بعد شهر من اندلاع الثورة الشيوعية الأولى في فبراير 1917، والتي تُشكِّل نصف الثورة الروسية أو البلشفية، ونتج عنها إلغاء نظام القيصر «نيكولا الثاني» وإلغاء الإمبراطورية الروسية، عاد لينين إلى روسيا من منفاه في سويسرا.
انقسمت السلطة وقتها إلى تحالف غير مستقر بين حكومة مؤقتة يهيمن عليها الليبراليون من جهة، والاشتراكيين في الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى.
في مواجهة المعارضة من الأحزاب اليسارية الأخرى، جادل لينين دون هوادة من أجل وضع حد فوري للسلطة المزدوجة، ولتكون كل السلطة للاتحاد السوفييتي.
دون عزمه وقيادته، ما حدثت ثورة أكتوبر التي تمثل الجزء المتمم للثورة البلشفية التي نتج عنها إقامة دولة اشتراكية وإسقاط الحكومة المؤقتة. وربما كان الحزب البلشفي اليوم ليس أكثر من مجرد حاشية في قصص التاريخ.
احتفالًا بمرور مئة عام على الثورة الشيوعية، أعاد المؤرخ والروائي الباكستاني البريطاني «طارق علي» رسم صورة لينين في كتابه «The Dilemmas of Lenin» (الذي صدرت ترجمته العربية مؤخراً بعنوان: مآزق لينين عن دار الكتب خان)، وهي أشبه بسيرة ذاتية جديدة للزعيم البلشفي، تُعيد النظر في حياته وفكره. ويستعرض طارق في مقاله بجريدة «الغارديان»، الجزء الأدبي من حياة لينين: ماذا قرأ؟ وبمن تأثر؟ وكيف تشكلت آراؤه؟
القيصر مُراقبًا ومحاصرًا للأدب
كان الأدب الروسي في ذروة قوته، لكنه كان مُحاصَرًا. وقتها كان من الصعب نشر النصوص السياسية في ظل النظام القيصري.
لعب الأدب دورًا كبيرًا في تشكيل الاتجاهات السياسية في روسيا، في الفترة التي وُلِدَ فيها فلاديمير إيليتش لينين عام 1870، وهي فترة كانت مشتعلة بالخلافات بين الكُتَّاب والنقاد.
أحد أشهر هذه الخلافات حدث قبل ميلاد لينين، لكنه يعد توثيقًا للروح الأدبية وقتها.
الخلاف بين الناقد الأدبي «فيساريون بِلينسكي» والكاتب «نيكولاي غوغول»، كان بسبب أن كتابة رواية الأخير «الأنفس الميتة» عام 1842، كانت حادة وساخرة، ونالت شهرةً واسعة لدرجة أنها كانت تُقرأ بصوتٍ عالٍ على الأميين.
أرسل بِلينسكي غاضبًا رسالة إلى غوغول قال فيها إن روايته لا قيمة لها، وستُنسى قريبًا، والسبب الوحيد في أنها بقيت وقتًا طويلًا بارزة في الساحة الأدبية، المقالات التي كُتبت عنها.
كان الأدب الروسي في ذروة قوته، لكنه كان مُحاصَرًا. وقتها كان من الصعب نشر النصوص السياسية في ظل النظام القيصري. كُتَّاب المقالات احتُجِزوا في المصحات إلى أن «يتعافوا». لكن، وبعبارةٍ أخرى، احتجزهم النظام حتى يتراجعوا علانيةً عن آرائهم. في الوقت نفسه، تعامل النظام مع الروايات والشعر بطريقة أكثر تساهلًا، وإن لم يكن في كل الحالات.
كان الرقيب الرئيسي هو القيصر، حاكم البلاد. مثلًا، كان الإمبراطور «نيقولاس الأول» يُصر على قراءة عدد من قصائد الشاعر «بوشكين» قبل أن تُطبَع. ونتيجة لذلك، حُظر نشر بعضها، وأُجِّل نشر قصائد أخرى، ودمَّر الشاعر بنفسه بعضًا من كتاباته خوفًا من اقتحام منزله فجأة. وبذلك، لن نعرف أبدًا ما تحتوي عليه الأشعار المحترقة من رواية بوشكين الشعرية «Eugene Onegin». ومع ذلك، استطاعت السياسة بعدد من الوسائل أن تتغلغل في الرواية الروسية بطريقة لا مثيل لها في رواية أي بلد أوروبي آخر.
أحب اللاتينية، ولم يستطع الفرار من الثقافة
قرأ لينين أعمال عملاقة الأدب اللاتيني باللغة الأصلية، والتهم أعمال غوته خلال العقدين اللذين قضاهما في منفاه.
البيئة العائلية التي تربَّى فيها لينين كانت على درجة عالية من الثقافة. والده كان شخصًا محافظًا ومثقفًا بحق، وعمل كبير مفتشي المدارس في منطقته.
في ظهيرة أيام الآحاد في منزل عائلته، قُرِأت مسرحيات شكسبير وغوته وبوشكين بصوتٍ عال، فكان من المستحيل بالنسبة إلى أي فرد من العائلة أن يهرب من هذا التثقيف.
في الثانوية، وقع لينين في حب اللاتينية، لدرجة أن معلمه توقَّع أنه سيصبح علَّامةً في هذه اللغة. ورغم أن التاريخ أراد للينين غير ذلك، فإنه لم يتخلص من شغفه بهذه اللغة، وبالأعمال الكلاسيكية المكتوبة بها.
قرأ أعمال عملاقة الأدب اللاتيني: «فيرجيل» و«أوفيد» و«هوراس» و«جوفينال»، بلغتها الأصلية، إضافة إلى أنه التهم أعمال غوته خلال العقدين اللذين قضاهما في منفاه.
أثرت معرفة لينين بكلاسيكيات الأدب في الفترة التي سبقت الثورة البلشفية: في إبريل 1917، أعلن انشقاقه عن الأرثوذكسية التي كانت العقيدة الديمقراطية الاجتماعية في روسيا، ودعا في مجموعة من الأفكار الراديكالية إلى ثورة اشتراكية في روسيا. استنكر عليه ذلك عدد من أصدقائه المقربين، لكن كان رد فعل لينين استشهاده بمقولة لشخصية «مفستوفيليس» من مسرحية «فاوست» لغوته: «النظرية، يا صديقي، رمادية. لكن شجرة الحياة الأبدية خضراء».
انتقد خصومه بمقارنتهم بشخصيات روائية
كان لينين مدركًا أكثر من غيره أن الأدب الروسي الكلاسيكي مُلغَّم بالسياسة، حتى الكُتَّاب غير السياسيين وجدوا أنه من الصعب إخفاء ازدرائهم من حالة البلاد.
كانت رواية «أبلوموف» التي كتبها «إيفان غونتشاروف» عام 1859، مثالًا على ذلك. أحب لينين هذا العمل الذي يصور تَبَلُّد طبقة النبلاء وقتها. أثبتت الرواية نجاحها بأن قوة فكرتها أضافت كلمة جديدة إلى المعجم الروسي: «Oblomovism» أو «الأبلوموفية»، وهو المصطلح الذي يُطلَق على نزعة الكسل والتراخي التي يعيشها بطل الرواية. واستخدم هذا المصطلح لإهانة الفئة التي ساعدت الحكم الفردي المطلق (الأوتوقراطية) ودعمته كي يبقى مسيطرًا لفترة طويلة.
انتقد لينين خصومه بمقارنتهم بشخصيات بغيضة وأحيانًا بسيطة، يستمدها من الرواية الروسية. مثلًا استخدم «الأبلوموفية» ليوضح حالة الشعب الروسي قائلًا إن هذا المرض ليست الطبقات العليا وحدها المصابة به، بل قطاع كبير من البيروقراطية القيصرية. حتى الأثرياء من البلشفيين لم يكونوا محصَّنين منه، كانت هذه حالة عَكَس فيها قلم «إيفان غونتشاروف» المجتمع ككل.
اختلف الكُتَّاب حول الوسائل الضرورية لإسقاط نظام القيصر. أيد بوشكين «انتفاضة الديسمبريين» عام 1825 التي تحدت خلافة القيصر «نيكولاي الأول». انتقد الكاتب «إيفان تورغينيف» القيصرية، لكنه كره بشدة العدميين الذين نصحوا باللجوء إلى وسائل تنشر الرعب في البلاد. بينما امتدح «فيودور دوستويفسكي» الإرهاب الأناركي أو اللاسلطوي، لكن تغيَّر موقفه بعد وقوع جريمة قتل فادحة في سانت بطرسبرغ.
كتب لينين مقالًا ذكر فيه أن تناقضات آراء تولستوي ومبادئه لم تكن مصادفة، بل إنها تعبير عن الظروف المتناقضة للحياة الروسية.
هاجم «ليو تولستوي» الحكم الدكتاتوري المطلق الروسي، وكان هذا ما أبهج لينين. لكن تولستوي دعا إلى العودة إلى التصوف المسيحي أو مناهضة الحرب، وبدلًا من تخيل مستقبل ثوري حقيقي، بحث تولستوي عن العزاء في الصورة المثالية لماضي مسيحي أبسط. كان هذا موقفًا باردًا ومتناقضًا من وجهة نظر لينين، وجعله يتساءل كيف يمكن لكاتب موهوب مثله أن يكون ثوريًّا ورجعيًّا في الوقت نفسه.
في ستة مقالات تقريبًا، فكك لينين التناقضات العميقة في مسرحية تولستوي. رغم أن الأخير وثَّق في رواياته الاستغلال الاقتصادي وعبَّر عن غضب الفلاحين، فإنه، من وجهة نظر لينين، كان قادرًا على تقديم تشخيص واضح ومفهوم للأوضاع، لكن عاجزًا عن تقديم صيغة للحل.
كتب لينين مقالًا بعنوان «ليو تولستوي مرآة الثورة الروسية»، ذكر فيه أن تناقضات آراء تولستوي ومبادئه لم تكن مصادفة، بل إنها تعبير عن الظروف المتناقضة للحياة الروسية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وبهذا مثلت تناقضات تولستوي دليلًا مساعدًا لتحليل لينين السياسي.
رغم قوة كلمات دوستويفسكي التي لا يُمكن إنكارها، صُدِم لينين من مبدأ «عبادة المعاناة» الذي اعتنقه.
مع ذلك، لم تصبح آراء لينين الأدبية نهجًا في سياسة الدولة. بعد أقل من عام من الثورة، وفي الثاني من أغسطس 1918، بعد الثورة البلشفية، نشرت صحيفة «إزفيستيا»، التي تأسست بعد الثورة أيضًا، قائمة بأسماء أشخاص رشحهم القراء، بغرض اقتراح بناء نُصب تذكارية لهم. كان دوستويفسكي الشخص الثاني بعد تولستوي، وكُشِف الستار عن هذا النصب التذكاري في موسكو نوفمبر 1918.
اقرأ أيضًا: بين الشيوعية والتعصب: كيف آمن لينين بالرأسمالية ثم انقلب عليها؟
ما العمل؟
الكاتب الذي كان له التأثير الأكبر في لينين، وعلى جيلٍ كامل من الراديكاليين في روسيا، كان الفيلسوف «نيكولاي تشيرنيشيفسكي»، الذي كان فيلسوفًا ماديًّا واشتراكيًّا. كتب روايته ذات الحِس اليوتوبي: «?What Is to Be Done» (ما العمل)، في قلعة بطرس وبولس في سانت بطرسبرغ، حيث كان مُحتجَزًا بسبب معتقداته السياسية.
أصبحت هذه الرواية بمثابة الكتاب المقدس للجيل الجديد، وإشاعة أنها هُرِّبت من السجن منحتها هالةً إضافية.
هذه الرواية جعلت لينين راديكاليًّا، وتيمنًا بتشيرنيشيفسكي الشعبوي الثوري، عنون لينين أول عمل سياسي رائد له بـ«?What Is to Be Done»، وكتبه ونشره في عام 1902.
النجاح الهائل الذي حققته رواية تشيرنيشيفسكي أثار غضب الروائيين وقتها، وبخاصة تورغينيف، أحد الذين هاجموا الكتاب. الأمر الذي جعل بعضًا من الكُتَّاب الثوريين يواجهون هذا الغضب بغضب مماثل. كان تورغينيف غاضبًا بشدة لدرجة أنه في مواجهة مع تشيرنيشيفسكي في حدث عام، أخبره بأنه روائي ثعبان.
لكن ماذا عن الرواية التي سببت كل هذا الجدل؟
خلال السنوات الخمسين الماضية، أجرى المؤرخ طارق علي ثلاث محاولات منفصلة لقراءة رواية تشيرنيشيفسكي كاملة، لكن فشلت محاولاته الثلاثة.
يوضح علي أن ما سبَّب اشتعال الساحة الأدبية ليس لأن الرواية من كلاسيكيات الأدب الروسي، بل المشكلة في توقيت كتابتها. فهذه الفترة لعبت دورًا حاسمًا في الفترة التالية لإرهاب النخبة المُثقَّفة من الروس. كان وقتًا راديكاليًّا على كل الأصعدة، لا سيما في موضوعات مثل المساواة والعلاقات بين الجنسين، وأيضًا حول كيفية النضال ومعرفة العدو من الصديق والعيش وفق قواعد معينة.
كان «فلاديمير نابوكوف»، كاتب رواية «لوليتا»، يكره تشيرنشيفسكي، لكنه وجد أن تجاهله مستحيل. في «الهدية»، آخر رواية كتبها نابوكوف، وعدد صفحاتها يتجاوز 400 صفحة، كرَّس 50 صفحة منها ليُقلل من قدر الكاتب ودائرته. لكنه، رغم ذلك، اعترف بأنه «كان هناك، وبطريقةٍ لا تقبل الجدل، شيء من الغطرسة الطبقية في مواقف الكتاب المعاصرين والجُدد تجاه تشيرنشيفسكي»، وكان هذا واضحًا في أنه حتى «تولستوي وتورغينيف وصفوه بأنه يشبه حشرة السرير نتنة الرائحة، وسخروا منه بكل الطرق الممكنة».
اعتاد لينين على الغضب من البلشفيين الشباب الذين زاروه في المنفى خلال السنوات التي تلت الثورة بين عامي 1905 و1917. كانوا يضايقونه بقولهم إن رواية «ما العمل؟» لتشيرنيشيفسكي غير قابلة للقراءة. رد عليهم بأنهم أصغر من أن يُقدِّروا عمقها والرؤية التي تحتويها، ويجب عليهم أن ينتظروا حتى سن الأربعين ويعيدوا قراءتها. حينها فقط سيفهمون أن فلسفة تشيرنيشيفسكي مبنية على حقائق بسيطة، وهي أن أصولنا تنحدر من القردة، وليس من آدم وحواء، وأن الحياة من وجهة نظره عملية بيولوجية قصيرة الأمد. من هنا جاءت الحاجة إلى السعي ليكون كل فرد سعيد.
الحركة الكلاسيكية التي كانت متجذرة بعمق في شخصية لينين، كانت بمثابة حاجز يسيطر عليه من التطورات الجديدة المثيرة في الفن والأدب التي سبقت الثورة وصاحَبَتْها. وجد لينين صعوبة في رؤية الحداثة تتكيف وتنتشر في روسيا. لم تكن الأعمال الفنية التجريبية لحركة الطلائعية أو الأعمال الفنية الإبداعية الجديدة تتماشى مع ذوقه.
كان لينين معاديًا قويًّا لأي فكرة عن الأدب والفن البروليتاري الذي تكتبه الطبقة العاملة لأفرادها، مُصرًّا على أنه لا يمكن تجاوز قمم الثقافة البرجوازية بواسطة صيغ ميكانيكية تُقدَّم في بلد مستوى الثقافة فيه منخفض جدًّا بالمعنى الشامل. وكان محقًّا في هذا، حسبما يرى طارق علي.
لكن الأعوام التي تلت وفاة لينين شهدت تصاعد موجة من الواقعية الاشتراكية، أنتجت أعمالًا يغلب عليها الدعائية والأيديولوجيا. انحدر الإبداع، حسبما يرى طارق علي، متزامنًا مع فترة لم تتحقق فيها اليوتوبيا الشيوعية في روسيا، ولا في أي مكان آخر.