«اهتدى الصوفيون إلى كثير من المبادئ الروحية السامية التي يمكن أن تحقق للإنسان مبتغاه في علاقته بالله والعالم».
قد تكون هذه العبارة محل اعتراض منذ البداية عند قارئها، لارتباط التصوف بـ«الدّروَشَة»، وما يطرحه الإعلام عن هذه الفئة من كونهم أهل شعوذة ودجل وسحر، أو أهل تواكُل وقعود عن السعي، ومن أسباب التخلف الحضاري. وقد يكون قارئ العبارة من خصوم الفكر الصوفي بسبب ما ورثه من مذهبية معينة رأت أن أهل التصوف أصحاب عقائد منحرفة.
لكننا لا نبدأ من مُسلّمات أو موروثات حين نقرأ أو نكتب عن أحد. ولعل هذا مسلك إنسان اليوم، الذي لفظ الموروث لعدم إشباعه حاجاته، وثار عليه، وأراد أن يُكوِّن وجهة نظره بنفسه من خلال مطالعة وسعي حقيقي.
في هذا الموضوع سنحاول أن نطرح معنى التصوف، وبعض قِيَمِه الإنسانية التي نراها صالحة للنظر والتطوير، ومحل اتفاق من تيارات التصوف في الشرق والغرب، بل غاية من غايات كل إنسان أراد أن يشهد الحياة الحقة، وينشر ثقافة الحياة بين الناس.
التصوف أكثر رحابةً من المذهبية والأيديولوجيات
أن تكون صوفيًّا يعني أن تترفّع عن العنصرية والعصبية والخصومات المذهبية، وأن تعرف أن شعار «نحن على الحق»، الذي يتبعه بالضرورة «وسوانا على الباطل ومن أهل الزيغ والضلال»، شعارٌ مضلِّلٌ وقاتل لفكرة الإخاء الإنساني.
لم يكن الصوفية الكبار وأهل التجارب الإنسانية الثرية يفعلون ذلك، فالحق لم يكلف واحدًا منهم بأن يتحدث باسمه، أو يتكلم نيابة عنه.
شعار الصوفية ليس الحديث باسم رب العالمين، بل الحديث معه والإشارة إليه. أما الله، فقد تحدث عن نفسه قائلًا إنه «أكبر، وأوسع، وألطف، وأكثر رحابة» من الفِرَق والأيديولوجيات وكل شيء: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً؟ قُلِ الله».
أدرك الصوفية القدامى حقيقة أن «الاختلاف رحمة»، وأن كل الألوان، وإن تنوعت في صورها وتمثلاتها، توصل إلى الحق.
يقول مولانا جلال الدين الرومي في كتابه «المثنوي»: «فإن أنت وضعت عشرة مصابيح في مكان واحد، فقد يكون كلٌّ منها مختلفًا في صورته عن الآخر. ولكنك لا تستطيع أن تفرِّق بصورة قاطعة بين نور كلٍّ منها إذا نظرت إلى نورها. وأنت إذا عددت مئة من ثمار التفاح، فإن هذه لا تبقى مئة، بل تصبح واحدة حين تعصرها».
أما الآن، فيحدث أنك ترى من يدعون أنفسهم صوفية على عكس هذا السلوك، فعقيدتهم هي العقيدة القويمة، وعقائد الآخرين مخالفة لصحيح الدين. هم على الحق وغيرهم على الضلال، هم من يعرفون الله حق المعرفة وغيرهم مشبِّهون ومجسِّمون وعقائدهم فاسدة، ويجب التنبيه إلى ضلالهم.
إذا كان مِن الصوفية القدامى من نَأَى بنفسه عن هذا السلوك، فأَوْلى بك أن لا ترى التصوف بعيون هؤلاء، بل تتعرف إليه من خلال تجربة إنسانية حقيقية لم تتعصب أو تتحزب ضد فئة من البشر، تسعى إلى الكل باسطةً يدها أن «تعالَ تعال، لا يهم من أنت، ولماذا أتيت».
الصوفية هي التعالي عن كل زائف، عن كل بَهرج خَدّاع، حتى إن رُسمت على جبهته صورة التقوى.
كان قلب النبي محمد يشعر بقلوب أهل الجزيرة التي شهدت ميلاده النادر. مدح النبي الصادقين من أبناء الجزيرة، أخبرهم كما أخبر المسيحُ اليهودَ من قبل: ما جئت لأنقض الناموس، بل لأتمم. قال: «بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». كان قلبه أبيض من الثلج، فما رواه أصحابه عن السادة الأنبياء من قبله كانوا يقصدونه به، فكلهم من رسول الله ملتمِس. ومن هنا كثرت المرويات المنسوبة إليه وإلى أصحابه السابقين بالعيش مع حضرته.
انشغلت الأجيال اللاحقة بتصحيح الكلام وتضعيفه، وغاب عن حياة كثيرين المعنى الحقيقي الذي انبعث لأجله الكلام من قلبه ومن قلوب من أرادوا أن يتمثلوا به في الحياة.
كان قلب جلال الدين الرومي كبيرًا حينما تعلم من القرآن ومن تجربة النبي أن يستفيد من تراث السابقين، وينشد الحكمة في مظانِّها، غير متعلق بصورة أو رسم، فناشد بعدها الجميع أن «تعالَ، لا يهم من أنت». تعالَ لتتعالى عن كل زائف، عن كل بَهرج خَدّاع، حتى إن كرر لسانه اسم الحق، ورُسمت على جبهته صورة التقوى. تعالَ عن كل ما يبعدك عن إنسانيتك، ويجعل رسم قلبك بعيدًا عنك وعن كل بذرة آدمية حية.
تعلّق عقل الشاعر محمد إقبال بمشكاة الأنوار المحمدية. حين ذهب إلى بلاد الأنوار الغربية فهم أن رسالة ختم النبوة إعلان ميلاد العقل المكتمل الذي لم يعد في حاجة إلى شيخ أو مُلّا أو مدرس، يتعلق في رقبته طيلة عمره. ظنّ ظنًّا حسنًا، ونَقَد ما رآه من كسل وأمراض، وأشاد بما شاهده من حركة وتجدُّد وتطوير.
كان الظنُّ حسنًا، والفعلُ دليلَ حياة، لكن الأحياء أضحت تقدِّس وتدنِّس، تشجب وتندد، تُفكك وتهدم، تراقب كل حركة لتبني أمامها الأسوار، وتغرس الأوتاد الحديدية في ظهر كل من ترجو الحياة من مائه أن يتحرك.
الصوفية والتوكُّل
التصوف لا يعني السلبية والتنكُّر للواقع. سلبية التصوف فكرة مغلوطة، ظهرت بسبب فهم خاطئ لمقولات صوفية قُرئت بعين المخاصِم للتصوف أو المطالع لأدبياتهم بعين غريبة، وبصورة خاصة ما قيل عن التوكل والفناء.
أجمع الصوفية الكبار وأصحاب التجارب على أن التوكل حالة للنفس الراضية التي تسلم قلبها إلى ربها في كل أمورها، فلا يكون لشؤون الدنيا سلطان على القلب يجعل الإنسان أسيرًا لكل طارئ ومتغير، فيحوِّل بسط قلبه إلى قبض وتوتر دائم، يصرفه عن الأَوْلى والأهم.
التوكل عندهم لا ينافي السعي في الحياة، بل إن مشاركتهم في الواقع الدنيوي وعلوم عصرهم تؤكد أن السعي مطلوبٌ والطعنُ فيه خطيئة. يقول أبو القاسم القشيري في موسوعته الصوفية «الرسالة»: «التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب». ويقول جلال الدين الرومي: «إن لك يدين، فكيف تخفي أصابعك؟ إن لك ساقين، فكيف تجعل من نفسك كائنًا أعرج؟».