طرح أحدهم سؤالًا مهمًّا على موقع الأسئلة والأجوبة الشهير (Quora)، يلامس نقطة جدل دائمة، سواءً في مجتمعنا العربي أو حتى في المجتمعات الغربية: هل الفروق السلوكية بين الفتيان والفتيات بيولوجية ومتأصلة في كلا الجنسين ولا يمكن تغييرها، أم أن للتعليم والمجتمع والثقافة التأثير الأكبر عليها؟ هل قال العلم كلمته الأخيرة بعد؟
في إجابتها التي فسرت الاختلافات السلوكية بين الذكور والإناث، استندت الكاتبة «جويس شينكاين» (Joyce Schenkein)، وهي أستاذ مساعد في علم النفس العصبي بجامعة تورو الأمريكية، إلى سلسلة طويلة من الدراسات العلمية سعت كلها لوصف هذا الاختلاف وتفسيره.
أي جسد تختار؟
تبدأ «شينكاين» إجابتها بجملة «سيغموند فرويد» الشهيرة التي تقول إن «تشريح جسد الإنسان هو قدره».
ووفقًا لشرحها، تشعر جميع الفتيات بالغيرة من الذكور لعدم امتلاكهن أعضاء تناسلية مماثلة، وهو ما يُعرف بـ«حسد القضيب» (Penis Envy)، الأمر الذي يعني أن الفتاة تعاني شعورًا دائمًا بالخيانة وبأن الطبيعة قد خدعتها، وفي المقابل، يمر كل الفتيان بما يُسمى «عقدة أوديب»، فنجد أن الابن يشتهي أمه، ويعيش في ذعر دائم خوفًا من أن يكشف والده ما يُخفيه فيخصيه (عقدة الخصاء).
وافترض «فرويد» أن على الولد حل هذه العقدة بالتصالح مع أبيه وتقبُّل دوره الأسري، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى اكتساب اﻻبن القيم الاجتماعية.
ثبت أن «عكس» التوجه الجنسي بالعلاج عن طريق الصدمات الكهربية أو حقن الهرمونات بعد البلوغ ليس ممكنًا.
وبحسب الكاتبة، زعم «فرويد» أن النساء «فاقدات للحس الأخلاقي» لأنهن لا يُصبن بهذه العقدة، الأمر الذي يعني أنه يجب منعهن من التصويت وشغل أي مناصب سياسية أو خلافه.
ومن هنا حاول «كارل يونغ» (Carl Jung)، عالم النفس السويسري ومؤسس التحليل النفسي بجانب «فرويد»، موازنة الأمور لصالح الفتيات، فافترض أنهن أيضًا يمررن بعقدة مماثلة تُسمى «عقدة إلكترا» (Electra Complex)، إذ تُغرم الفتاة بوالدها وتهاب أمها.
فيما بعد، حاولت «كارِن هورني» (Karen Horney)، التي اختلفت مع «فرويد» بشأن ما يتعلق بسيكولوجية الأنثى، لفت الأنظار إلى تفوق القدرة الإنجابية بجدارة على مجرد امتلاك عضو ذكري، وأصرَّت على أن الاضطراب الذي أصاب المجتمع النسوى لم يُسببه «حسد القضيب»، بل الضغوط التي يضعها الرجل على عاتق المرأة.
ومن هنا، اقترحت «هورني» اصطلاحًا جديدًا عُرف بـ«حسد الرحم» (Womb Envy)، وأنه ما أدَّى إلى زعزعة ثقة الرجل بنفسه ورغبته في التفوق على المرأة، بواسطة قمعها وإقصائها عن مجالات المجتمع المختلفة.
في البدء، افترض «فرويد» أن على الابن التصالح مع والده ليكتسب صفات الذكورة، وبناءً على ذلك اﻻفتراض، فسَّر المثلية الجنسية بأنها عَطَب أصاب عملية التصالح هذه. بمعنى آخر، تسبب الخلل الأسري في حدوث «الشذوذ» الجنسي، وهو ما يعني أنه يمكن «عكسه»، أي التراجع عن المثلية بمساعدة العلاج النفسي.
لكن رأي «فرويد» بشأن المثلية تم دحضه، بحسب الكاتبة، إذ ثبت أن «عكس» التوجه الجنسي بواسطة العلاج بالصدمات الكهربية أو حقن الهرمونات بعد بلوغ سن الرشد ليس ممكنًا. وفي رأيها، فإن «المهزلة» التي تعرَّض لها عالم الكمبيوتر البريطاني «آلان تورنغ» (Alan Turing)، الذي اتُّهم بالمثلية الجنسية وتلقى علاجًا هرمونيًّا قسريًّا أدى في النهاية لانتحاره، تعطينا خير مثال على ذلك.
قد يعجبك أيضًا: دعوة للحديث عن المثلية الجنسية بدلًا من تجاهلها
كيف ارتدى الرجال قمصانًا وردية؟
أعطى هدم أفكار «فرويد» فرصة للرجل كي يرتدي ملابس وردية، وسمح للفتيات بلبس السراويل.
عمدت عالمة اﻻجتماع الأمريكية «مارغريت ميد» (Margaret Mead) إلى هدم أفكار «فرويد» عن طريق دراسة ثلاثة مجتمعات بدائية في غينيا؛ «الأرابش» (Arapesh) و«المندغمور» (Mundugamor) و«التشامبولي» (Tchambuli).
وتتباين سلوكيات كلٍّ من الذكور والإناث في تلك المجتمعات؛ إذ اتَّسمت سلوكيات كلا الجنسين في إحداها باللطف، بينما كانت في أخرى عدوانية، وانقلبت الأدوار في الثالثة لنجد أن الرجال كانوا «عديمي الفائدة» ولم يهتموا، بنسبة كبيرة، إلا بمظهرهم، بينما كانت النساء هن المسؤولات عن الصيد وجلب الطعام.
دعنا من أن مجهودات «ميد» لم يؤكدها آخرون، حتى إن زوجها الذي رافقها في سفرها لم يعرف الطريقة التي وصلت عن طريقها لاستنتاجاتها، لكن رغم ذلك كان لدراستها العلمية دور كبير في تحرير النساء، إذ افترضت أن سلوكيات المرأة تُشكَّل وفقًا للنموذج الثقافي الذي تنشأ فيه.
أدى الاعتقاد الجديد بأن الثقافة هي المسؤولة عن اكتساب الصفات الذكورية/الأنثوية إلى ظهور الملابس التي تناسب الجنسين خلال فترة السبعينات في الولايات المتحدة الأمريكية.
أعطى ذلك الفرصة للرجل، بحسب الكاتبة، لأن يرتدي قميصًا ورديًّا، وسمح للفتيات بارتداء السراويل، كما لم يعد شراء الدمى نشاطًا مخصصًا للفتيات فحسب، بل ظهرت دمى جي آي جو (G.I. Joe) للفتية، وانتشرت صور الفتيات على أغلفة ألعاب البناء، التي طالما اعتُبِرت مخصصة للذكور دون الإناث.
اقرأ أيضًا: كيف ينظر رائد تصوير «السوبر موديل» إلى الموضة وقضايا النسوية؟
أي جسد يختاره الأبوان؟
تلفت «جويس شينكاين» إلى أن هذا التحيُّز الجنسي، الذي تجاهل الميول العقلية للشخص، أدى إلى بروز نظرية عالم النفس الشهير «جون موني» (John Money)، الذي زعم أن الطفل يكتسب هويته الجنسية وفقًا لتنشئته لا تكوينه التشريحي، ولهذا يمكن للطفل الذي يولد بأعضاء تناسلية غامضة أن يُغيَّر جنسه جراحيًّا، وفقًا للجنس الذي يتراءى للأبوين أو الجراح.
سقط المسكين «ديفيد ريمر» (David Reimer) ضحية لهذا النمط من التفكير، فيما عُرف لاحقًا بتجربة «جون/جوان». كان الطفل «بروس ريمر» («ديفيد» لاحقًا) يعاني مشكلة في التبول، فاضطر للخضوع لعملية ختان غير ناجحة؛ أدت في نهاية الأمر إلى فقدانه عضوه الذكري. نُصح الوالدان لاحقًا بإجراء عملية تغيير الجنس له وإزالة خصيتيه، لينتهي به الحال فتاةً تُدعى «بريندا»، وحرص والداه على إخفاء هذه الواقعة بأكملها.
تعرض «بروس/بريندا» إلى كثير من المعاناة لشعوره الدائم بعدم الانتماء لجنسه، ورغبته في مشاركة الألعاب نفسها مع أخيه التوأم والتبول في مواجهة الحائط، لذا اضطر والداه في النهاية إلى إخباره بالحقيقة، وهنا قرر الخضوع لعملية جراحية تُعيده ذكرًا كما كان، وغير اسمه إلى «ديفيد ريمر».
ويصف كتاب بعنوان «كما أرادت له الطبيعة أن يكون: الولد الذي نشأ كفتاة» كَمَّ الألم والمعاناة التي تعرض لها «ديفيد/بريندا» طوال حياته.
لاحقًا، أُعيد النظر في دراسات «جون موني»، وأصبح واضحًا أنه محض مُضلِّل، لم يثبت نظرياته إلا بإرهاب مرضاه. كان الاستنتاج الحديث هو أن أي قرار بخصوص جنس الطفل ليس بيد أحد غيره.
قد يهمك أيضًا: هل يمكن اكتساب السلوك المثلي؟
هل القِرَدة أيضًا ذكورية؟
أكدت دراسات لاحقة أن الإناث والذكور مختلفون، ففي جميع الثقافات يُعدُّ الرجل أكثر عدوانية من المرأة، لكن الإناث تحرز نقاطًا أكثر من الذكور في اختبارات الذكاء الشفهية، بينما يتفوق الذكور في اختبار الأداء/الذكاء المكاني؛ أي القدرة على تصور الحركة وتقدير السرعات والمواقع والمسافات.
لاحِظ أن هذا فارق إحصائي بين الذكور والإناث، أي إنه يُطبَّق فقط على التعدادات الضخمة، لكن الذكر والأنثى يتشابهان في مجالات عدة، فيمكننا بالتأكيد أن نجد أنثى تتفوق من الناحية المكانية على الرجل، أو رجلًا يتفوق على الأنثى في قدراته الشفهية.
وتشير الكاتبة إلى أن فرضية تفضيل الذكور للأجسام المزوَّدة بعجلات؛ مثل الدراجات في الطفولة والسيارات في المراهقة والبلوغ، وتفضيل الإناث للدُمى، فرضية صحيحة ولا تقتصر على البشر فقط، بل على القردة أيضًا: «أصبحنا الآن أكثر تفهمًا تجاه الاختلافات الجنسانية، فنحن ندرك أن مدى حساسية الشخص تجاه هرمونات متعددة خلال مرحلة نموه كجنين لها أثر عميق على سلوكه الجنساني وتفضيلات التزاوج».
يُحفز التعرض للتوتر والقلق من سرعة التعلم عند الذكور، لكنه يعوقها عند النساء.
أخيرًا، اعترضت الباحثة «دافنا جويل» (Daphna Joel) في عام 2011 على تصنيف الأفراد بناءً على الجندر (النوع) وحده.
وأشارت «جويل» بدلًا من ذلك إلى أن التقسيم الجندري يقوم على عوامل عدة؛ مثل تنشئة الطفل، وتعزيز سلوك معين، والأساليب المعرفية، وفرط العدوانية، والتفاعل مع التوتر، والميل نحو الاكتئاب والتوحد، وصعوبات التعلم، والإجرام.
ويمكننا أن نرى أن كل واحدة من هذه الخصائص مستقلة عن غيرها، أي إن لها قواعد جينية تميزها، لكنها تتفاعل أيضًا مع انتماء الشخص الجنسي وخبراته الحياتية. على سبيل المثال، يُحفز التعرض للتوتر والقلق من سرعة التعلم عند الذكور، لكنه يعوقها عند النساء. ويعني هذا أنه إذا أخذنا بنموذج «جويل» لتحديد الجنس، فعلينا أن نضع في الاعتبار كل هذه العوامل قبل تحديد الهوية الجنسية لكل شخص.
أكد البحث العلمي إذًا أن الفروق والخصائص الجندرية بين الذكر والأنثى لا تعتمد بشكل قصري على العوامل الخارجية المحيطة؛ كالتعليم والثقافة وتنشئة الطفل، لكنها لا تقتصر كذلك على التكوين البيولوجي للإنسان فحسب، إنما هي مزيج معقد بين الاثنين.
وبحسب ما أوردته الكاتبة «جويس شينكاين» في إجابتها، يبدو أن الاعتماد على أحد هذه العوامل دون غيره، أو محاولة وضع شخص في قالب جندري دون إرادته، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التجارب المأساوية.