتقبل برحابة صدرٍ أن يتم اقتطاع روحه وشخصيته كي تصير مُسطحةً؛ لكي تتشكل في قالبٍ هندسيٍ، يسهل احتواؤه وتطويعه في منظومة الجيش.
بل إنني تماديت في التفكير، ماذا لو طُلب مني ما لا أرتضي أن أفعله، لو طُلب مني أن أوجه سلاحي تجاه أحدهم لقتله؟ هل أتحمل ذلك؟ الوطن العربي ينقلب الآن رأسًا على عقب، وقواتٌ من إحدى عشر دولة عربية تشارك الآن في حربٍ في اليمن يموت فيها العديد من الأبرياء، في ظل تراتبية الجيش التي لا تتقبل النقاش، ما الذي أفعله لو طلب مني أن أشارك في حربٍ أرفضها؟
والنبي يا جماعة ما تعملوش ثورة وأنا في الجيش، عشان لو حافظت على مبادئي ساعتها أنا اللي هزعل لوحدي.
كتب صديقي المصري على صفحة الفيس بوك الخاصة به قبل التحاقه بالتجنيد: «والنبي يا جماعة ما تعملوش ثورة وأنا في الجيش، عشان لو حافظت على مبادئي ساعتها أنا اللي هزعل لوحدي». فمن سبقه من الضباط وشارك في احتجاجاتٍ ثورية بمصر، أو انضم لتظاهراتٍ مدنية، تعرض للتنكيل والحبس من قبل المحاكم العسكرية. ولا يحدث ذلك في مصر أو الدول العربية فقط، فبعد أن قامت مجموعة من ضباط الاحتياط الإسرائيليين برفض القيام بأية مهمات تتسبب في ضررٍ للفلسطينيين سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، تعرضوا لحملة من التشويه والتهديد بعقابٍ صارم، انتهت بتسريحهم من الخدمة.
«الاستنكاف ضميريًا» في مواجهة التجنيد الإجباري
لم يتوقف البعض على عتبة الخوف والرفض النفسي للتجنيد ولآثاره، بل أعلنوا رفضهم لأداء خدمتهم العسكرية صراحةً، في مواجهة القوانين العسكرية الصارمة والمجتمعات التي يرى أغلبها أن الخدمة العسكرية شرفٌ ودليلٌ على الوطنية. ورغم حداثة مصطلح «الاستنكاف الضميري» (Conscientious Objection) الذي يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر حين استُخدم في تقريرٍ صادر عن لجنة مجلس نيويورك للميليشيا والدفاع في عام 1841 ليصف الذين يرفضون أداء الخدمة العسكرية إرضاءً لضميرهم، إلا أن أول حادثة رفضٍ لأداء خدمةٍ عسكرية في التاريخ تعود إلى القرن الثالث الميلادي، حين رفض مواطنٌ روماني يُدعى «ماكسيميليانوس» الالتحاق بجند الروم بوازعٍ ديني، ما أدى إلى إعدامه في نهاية الأمر.
ثمة العديد من القوانين والسُبل التي تسمح لرافضي التجنيد لأسبابٍ ضميرية أو أخلاقية.
واصل المستنكفون ضميريًا الدفاع عن مبادئهم عبر التاريخ إلى أن وصل عدد المستنكفين ضميريًا أثناء الحرب العالمية الأولى في بريطانيا إلى ستة عشر ألفًا، وحوالي أربعة آلاف في أمريكا، قبعوا في سجون الدولتين أثناء الحرب، ولم يخرجوا من أسرِهم إلا بعد أن انتهت الحرب وبدأ العمل في تشريعاتٍ تحكم التجنيد الإجباري. وفي وقتنا الحالي، ثمة العديد من القوانين والسُبل التي تسمح لرافضي التجنيد لأسبابٍ ضميرية أو أخلاقية، في بعض الدول، أن يستبدلوا الخدمة العسكرية بخدمةٍ مدنية، مثلما يحدث في سويسرا التي توظف المستنكفين ضميريًا في رعاية المسنين والمعاقين، أو مساعدة المزارعين أو حماية البيئة.
لا تعترف الدول العربية التي تطبق التجنيد الإجباري بالاستنكاف الضميري، ولا توجد سجلاتٍ تحتوي على معلوماتٍ عن أشخاصٍ رفضوا أداء الخدمة العسكرية لأسبابٍ ضميرية، بل إن سوريا، والعراق، ولبنان، ومصر، والسودان قد شاركوا دولًا أخرى في التوقيع على رسالةٍ إلى لجنة حقوق الإنسان عام 2002 تنص على: «أنها لا تعترف بقابلية تطبيق مفهوم الاستنكاف الضميري عن الخدمة العسكرية في جميع الأحوال». وهم يعلمون أنهم بذلك يغلقون بابًا أمام المئات (أو الآلاف) من رافضي الرضوخ للتجنيد الإجباري، الذين قد يستغلون هذه الفرصة ليدّعوا سلميتهم، أو أن لديهم أسبابًا ضميرية تمنعهم من أداء الخدمة. وقد أعلنت كوريا الجنوبية مخاوفًا مماثلة من أن يتم استخدام الاستنكاف الضميري وسيلة للتهرب من التجنيد الإجباري، وذلك ردًا على عدم إدانة شخصين رَفَضَا الخدمة العسكرية بسبب معتقداتهم الدينية، بعد أن زجت السلطات الكورية بآلافٍ سابقين في السجن للسبب نفسه.
لكن المصريّ مايكل نبيل سند كان أول عربيٍ يعلن عن استنكافه ضميريًا ضد أداء الخدمة العسكرية الإجبارية، وذلك في أكتوبر عام 2010، بل قام بتأسيس حركة «لا للتجنيد الإجباري»، وأحدث صخبًا بتدوينِه عن تجربته مع رفض أداء الخدمة العسكرية، التي انتهت بحصوله على إعفاءٍ طبيّ على الرغم من عدم اعتراف إدارة التجنيد بمشاكله الطبية في مراتٍ سابقة قاموا فيها بالكشف عليه، وهو ما يُمكن تفسيره على أنها مراوغة من الجيش المصري، سمحت له باحتواء موقف مايكل، دون أي اعترافٍ رسمي بحقه بصفته مستنكف ضميري في الحصول على إعفاءٍ رسمي من الدولة. لكن مايكل قد قُبض عليه بعد ذلك وتم توجيه اتهاماتٍ له بإهانة الجيش المصري بسبب تدويناته المعارضة للتجنيد الإلزامي.
يُذكر أن هنالك ثمانية أشخاصٍ آخرين قد أعلنوا رفضهم لأداء الخدمة العسكرية في مصر وانضموا للحركة التي أسسها مايكل. وكما حدث مع مايكل، تعامل الجيش المصري معهم بالطريقة نفسها، فهو لا يعترف بالمستنكفين ضميريًا بشكل رسمي، لكنه لا يجبرهم أيضًا على أداء الخدمة العسكرية، ويكون رد فعله دائمًا هو ترك رافض الخدمة دون منحه أوراق توضح موقفه من التجنيد، وهي أوراقٌ محورية في مصر تُستخدم عند العمل، أو الدراسة، أو حتى السفر، لكن في نهاية المطاف يُمنح المستنكف الضميري إعفاءً استثنائيًا من وزير الدفاع.
لا يوجد في السجلات المتاحة للدول العربية التي تفرض تجنيدًا إجباريًا على شبابها ما يخبرنا أن كان هنالك من سبق مايكل نبيل في إعلانه عن رفضه لأداء الخدمة العسكرية، لكن قد تكون تجربة مايكل والشباب المصري ملهمة لشبابٍ عربيٍ آخر، في ظل انضمام دولٍ عربية جديدة لمعسكر الدول التي تفرض تجنيدًا إجباريًا على مواطنيها، مثل قطر، والإمارات، والكويت التي أعادت الخدمة الإجبارية بعد أن كانت قد أوقفتها سابقًا، وذلك في ظل التوتر التي تعيش فيه المنطقة بوجود المتطرفين الإسلاميين الذين كانوا يعملون على توسيع رقعة نفوذهم.
وعلى الجانب الآخر، لا تراوغ إسرائيل حين تتعامل مع المستنكفين ضميريًا، فعقوبة الحبس تنتظر من يرفض الانضمام لجيش الدفاع، مثلما حدث مع تائير كامينار، التي قضت في السجن الحربي ما يصل إلى 170 يومًا لرفضها الخدمة العسكرية الإجبارية لكونها سلامية، وترفض الحروب والعنف وحمل الأسلحة.
الجندية في نظر المؤيدين
في بعض الأخبار المكتوبة عن فرض التجنيد الإجباري في الإمارات والكويت وقطر، تم ربط الخبر بأسبابٍ وطنية وتربوية بشكلٍ أكثر من الأسباب العسكرية، التي قد تم إغفالها في بعض التغطيات. يرى مؤيدو الخدمة العسكرية الإلزامية أن الجندية ستؤدي إلى تعليم الشباب المسؤولية والانتماء، وتغرس في نفوسهم بذور الوطنية. كلما قرأت تلك الأسباب التي يسوقونها في وسائل الإعلام، أتخيل التجنيد الإجباري وكأنه عملية تصنيع؛ يتم تكديس الشباب في فوهةٍ، ويُضغط عليهم بأحذيةٍ عسكرية، كي يتم صبّهم في قوالب تتوافق مع معايير الدولة وتتصف بالطاعة والالتزام.
بما أن الخدمات التي تقدمها الدولة لا تُقدم إلا بأموالٍ عامة، فكيف يكون التجنيد الإجباري دَينًا يدفعه الشباب لبلادهم؟ وإن كان هدف التجنيد هو تشكيل الشباب بالشكل الذي تريده الأنظمة الحاكمة، على الصورة المثالية التي تسوقها للشاب الوطني، فقد ينتج عن ذلك تأثيرًا عكسيًا، وتُصاب أرواح من لا يرغبون في الخدمة الإلزامية من الشباب ببعض الجروح إزاء رفضهم لضغوط عملية القولبة العنيفة، فلا يصبحوا تابعين مخلصين، بل قد يصل الأمر بمن يؤدي الخدمة العسكرية بالإكراه إلى أن يصير ساخطًا على البلاد.
قد يكون التجنيد ضرورةً أمنية، لكنه لا يجب أن يكون إجباريًا، لا يجب أن يقوم المرء بما يخالف أفكاره أو دينه أو كل ما يؤمن به، يُمكن أن تحاول الدول جذب المتطوعين باستخدام الشعارات الوطنية عند الخطر أو الامتيازات المادية أو الخدمية التي سيحصلون عليها، لكنها لا يجب أن تواجه الرفض الضميري أو النفسي لأداء الخدمة العسكرية بالسجن.