لماذا يتشابه نطق «ماما» و«بابا» في لغات ولهجات متعددة؟

الصورة: Getty/UntitledImages

مريم ناجي
نشر في 2018/09/09

إذا رسمنا شجرةً لغوية تجمع أصول اللغات العالمية المعروفة، سنجد أمامنا ما يشبه الأصل المشترك، ثم نلاحظ تكوُّن ما يمكن تسميته بالفروع الأساسية. هذه الفروع مقسمة إلى فروع أخرى، ولكل فرع خصائص مشتركة توضح الملامح العامة للغات التي يشملها.

لذلك يصبح من المنطقي وغير المثير للدهشة، أن نرى تشابهًا بين الحروف العربية والفارسية، أو بين الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، وهكذا، لأن الجذور واحدة.

لو تأملنا التراكيب الصوتية لعائلة اللغات الجرمانية، التي تشمل الفرنسية والإيطالية والإسبانية ولغات أخرى، سنجد اختلافًا واسعًا، ليس فقط لأن اللغات بطبعها مختلفة، بل أيضًا بسبب تواريخها وشعوبها وعدد متحدثيها والثورات الثقافية والتاريخية التي حدثت فيها.

تظهر الاختلافات في النطق وقواعد تركيب الجملة ومسميات الأشياء وتشكيل الأحرف أحيانًا. لكن «جون مكوهورتر»، عالم اللغويات بجامعة كولومبيا، يشرح في مقالٍ نشره في مجلة «The Atlantic»، كيف اتفق البشر ضمنيًّا على أن ينادوا أمهاتهم وآبائهم بالاسم ذاته، أو مع تغير بسيط في النطق أو التكوين. «ماما» و«بابا» من الكلمات العالمية الموجودة تقريبًا في كل اللغات بالمعنى نفسه.

هذا التشابه الغريب ملحوظ لأي شخص، وإن كان غير مهتم باللغات وتنوعها. عندما نتحدث عن اللغات الأوروبية المرتبطة بالإنجليزية، مثل اللغات الجرمانية، فهذا ليس مفاجئًا. لأنه رغم الاختلافات والتشعبات، نجد أن هذه اللغات كانت ذات يوم لغةً واحدة سماها علماء اللغويات «اللغة الهندية الأوروبية البدائية»، وتحدث بها شعب ما عاش في المساحة التي تشغلها دولة أوكرانيا الآن منذ آلاف السنين.

إذا كان الأم والأب عند الفرنسيين «maman» (مامو) و«papa» (بابَّا)، وعند الإيطاليين «mamma» (ماما) و«babbo» (بابو)، وعند النرويجيين «mamma» (مامَّا) و«papa» (بابَّا)، فربما يعود السبب بديهيًّا إلى أن هذه اللغات من عائلة واحدة.

كيف تنطق اسم مدينة «Llanfairpwllgwyngyllgogerychwyrndrobwllllantysiliogogogoch» الموجودة في «ويلز»؟

عندما نرجع بالزمن إلى الوراء عدة آلاف سنة، نجد أنه حتى اللغات المرتبطة ببعضها ارتباطًا وثيقًا، وجدت طريقةً لا يُمكن التعرُّف إليها لتتحول وتحيد عن ما هو معروف عن عائلتها اللغوية.

على سبيل المثال، اللغة الويلزية فرع من الشجرة الكبيرة للغة الهندية الأوروبية البدائية. لكن لم يتمكن أي من الفرنسيين أو الإنجليز الذين تنتمي لغتهم إلى العائلة نفسها، من إنتاج كلمات تتكوَّن من عدد كبير من المقاطع الصوتية المتنوعة، مثل اسم القرية الموجودة في ويلز «Llanfairpwllgwyngyllgogerychwyrndrobwllllantysiliogogogoch». وكفرع من شجرة لغوية، فقد خرجت اللغة الويلزية عن الحد الطبيعي، لكنها تعود إلى المعتاد عندما يتعلق الأمر بكلمة «أم»، فتكون «mam» (مام) و«أب» تكون «tad» (تاد).

هل استعارها متحدثو الويلزية من الإنجليزية؟ ربما. لكن توجد لغات أخرى لا تحيطها الإنجليزية، ولا تتشارك معها العائلة اللغوية، مع ذلك لديهم «ماما» و«بابا» أو كلمات قريبة جدًّا من ذلك. في إفريقيا، نجد متحدثي اللغة «السواحلية» يقولون «mama» (ماما) و«baba» (بابا). في الفلبين، متحدثو اللغة «التاغالوغية» يقولون «nanay» (ناناي) للأم، و«tatay» (باباي) للأب.

في اللغة «الفيجية»، «nana» (نانا) للأم و«tata» (تاتا) للأب. في الصينية التي يجد مُتعلمها اختلافًا مرعبًا بينها وبين لغته الأصلية، تُسمي الأم «mama» (ماما) والأب «baba» (بابا).

بالذهاب إلى أبعد من ذلك، ماذا عن اللغة «الشيشانية» في  بلاد القوقاز؟ «naana» (نانا) و«daa» (دا)، أو في لغات الأمريكيين الأصليين؟ في لغة الإسكيمو لديهم «anana» (أنانا) و«ataata» (أتاتا). اللغة «الكوازاتية» الموجودة في ولايتي لويزيانا وتكساس بالولايات المتحدة، تحتوي على «mamma» (ماما) و«taata» (تاتا). في دولة السلفادور بأمريكا الوسطى، لغة «البيبيل» (Pipil) نجد «naan» (نان) للأم و«tatah» (تاتاه) للأب.

قد يهمك أيضًا: لماذا قرر أب أن يعلم ابنه لغتين؟

رحلة تغيُّر الصوت والمعنى

نظرية مغرية أن نتخيل أن هذا يعني ببساطة أن الشعوب الأولى سمت الأبوين «ماما» و«بابا» أو« mom» و«dad». والكلمتان، لشدة الحميمية والدفء فيهما، قد نجتا من حبال التاريخ البشري في استهلاك اللغة وتغيرها لتبقى قيد الاستخدام حتى اليوم. لكنها نظرية سهلة جدًّا أكثر من أنها صحيحة وواقعية. مع مرور الوقت على اللغة، تتغير أصواتها لتتحول إلى أصوات جديدة، وحتى معاني الكلمات التي نعنيها اليوم، لم تكن هي ذاتها من ألفي عام.

بالعودة إلى اللغة الأم لكل اللغات، أي اللغة الهندية الأوروبية البدائية، وبمقارنتها باللغات الحديثة التي نستخدمها الآن، سنلحظ تشعُّب المعاني للكلمة الواحدة بمرور الزمن والثقافات. في اللغة الهندية الأوروبية البدائية كانت كلمة «mregh» تعني «قصير». نسخة اليونانيين للكلمة أشارت إلى العضد/الجزء العلوي للذراع، القصير بطبيعة الحال. بينما في اللاتينية أشارت إلى نوع من الفطائر يشبه الأيدي المكتوفة، ثم انتقل المصطلح إلى الفرنسية مشيرًا إلى أحزمة الكتف.

كل هذه الكلمات تسربت إلى الإنجليزية بهدوء في ما بعد. فالذي بدأ بمعنى «قصير» أصبح «Brachial» (عضدي) من اليونانية، ومن اللاتينية، أصبح يشير إلى «Pretzel» (كعك البريتسل) المُملح والجاف والشبيه بالعقدة أو الأيدي المكتوفة، وتحولت كلمة أحزمة الكتف إلى «Brassiere»، ثم أصبحت «Bra» التي تعني «حمالة الصدر».

قد يعجبك أيضًا: بأي لغة يتحدث إليك لاوعيك؟ وبعض الأسئلة الأخرى

كيف لطفلٍ صغير أن يقرر ثبات المعنى؟

أب يحاول إقناع طفله بنطق كلمة «دادا»

لذلك ليس طبيعيًّا أن تحافظ كلمتا «ماما» و«بابا» أو «داد» على دلالتهما وطريقة نطقهما دون تغيير يُذكر بمرور السنين وتبدل اللغات ومعاني الكلمات. فما الذي حدث؟ الإجابة موجودة في الطريقة التي يبدأ الأطفال الصغار بها الكلام. «رومان ياكوبسون»، عالم اللغويات الروسي، ومن أهم علماء القرن العشرين، وجد الإجابة، وطرحها في كتابه «Studies on Child Language and Aphasia».

يقول ياكوبسون إن الطفل الرضيع إذا حاول إصدار أصوات عشوائية، فأسهل حرف متحرك سيتمكن من إصداره هو «ah» (آآ) لأنه سيتمكن من إصداره دون أن يُحرك لسانه أو شفتيه، أي دون مجهود يُذكر بالنسبة إلى رضيع صغير. لذلك لو حاول أن يُنوِّع بين ما يقول، فالمحرك الأول لتغيُّر الـ«آآآآ» هو أن يُجرب أن يغلق شفتيه، ولأنه يفعل ذلك طوال الوقت خلال الرضاعة.

ماذا سيجد؟ تتحول الـ«آآآ» إلى «ممم»، فيجد الطفل أن لديه الآن سلسلة من «ممآآ» والصوت يتدفق من شفتيه ويتخلله عدة فواصل. هنا نشاهد خلق لفظ الـ«مااا».

يلعب الطفل وهو يحاول التحدث بهذه الطريقة، لكننا الكبار لا نسمعه بهذه الطريقة. الطفل يقول «ماما»، ويبدو لنا أنه يوجهُ نداءً لشخصٍ معين، ومن سينادي الطفل الصغير في هذا السن المبكرة غير أمه؟ تأخذ الأم «ماما» كمعنى واسمٍ يخصها، وخلال تحاورها مع الطفل تُشير إلى ذاتها بـ«ماما». سجَّل الطفل في ذاكرته أن الأم اسمها ماما ولا شيء آخر. حدث هذا مع البشر الأوائل، ويحدث الأمر مع كل طفل في العالم كله، أيًّا ما تكون لغته ولهجته. وأصبحت لفظة «ماما» تُعيد خلق نفسها مرةً «mom» أو «nana» أو «nanny»، تمامًا كما حدث.

أتت «بابا» أو «ببّا» بسبب صدفة بشرية مشابهة تقريبًا. بعدما نجح الرضيع في إصدار الصوت «مم»، يبدأ في إجراء تجربة أخرى تتضمن حركاتٍ أكثر تطورًا، فلن يكتفي بضم شفتيه، بل سيسحبها إلى الداخل قليلًا، يُثبتها لثانية واحدة، ثم يُفلتها مع نفخة هواء صغيرة. بهذا يكتشف صوت الـ«بِه» أو يُضيف لها اهتزازًا خفيفًا، فتصبح «بّه»، حسب مزاجه وقتها.

يبدأ الطفل باللعب بأصوات فمه بعد ذلك، مبتعدًا عن شفتيه، تحديدًا ذلك النتوء الموجود خلف الأسنان العلوية. من عند هذا النتوء يخرج صوت «دِه» و«تِه»، ويفسر الترتيب الذي يتعلم به الطفل إصدار الأصوات، لماذا أقرب شخصٍ إلى الطفل وأكثرهم رعايةً له، بعد الأم، يُسمى بابا أو بَبَّا أو داد.

هناك تفسير مماثل لنمط غريب آخر بين كلماتٍ معينة، وهي الضمائر اللغوية. عالمة اللغويات «جوهانا نيكولز» لاحظت أنه في أوروبا ومعظم دول شمال آسيا، تبدأ الضمائر «أنا» و«أنت» بالصوتين «مِه» و«تِه» على الترتيب، أو صوت «سِه»، وتكرروا بشكلٍ كبير، بحيث إنهم بالتأكيد لم يحدثوا مصادفة.

متحدثو الإنجليزية معتادون على ضمائر الفرنسية «moi» و«toi» وضمائر الإسبانية «me و«tu». يستمر الأمر عندما نذهب إلى لغات أبعد من ذلك، ففي الروسية «menja» و«tebja»، وفي الفنلندية «sinä» و«minä»، وحتى في اللغات الأوراسية التي هي مزيج من الأوروبية والآسيوية، في لغة دولة سيبيريا التي تُسمى «اليوكاغيرية» كانت الضمائر فيها «met» «tet».

في كتابها «Linguistic Diversity in Space and Time»، تقول نيكولز إن السبب في التشابه في ضمائر «أنا» و«أنت» يشبه كثيرًا التناوب بين «ماما» و«تاتا» (وكذلك السبب في أن ضمائر الفرنسية moi وtoi وضمائر الإنجليزية كانتا يومًا ما me وthou) وهو هو أنه حتى عندما تغيرت هذه اللغات بمرور الوقت، تأثرت أصوات الكلمتين «I» و«you» بالطريقة التي تختلف بها «ماما» و«تاتا». بمعنى أبسط، يستخدم الصوت «m» (مِه) للشخص الأقرب. «mama» (ماما) للإشارة إلى الأم، و«me» للإشارة إلى الذات. والصوت «t» (تِه)، والذي اكتشفه الطفل بعد «مِه»، يُستخدم للإشارة إلى من هو أبعد من الأم بفارق خطوة واحدة، الأب/بابا/تاتا.

يعني هذا أننا نعتبر الأم، في تصور الرضيع، تكون في المراحل الأولى جزءاً من تصور الطفل عن ذاته، ثم يبدأ الطفل بعد ذلك بالتعرّف على الأب ومناداته كأقرب شخص يتلو الأم.

اللغة أعقد بكثير مما نتوقع. لا توجد أي نظرية إطلاقًا ستجيب عن لماذا الكلمات في جملةٍ ما تبدو بالطريقة التي تبدو عليها. اللغة شديدة التغير لدرجة أنه لا يُمكن أن تهب لنا متعة فهم كل ما حدث منذ بدأ الخطاب البشري قبل مئة ألف وخمسمئة عام. لكنها، وعلى الأقل، تسمح لنا بأن نخمن الأسباب التي جعلتنا على ما نحن عليه.

مواضيع مشابهة