ساعات طويلة نقضيها في نفس المكان، تؤانسنا فيها حوائط الصالة ونوافذ المنزل. نتشاركها مع من يمرون معنا بنفس الحالة، جميعنا نعيش وجودًا متماثلًا، يومًا بعد يوم. وفي الخارج، وباء يتجول في شوارعنا، يجلس في الأماكن التي اعتدنا التجمع فيها، يقلل من أعدادنا، وأكثر من أي شيء آخر، يثير الخوف في نفوسنا.
خوف من النوع الذي لم نعرفه من قبل، فهو لا يزال يبقينا في بيوتنا بعد مرور أكثر من سنة منذ بداية ظهوره.
لكن لم يتعامل الجميع معه بنفس الطريقة، ولم يعترف الجميع بوجوده من الأساس.
بعد مرور نصف فترة الحجر المنزلي والحظر الكلي والجزئي في الكويت سنة 2020، وتحديدًا في شهر يونيو من ذلك العام، لاحظتُ تغيرًا في الحالة النفسية لبعض أصدقائي. إذ انخفضت معنوياتهم للحياة وازداد حزنهم ويأسهم، وانتابني الفضول للبحث عن السبب وأن أحاول إيجاد حلًا لهذه المشكلة.
أعلم الآن أن مشكلة من هذا النوع لا يستطيع حلها غير صاحبها، لكن على أي حال، قررت عمل بحث تجريبي. وهو ببساطة عبارة عن مقابلة أطرح فيها أسئلة محضرة مسبقًا على المشاركين، والتي كانت تدور حول مشاعرهم خلال تلك الفترة والتغيرات التي لاحظوها في الشهية للأكل والنوم وطرق تعاملهم مع الوضع الجديد. إضافةً إلى أنني صنعت استبيانًا عنوانه «حالتنا النفسية في الفترة من مارس إلى سبتمبر 2020/الكويت»، شارك فيه 196 شخصًا من فئات عمرية مختلفة. فكيف أثرت كورونا على صحتنا النفسية؟ وما الذي أظهرته النتائج؟
الناس نوعان
اقتصر البحث على ذلك الجزء من مجتمع الكويت الذي لديه دخل كاف يسد احتياجاته خلال فترة الحجر المنزلي. واتضح أن النتائج انقسمت إلى قسمين، أولها أن هناك من وجدوا الراحة والسكون وقد رصدوا حالة من السعادة خلال تلك الفترة، أما ثانيها فهم أولئك الذين زاد لديهم الشعور باليأس والحزن والضيق.
هناك ما يسمى باضطراب التأقلم (Adjustment Disorder)، وهو ما يحدث لبعض الناس عندما يمرون بتغيير كبير في حياتهم أو حالة فقد.
ما الذي جعل بعض المشاركين يقولون إن هذه الفترة كانت «فترة نقاهة وراحة»، وإن الحجر المنزلي كان بمثابة «البقاء في سجن جميل»؟ وما الذي جعل البعض الآخر يدخل حالات اكتئاب شديدة يفقدون فيها اهتمامهم بما كانوا يحبونه، حتى طالت هواياتهم وأطعمتهم المفضلة؟
الفيصل كان طريقة تعاملهم مع الحالة المشتركة التي عاشوها، ومدى قدرتهم على تحملها. يقول عبد الله الحمادي، استشاري الصحة النفسية وعضو الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين: «فكرة المرض وتأثير الإعلام والعزلة (الحكرة) هي التي تسبب القلق والكآبة والرعب والخوف».
ويوضح الحمادي لـ«منشور»: «هنا نرى مدى مقدرة الناس على التحمل. هناك ما يسمى باضطراب التأقلم (Adjustment Disorder)، وهو ما يحدث لبعض الناس عندما يمرون بتغيير كبير في حياتهم أو حالة فقد. في السابق كان لدى الشخص حرية كاملة، والآن لديه حرية لكنها أقل ولها حدود معينة، بالتالي يصبح الشخص غير قادر على تحمل الوضع الذي هو فيه، ويزداد لديه العنف والاكتئاب وغيره. لكن اضطراب التأقلم أغلب الوقت يعتبر من الحالات القابلة للشفاء، فبعد 6 أشهر أول أقل (أو بعد زوال المؤثر) يرجع الشخص لما كان عليه سابقًا دون الحاجة لدواء أو غيره. قد يحتاج البعض لعلاج سلوكي، وبعض الأشخاص قد تتطور لديهم الحالة إلى الاكتئاب، لكن الأمر في النهاية يعتمد على الشخص ومدى مرونته مع التغيرات الواقعة في الحياة».
من خلال نتائج البحث، لاحظت أن الذين تأقلموا لم ينفوا شعورهم بالملل وشوقهم للعالم الخارجي، لكنهم كانوا يرون الأمور بإيجابية أكثر. ذكر هؤلاء أنهم كانوا يحافظون على روتين ثابت، وعندهم القدرة على ملاحظة حالتهم النفسية، فعند تراجعها يحاولون إدخال شيء جديد على روتينهم، مثل التسجيل في دورة إلكترونية، أو تعلم مهارة جديدة عبر يوتيوب. ووصل بعضهم بالتأقلم إلى مرحلة عالية من الرضا والراحة، حتى قال أحد المشاركين: «هذه الفترة هي في الواقع نعمة من الله»، وقال آخر إنه لن يمانع لو تكررت مرة أخرى.
أما الذين مروا بهذا الاضطراب فانتكسوا، وكبرت عندهم رؤيتهم السوداء حتى ملأت أيامهم وحياتهم بأكملها. شعور الخوف من المجهول أسهم في تثبيت هذا الحزن، والمتابعة المستمرة للأخبار اليومية عملت على ترسيخه كي يبقى لفترة تبدو دون نهاية.
من نحن دون ما يلهينا عن أفكارنا السوداء؟
تسود هذا العصر ثقافة حديثة يطلق عليها باللغة الإنجليزية «Hustle Culture»، تحث الناس على الانشغال في جميع الأوقات، اعتقادًا منهم أن الانشغال الدائم وعدم توفر الوقت الكافي للراحة والتفكير يساوي النجاح، فهم هكذا يكونون مشغولين كثيرًا بالإنجاز والعمل والتخطيط لفعل أي شيء آخر.
الكثير منا يفكر بهذه الطريقة، وبالتالي عندما يُسلب منا عملنا أو دراستنا أو أشغالنا اليومية اللانهائية، يخرج إلى السطح ما كان مندسًا في داخلنا لفترات طويلة، أفكارنا ووساوسنا، التي كنا نلهي أنفسنا عنها ظانين أنه لن يجمعنا بها لقاء، حتى أتى الوباء ووضعنا وجهًا لوجه في عزلة.. معها.
يطرح هذا الأمر التساؤلات الآتية: من نحن دون ما يلهينا عن شياطيننا؟ هل كنا نعيش في حالة نكران دائم لمشاكلنا قبل ظهور هذا الفيروس؟ هل ساعدتنا هذه الفترة على مواجهة أنفسنا أخيرًا، وبالتالي كان لها في الواقع أثر إيجابي علينا؟ أم كانت مجرد مرحلة مشوشة من حياتنا، نأمل دفنها هي الأخرى إلى أن تختفي؟
يقول عبد الله الحمادي إن «العزلة هي أساس جميع المشاكل النفسية التي مر بها كثيرون فترة الحجر المنزلي، من اكتئاب ووسواس وقلق. وصحيح، العزلة بإمكانها إبراز المشاكل والأفكار الداخلية للأشخاص بشكل أكبر. لكن مواجهة هذه الأفكار تعتبر طريقة لحل المشكلة».
مواجهة هذه الأفكار يمكن أن تتمثل في التعرف إلى أنفسنا من جديد، التعرف إلى الطرق التي نتعامل بها مع مختلف مواقف الحياة وإدراك طريقة تفاعلنا معها، كأننا نتعرف إلى أنفسنا لأول مرة.
الاضطرابات النفسية والجائحة ونظريات المؤامرة
بسبب القلق الذي يعيشه الشخص، نراه يريد الهروب وإلقاء اللوم على أي أحد، فيضع اللوم على الصين مثلًا ويقول إنها نشرت الفيروس في العالم.
«أنا مشخصة بالاكتئاب والقلق، وكانت السنة التي تسبق كورونا هي السنة التي تعافيت فيها. فقد التزمت فيها بجلسات العلاج النفسي والمعرفي إلى جانب العلاج الدوائي. لكن خلال فترة الحظر ومع بداية الجائحة، توقفت جلسات العلاج النفسي، وكانت مقتصرة على الأونلاين، والتي لم تكن بفعالية الحضور الفعلي. انتكست حالتي النفسية وقتها، وكنت أشعر بالاختناق طوال الوقت. أصبت بإكزيما في أماكن متفرقة من جسدي، وظهرت بثور كثيرة في أماكن جديدة على وجهي، وكلها كانت نتيجة القلق الذي شعرت به. لقد اشتقت إلى صديقاتي والجامعة والحياة في الخارج. كنت قلقة على صحتي الجسدية والعقلية كذلك، وكان تكرار الأيام رغم محاولاتي لتغييرها هو ما يقتلني ببطء».
هذا ما ترويه لنا منال عن تجربتها الشخصية خلال فترة الإغلاق والانعزال عن العالم. إذًا، كيف يتعامل المصاب بالاضطرابات النفسية مع «أزمة عالمية» كهذه؟
تتربص الأمراض النفسية بصاحبها وتفرض نفسها على جميع نواحي حياته. ولا شك أنه عندما تجد هذه الأمراض الشخص في أرض خصبة، والتي تتمثل في الجائحة وأعداد الإصابات اليومية المتزايدة والوفيات والعزلة وحظر التجول، ستنتهز الفرصة لترسيخ نفسها بشكل أكبر في حياة من يعاني منها.
تختلف أشكال القلق، وعندما نتكلم عن نظريات المؤامرة التي تدور حول الفيروس بشكل خاص، فإنه من الممكن لفرد ما أن يعتقد أن هذا الفيروس مؤامرة بسبب التوتر الداخلي والقلق النفسي الذي يعيشه. يريد هذا الفرد أن يتمسك بتفسير يوضح الفيروس المتقلب بطبيعته، فيتمسك بنظريات ثابتة أكثر، في اعتقاده، من ثبات الفيروس، بهدف تقليل شعور الخوف المستولي عليه.
يوضح ذلك الدكتور الحمادي، فيقول لـ«منشور»: «بسبب القلق الذي يعيشه الشخص، نراه يريد الهروب وإلقاء اللوم على أي أحد، فيضع اللوم على الصين مثلًا ويقول إنها نشرت الفيروس في العالم. وأيضًا يمكن للقلق أن يسبب إيمانًا بنظريات المؤامرة».
من أمثلة هذه النظريات وأشهرها الاعتقاد أن الملياردير الأمريكي بيل غيتس، وهو بطل أغلب نظريات المؤامرة، كان سببًا في صناعة فيروس كورونا بهدف تقليل عدد البشر والتخلص من الأضعف بينهم، وبذلك يكون البقاء للأقوى. هناك أيضًا من يعتقد أن جميع الأرقام التي نراها يوميًا والتي تعبر عن عدد الإصابات والوفيات، هي أرقام وهمية ليس لها صلة بالواقع وتُعدَّل بناء على رغبة ذوي السلطة، كما كان يدور بين العامة.
كثيرون كذلك جزموا أن كورونا ليس فيروسًا خطيرًا أو مميتًا، ولا يستدعي الخوف والاحتراز. الجدير بالذكر أنه من بين نتائج الاستبيان، ظهر أن 40% تقريبًا من المشاركين يؤمنون بأن كورونا مؤامرة، والبقية العظمى منهم ترفض هذه الفكرة. يؤكد الحمادي أنه «رغم وجود هذه النظريات وتصديق الناس لها، فإنه في النهاية يبقى المرض مرضًا، ونحن كأطباء نعالجه ونعطي اللقاح ونتخذ الإجراءات اللازمة».
الإنجاز وتعريفاته
حصر الإنتاجية في إطار زمني معين يزيد من الضغط النفسي، وكأن الوضع العالمي لم يكن كافيًا للشعور بذلك.
تبين من خلال الاستبيان أن العدد الأكبر من المشاركين كانوا لا يشعرون بالإنجاز، وكان ذلك يشعرهم بالضيق. طُرح على المشاركين سؤال «إن كانوا يربطون الإنجاز بالعمل والدراسة فقط، أو إن كان مفهوم الإنجاز مختلفًا بالنسبة لهم؟»، وقال 30٪% منهم تقريبًا إنهم فعلًا يربطون الإنجاز بالعمل والدراسة فقط.
الجدير بالذكر أن عددًا لا بأس به ممن قابلتهم قالوا إن التزامهم بروتين يومي زاد لديهم من الشعور بالإنجاز، وقد قال أحدهم: «في نظري، الصبر والتأقلم في حد ذاته إنجاز».
من ناحية أخرى، عبرت إحدى المشاركات عن شعورها بعدم الإنجاز لأنها اكتشفت أن الأمور التي كانت تعتبرها إنجازات قبل ظهور الفيروس، كانت كذلك لعدم توفر الوقت الكافي لأدائها. كانت هذه المشاركة تعتبر نفسها منجزة إذا تمكنت من إتمام عملها، رغم ضيق الوقت ووجود الكثير من الملهيات. أما في فترة كورونا، فقد كان لديها «كل الوقت الذي في العالم» على حد تعبيرها، كي تعمل دون وجود أي شيء يشتت انتباهها، إلى أن تحول «الإنجاز» إلى روتين ممل، وفقدت الإحساس به في أيامها.
من ملاحظتنا لمن قابلناهم، فإن حصر الإنتاجية في إطار زمني معين يزيد من الضغط النفسي عليهم، وكأن الوضع العالمي لم يكن كافيًا لأن يشعرهم بذلك.
حوَّل فيروس كورونا العالم إلى مجتمع صغير يواجه عدوًا خارجيًا واحدًا، والعديد من الأعداء الداخلية التي تشابهت أشكالها بيننا، ولا يزال الكثير منا يواجهها يوميًا. ورغم توفر اللقاحات الآن وزيادة الاختبارات عليها وعلى الفيروس نفسه، فإننا في نهاية الأمر لا نملك أمام هذا الوباء سوى الصبر والتأقلم والتمسك بالأمل.. حبل الحياة الذي نتمنى أن يعيدنا إلى ما نشتاق إليه يومًا.