حيرت قلبي معاك: ما لا يستطيع العلم كشفه عن مشاعرنا

الصورة: jeanbaptisteparis

سلمى شعيب
نشر في 2017/02/01

الحب، البغض، القلق، جميع المشاعر التي تعتري النفس البشرية طالما كانت محفزًا قويًّا لخيالات الكُتَّاب والأدباء على مر العصور، وشغلت الفلاسفة أيضًا فحاولوا معرفة ماهيتها. 

إن المشاعر والوعي للأشياء من حولنا هي أهم ما يميزنا كبشر، وإن كنا اعتمدنا في الماضي على الفلسفة أو الأدب أو حتى العلوم الاجتماعية لمعرفة حقيقتها، فقد اختلف ذلك قليلًا في عصرنا هذا.

باستطاعتنا إيجاد تفسيرات علمية للعديد من الأسئلة بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي.

نعيش في العصر الحالي ثورة علمية، بات لها أثر على مجالات مثل العلاج والحروب والاتصالات، ووصلنا إلى مرحلة أصبح فيها العلم يحاول تفسير مشاعرنا على اختلافها، كما أصبحت تفسيرات العلوم العصبية تحظى بمصداقية كبيرة في النقاشات التي تدور عن الأحاسيس، فهل يكفي النموذج العلمي فقط لفهم مشاعرنا الإنسانية؟

في مقال لهما بمجلة «فورين أفيرز» (Foreign Affairs)، يحاول الكاتبان «كريستيان مادسبيرغ» (Christian Madsbjerg) الباحث في علم السلوك الإنساني، وعالم الاجتماع «مايكل كرينشل» (Mikkel Krinchel) إجابة هذا السؤال.

كيف نقع في الحب؟

مسارات الرسائل العصبية في المخ
مسارات الرسائل العصبية في المخ - الصورة: NICHD

يوضح الكاتبان أن باستطاعتنا إيجاد تفسيرات علمية للعديد من الأسئلة بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، الذي يقيس النشاط العصبي في الدماغ، ويُمكِّن العلماء من الاطلاع على المكونات الكيميائية والعصبية داخله وكيفية تفاعل بعضها مع بعض.

وتنال هذه النتائج مصداقية تُصعِّب من التشكيك فيها؛ بسبب سهولة فهمها حتى على غير المتخصصين، فبإمكانك ببساطة التمييز بين صورتين لمسح بالرنين المغناطيسي لدماغين، إحداهما لشخص واقع في الحب والآخر لا؛ إذ ستجد أن صورة الرنين لذلك المُحب أكثر إشراقًا وتختلف عن نظيرتها، وهو ما قد يكون له معنى شاعريًّا.

قد يهمك أيضًا: لماذا نقع في الحب: لماذا تكون خيبة الأمل ضرورية للشعور بالارتياح؟ 

الفخ الذي نصبه العلم

MRI

يشير الكاتبان إلى أنه رغم تسليم البعض بمصداقية النتائج، فإن مجموعة من الباحثين السويسريين اكتشفوا وجود أخطاء في البرمجيات المستخدمة لإجراء العمليات الإحصائية على مدار 15 عامًا. ويهدد هذا الاكتشاف النتائج التي توصلت إليها أكثر من 40 ألف مقالًا علميًّا، ناهيك بالقصص الصحافية والمواد الإعلامية التي استخدمتها لمحاولة فهم التجربة الإنسانية بشكل أكثر عمقًا.

تخبرنا هذه الدراسة بوقوع العلماء في خطأ، ولكن كيف نصب لنا العلم هذا الفخ؟

يعتمد عالَم اليوم على العلم، والبيانات الموضوعية، وما يمكن قياسه. هذه الأمور الثلاثة وسيلتنا المُثلى لفهم ما يحيط بنا، فكل ما يهم علميًّا هو ما يمكن قياسه وإخضاعه للأسس العلمية، وما عداه لا يعنينا في شيء. وقد غزت هذه النظرة مجالات الحياة الأكاديمية والعامة، وحتى مجال الأعمال.

الحب ليس مشاعر؛ بل نظام تحفيز يعتمد على تفاعلات كيميائية لا إرداية تدفعنا لبناء علاقة مع الشريك المحتمل.

يشبه ذلك وجود عدة زوايا لرؤية الشيء نفسه، ولكن الجميع يصرون على رؤيته من زاوية واحدة، وهو ما يفوِّت علينا إيجاد نظرة شاملة لحقيقة مشاعرنا حيال كل شيء.

لا يريدنا المنهج العلمي الحالي أن نرى تصرفاتنا أو مشاعرنا إلا اعتمادًا على بيانات موضوعية يمكن قياسها، مهملين بذلك منظور العلوم الإنسانية الزاخرة بالمعلومات والنظريات الفلسفية والنفسية.

ولهذا المنظور حيوية وروح تختلف عن العلوم؛ فهو منبع الفنون والآداب، كما أن التركيز على أمر واحد يجعلنا نحصل على استنتاجات قاصرة وغير صحيحة.

الحب بين العلم والإنسانيات

زواج هندي

اعتُبر الحب قبل الزواج في الهند القديمة تهديدًا لبنية المجتمع

الحب أكثر المشاعر المربكة التي تتعرض لنقاشات عامة وأدبية وفلسفية في جميع الأوساط والمجالات، وقد اعتبرته البشرية عَرَضًا يُودي إلى الجنون أو يُنتج أعظم الأشعار والروايات، إلى أن جاء العلم ليحاول فهم طبيعته.

ففي عام 2005، كشفت دراسة «هيلين فيشر» (Helen Fisher)، عالمة الأنثروبولوجي التي اعتمدت على مسوح الرنين المغناطيسي الوظيفية، أن الحب ليس مشاعر؛ بل نظام تحفيز يعتمد على تفاعلات كيميائية لا إرداية تدفعنا لبناء علاقة مع الشريك المحتمل.

ولكن ما المعلومات التي تمدنا بها هذه الدراسة عن طبيعة الحب؟ وكيف يتصرف الناس عندما يحبون؟

لا يقود الحب دائمًا إلى علاقة بين طرفيه، أي إن هناك حلقة ناقصة في تفسير العلوم العصبية للحب، فلا تُظهر صور الرنين كيف نتصرف أو ما خبراتنا، وتقتصر على توضيح ما يحدث في الدماغ عند الإحساس به، دون توقع ما بعد ذلك.

ويدلل الكاتبان على سطحية التفسير العلمي البحت للحب، مستشهدين بما ذكرته الكاتبة «ستيفاني كونتز» (Stephanie Coontz) في كتابها «تاريخ الزواج» (Marriage, a History)، عن أن الرابط بين الحب والزواج مجرد ظاهرة حديثة.

وتضرب «كونتر» مثلًا بالهند القديمة؛ عندما كان الوقوع في الحب قبل الزواج يُمثل تهديدًا لبنية المجتمع، كما كان الحب يُرى في العصور الوسطى على أنه شكل من الجنون، ويرفضه المجتمع إلا إذا كان داخل إطار ديني، وحتى يومنا هذا يقول المحامون المسؤولون عن إتمام إجراءات الطلاق إن الحب قد يكون هادمًا للعلاقات بقدر ما هو قادر على بنائها، فحتى إذا كان الحُب ليس إلا نشاطًا كيميائيًّا في الدماغ مثلما تفسره العلوم العصبية، فهو ليس بالضرورة ذا أثر إيجابي.

ومن وجهة نظر أدبية، يقول الروائي «نيل جايمان» (Neil Gieman): «هل وقعت في الحب من قبل؟ ألا تراه شعورًا مُخيفًا؟ ذلك الشعور الذي يجعل منك شخصًا ضعيفًا، تنكشف بسببه أمام إنسان آخر وتنهار كل دفاعاتك؛ فينفتح صدرك وقلبك فاتحًا الباب أمام شخص قد يعبث بمشاعرك»، وهو ما يصعب على العلم فهمه.

قد يعجبك أيضًا: بعيدًا عن السياسة: ماذا قال «أوباما» عما علمته أمه عن الحب؟

زاوية واحدة لا تكفي للرؤية

معمل أبحاث طبية

قد لا يمكننا الاعتماد في نهاية المطاف على زاوية واحدة للمعرفة، فنحن لا نقع في الحب داخل المعامل، والرنين المغناطيسي يعطينا صورة للدماغ يمكنها أن تبين التفاعلات الكيمائية التي تتسبب في إحساسنا بالحب، لكنها تعجز عن تفسير تصرفات الناس في علاقاتهم بمن يحبون، فذلك يحتاج إلى مراقبة الناس واستمداد الخبرة من العالم الحقيقي.

وهنا يأتي دور العلوم الإنسانية التي تعتمد على التجارب الواقعية وتفسيرها؛ كعلم النفس الذي يرى أن الناس يميلون لحب من يشبهونهم، أو علم الاجتماع الذي يحاول فهم تأثير المتغيرات في العالم الحديث على تجربة الوقوع في الحب، فهذه العلوم تفسر ما لا يقدر العلم بصورته التقليدية على تفسيره باستخدام أدواته، التي لا تعترف بما لا يُمكن قياسه.

وفي ضوء هذا نجد أهمية كبيرة للعلوم الإنسانية في تفسير السلوكيات أو ما لا يقدر العلم على تفسيره، لكن بالتجاهل الدائم لأهمية هذه العلوم في صالح النتائج العلمية، سنجد أن قدرتنا على إنتاج معارف إنسانية تتضاءل.

العلوم الإنسانية ومشاكل التمويل

يشير الكاتبان إلى أزمة التمويل التي تلحق بالعلوم الإنسانية، إذ انخفض في الولايات المتحدة الأمريكية بصورة ملحوظة، ووصل في 2011 إلى أقل من نصف النسبة المخصصة للأبحاث العلمية أو الهندسية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى فقد الكثير من علماء الإنسانيات حماسهم لتفسير عالمنا، فهم يفتقدون التقديرين المادي والمعنوي.

لكن المشكلة أعمق من هذا في عالمنا الحديث، فجميع المديرين التنفيذيين إما حاصلون على درجات عُليا في الهندسة أو ماجستير إدارة الأعمال (MBA)، في حين أنهم يجب أن يكونوا مثقفين ومحيطين بالعلوم الإنسانية.

وبالعودة إلى التحليل الذي أجراه السويسريون، نجد أنه يجب إعادة النظر في إعطائنا الأولوية المطلقة لعلم الأعصاب، لكن ذلك لا يعني أن نقلل من قيمة العلوم في تحليل السلوكيات أو المشاعر، فدورها مهم لإكمال الصورة الكلية لفهم مشاعرنا، لكن هناك زوايا أخرى لرؤية الصورة نفسها، فلا بد أن نلجأ للملاحظة المباشرة للبشر ولا نكتفي فقط بالإجراءات المعملية، وإلا أصبح فهمنا لمشاعرنا مختزلًا.

مواضيع مشابهة