إذا كنت أعسر، فغالبًا قوبل استخدامك ليدك اليسرى ببعض العَجب في اللحظة التى اكتشف فيها الآخرون أمرك، في الغالب تعيش غريبًا في عالم صُمِّم أساسًا ليناسب الأشخاص اليُمن، الذين نسوك أو تناسوك باعتبارك تنتمي إلى أقلية صغيرة، بل وغير مرشحة للزيادة. ربما شعرت بالضيق أحيانًا لأنك مجبر على التأقلم مع تجاهل احتياجاتك الخاصة في كثير من الأوقات، حتى أن أمور تافهة، مثل استخدام المقص أو فتاحة العلب، تُذكرك بأن عليك أن تدفع ثمن ما جُبِلت عليه.
أو العكس، قد ترى نفسك متميزًا، مختلفًا، وربما اعتقدت في قرارة نفسك أنك أكثر إبداعًا أو ذكاءً من ذوي اليد اليمنى، وسعيت إلى توضيح أنك أعسر عند كل فرصة، لإيمانك بأن العُسر يتمتعون بقدرات خاصة.
ولعلك لست من هؤلاء ولا هؤلاء، فأنت أعسر تكيّف مع عالم اليُمن حتى نسي أنه يختلف عنهم، ولا يتذكر الأمر إلا لو نبهه إليه أحدهم.
لكن في جميع الأحوال، لا بد أنك تساءلت: لماذا؟ لِمَ وُلدت أعسر؟ ما العامل الذي تسبب في هذا؟ لماذا يبدو العُسر أقلية ضمن البشرية؟
جنين أعسر: كيف تبدأ سيطرة إحدى اليدين؟
أظهرت دراسة صادرة في عام 2017 أن النخاع الشوكي وليس المخ، كما كان يُعتَقد، هو المسؤول عن سيطرة إحدى اليدين، إذ ينمو الجانبان الأيمن والأيسر من النخاع الشوكي بسرعات مختلفة، وهذا اللاتناسق في النمو مسؤول عن تحديد إن كان الشخص سيصبح أيمن أم أعسر.
لاحظ العلماء من متابعة أَجِنّة عمرها ثمانية أسابيع أن الجنين الأيمن يحرك اليد اليمنى أكثر من اليسرى، في مرحلة لا يكون فيها المخ بعدُ قادرًا على إرسال إشارات إلى الذراعين، إذ لا تكون القشرة الحركية (motor cortex) الموجودة في المخ، التي ترسل إشارات إلى النخاع يترجمها إلى حركة، متصلة بالنخاع الشوكي في تلك المرحلة المبكرة.
استنتج الباحثون أن النخاع هو المسؤول عن تحديد سيطرة إحدى اليدين، كونه وحده يرسل إشارات إلى الذراعين. ويرى العلماء أن هذا التفضيل تتحكم فيه عوامل بيئية.
أعسر في عالم أيمن: هل يعاني؟
عانى العُسر في الماضي في أنحاء العالم، وأُجبروا على استخدام اليمين، وكانوا يُضربون على مفاصل أصابعهم ويُحبسون، ويُتّخذون مادةً للسخرية.
يُعتقد أن نسبة الأشخاص العُسر في العالم لم تتخطّ 3% قبل بداية القرن العشرين، وازدادت لاحقًا مع زيادة تقبلهم مجتمعيًّا. لكن هل لا يزالون يعانون حتى الآن؟ «منشور» تحدث إلى عدد من أصحاب اليد اليسرى، وبعضهم فضّل الإشارة إليه باسم مستعار.
مصممة الغرافيك أميرة (32 عامًا) تقول إن والديها حاولا أن يُثنياها عن استخدام يدها اليسرى في تناول الطعام وهي صغيرة، غير أنهما لم يُلِحّا عليها. ورغم تسامح أبويها مع الأمر، لم تسلم من ألسنة الناس، الذين كانوا كثيرًا ما يعلقون مستنكرين: «تأكلين بيدك اليسرى؟ هذا حرام»، ثم يسارعون بلوم أمها على تركها دون تقويم، في الوقت الذي كانت أمها تؤكد لها أن «هكذا خلقك الله، وبالتأكيد لن يعاقبك».
أميرة كانت أوفر حظًّا من غيرها، إذ توضح هبة (31 عامًا)، مهندسة مدنية، أن أبويها أجبراها وهي طفلة على استخدام يدها اليمنى في الأكل، معتبرين تناول الطعام باليد اليسرى حرامًا ويجعل الشيطان يأكل معها. رضخت هبة للضغط، لكنها احتفظت بحقها في الاعتماد على يدها اليسرى في شتى أمور الحياة الأخرى سوى الأكل، وفي عملها كمهندسة.
تعرضت المهندسة الأخرى مريم (32 عامًا) للضغوط نفسها من أهلها، لكنها تفخر بأنها تمردت على محاولات والديها لإجبارها على استخدام اليمين في الأكل.
ثَمّة اعتقاد شائع لدى الشعوب العربية بأن استخدام اليد اليسرى في الأكل محرم شرعًا، غير أن الشيخ علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق، يؤكد أن الرسول كان يستخدم يديه الاثنتين في الأكل، فيمسك في اليمني «قثاء» وفي اليسرى بطيخًا، يكسر حر هذا ببرد ذاك.
لا يرى جمعة حرجًا في الإمساك بالشوكة باليد اليسرى والسكين باليمنى أو العكس، ويرى كذلك أن استخدام اليد اليمنى سنة وليس فرضًا، وتركها من باب عدم القدرة لا حرج فيه، ما دام لا يُقصد به التكبر على سنة النبي. ومن المأثور أن الصحابي عمر بن الخطاب كان أعسر.
لاعبو رياضة الشيش اليُمن يخشون منافسيهم العُسر في العادة، بينما يهاب اللاعبون العُسر مواجهة أمثالهم.
عبد الحميد، جراح الأنف والأذن والحنجرة الذي يبلغ 74 عامًا، يقول إنه كان شخصًا أيمن قبل أن يتعرض كتفه اليمنى للخلع وهو بعدُ لم يكمل عامه الأول، مما اضطره إلى الاعتماد على يده اليسرى، ليصبح أعسر بالممارسة.
يحكي عبد الحميد أن أحد أساتذته من الأطباء المشرفين على قسم الدراسات العليا اشتهر بترديده عبارة «لا ينجح عندي أعسر ولا أحول»، لكنه كان محظوظًا لإفلاته من هذا الأستاذ المتعنت. وفي حياته المهنية، لم يمثل استخدامه لليد اليسرى عائقًا أمام ممارسته الطب، فكل ما في الأمر أنه كان يتطلب تجهيزات مختلفة، فكان يعيد ترتيب غرفة العمليات قبل البدء، لتكون الإضاءة وجهاز التخدير والآلات في متناول يده اليسرى بدلًا من اليمنى.
يظل العُسر مجبَرين على التكيف مع أوضاع مُرتّبة لخدمة الأشخاص اليُمن بشكل أساسي، وتحكي أميرة أنها اعتادت استخدام «ماوس» الكمبيوتر بيدها اليمنى، رغم أن طبيعة مهنتها كمصممة غرافيك تتطلب دقة وحساسية تمتلكهما اليسرى. لكنها كانت تعاني في فترة الامتحانات الدراسية، فكانت كثيرًا ما تضطر إلى الجلوس على كراسٍ ذات مساند يمنى، وتعتبر نفسها محظوظة إذا وجدت كرسيًّا ذا مسند أيسر يساعدها في الكتابة بيدها المفضلة.
هل شعرَتْ خلال دراستها في كلية الفنون الجميلة بأنها صاحبة «موهبة أكبر» من غيرها من الزملاء اليُمن؟ لا، رغم أن الأسطورة تقول إن «العُسر أكثر إبداعًا من اليُمن»، بحسب قولها.
يشرح محمد (35 عامًا)، الطيار المدني الـ«أيمن»، أن الطيران من المهن التي يتساوى فيها اليُمن والعُسر، فالطيار المبتدئ يجلس في المقعد الأيسر في كابينة الطيران، فيستخدم يده اليسرى في توجيه الطائرة واليمنى للتحكم في المحرك، ثم ينتقل إلى المقعد الأيمن عندما يصبح طيارًا مساعدًا، ويعود مجددًا إلى المقعد الأيسر حين يصبح «كابتن»، وهذا التنقل بين اليمين واليسار قد يسبب بعض الارتباك لليُمن والعُسر على حد سواء.
ثلاثةٌ ممن تحدث معهم «منشور» مارسوا الرياضة، والثلاثة أجمعوا على أن كونهم عُسرًا جعلهم متميزين رياضيًّا. عبد الحميد كان يمارس كرة القدم في صغره، وكان يلعب في مركز الجناح الأيمن لِما يتمتع به من قدرة على التسديد بالقدم اليسرى. وتحكي مريم أن مدرب كرة اليد سارع بضمها إلى فريق النادي بعد أن اكتشف أنها تلعب بيدها اليسرى، وأصر على رأيه رغم حداثة سنها وقلة خبرتها. أما أميرة فتوضح أنها كانت تلعب في مركز الهجوم في فريق الكرة الطائرة، لأن ضرباتها باليد اليسرى كانت «غير متوقعة وصعبة» بالنسبة إلى الخصوم.
يقول محمد، الذي يمارس رياضة الشيش بانتظام منذ زمن، إن لاعبي السلاح اليُمن عادةً ما يخشون منافسيهم العُسر، لأنهم قليلًا ما يواجهونهم في التدريبات لندرة عددهم، إضافةً إلى أن المساحة المكشوفة من صدورهم تكون أصغر عندما يُنازِلون اليُمن. والطريف أن لاعبي السلاح العُسر يخشون مواجهة أمثالهم، لاعتيادهم مواجهة اللاعبين اليُمن.
تدفعنا هذه الشهادات إلى التساؤل عن الأسباب التي تجعل العُسر متميزين رياضيًّا.
قدم يسرى ذهبية: لماذا يتميز العُسر في الرياضة؟
ظلت نسبة الأشخاص العُسر في العالم ثابتة نسبيًّا عند 10% تقريبًا منذ بدايات القرن العشرين، وتقترح دراسة حديثة أن السبب في ذلك الثبات يرجع إلى التوازن الذي يحدث بين عمليتي «التعاون» و«التنافس» في تطور البشرية.
يقول «دانيال أبرامز»، أستاذ العلوم الهندسية والرياضيات التطبيقية، إن الطبيعة الاجتماعية للإنسان، التي تُغلِّب الحاجة إلى التعاون، هي التي جعلت 90% من البشر يستخدمون اليد اليمنى. فلو كانت المجتمعات متعاونة بشكل كامل، لكان الناس جميعًا يستخدمون اليد ذاتها، ولو كان التنافس هو الصفة الحاكمة لعلاقات البشر، لانقسمت نسبة اليُمن إلى العُسر بالتساوي.
لو كان التعاون يدفعنا إلى استخدام اليد نفسها لأننا نستخدم الأدوات ذاتها، فإن التنافس الرياضي، على العكس، يتميز فيه المختلفون، ومن هنا نفهم تفوق الرياضيين العُسر وتميزهم.
حَوّل أبرامز نظريته إلى نموذج رياضي نجح في التنبؤ بنسبة العُسر المتميزين في عدة رياضات. وحسب النموذج، كلما كانت الرياضة أعلى تنافسيةً وتتطلب مواجهة فردية، زادت نسبة العُسر المتميزين فيها، لذا يتفوق العُسر بشكل خاص في رياضات مثل السلاح والملاكمة وتنس الطاولة.
مثلًا، أكثر من 50% من لاعبي البيسبول المتميزين عُسر، في الوقت الذي لا يمثل العُسر المتميزون في رياضة كالغولف سوى 4% فقط، فهي لا تتضمن أي احتكاكًا جسمانيًّا أو اقتتالًا.
حسنٌ، هل يا ترى يتمتع العُسر بقدرات إبداعية أعظم من اليُمن مثلما يتفوقون عليهم رياضيًّا؟
أعسر وأفتخر: هل العُسر أكثر إبداعًا؟
يستند الاعتقاد بأن العُسر أكثر إبداعًا من اليُمن إلى فكرة أن الفص الأيمن من المخ، الذي يسيطر على اليد اليسرى، هو بيت الإبداع في الدماغ.
لكن علماء اليوم يؤمنون أن الإبداع نشاط يتطلب عمل فصي المخ معًا، وتؤيد هذا الرأي أبحاث عالم الأعصاب «روغر سبري» في ستينيات القرن الماضي، التي درس فيها حالة مرضى مصابين بنوبات صرع حادة، تطلّب علاجهم وقتها فصل فصي المخ عن بعضهما جراحيًّا. ورغم أن الجراحة عالجت المرض، فإنها أدت إلى قطع الاتصال بين فصي المخ، وصار ما تراه العين اليمنى لا يدركه سوى النصف الأيسر من المخ.
فتحت دراسات سبري الباب أمام مزيد من الأبحاث، خلصت إلى أن الإبداع عملية معقدة تتطلب عمل نصفي المخ معًا، وليس أحدهما فقط.
لو أخذنا العزف على البيانو مثالًا، لوجدنا أن إجادته تتطلب تكرار بعض التمارين وحفظ كثير من حركات اليد، وهي أمور من تخصص الفص الأيسر في المخ، في الوقت الذي يتطلب فيه الارتجال والتعلق العاطفي بالمقطوعة الموسيقية عمل النصف الأيمن، أي أن عملًا إبداعيًّا كإتقان العزف على البيانو يحتاج إلى المخ بفصيه الاثنين.
أعسر بالوراثة: ما الذي يرفع فرص ولادة طفل أعسر؟
حتى إن كنا نحتفل بالعُسر في 13 أغسطس من كل عام، فإن نسيان احتياجاتهم والتغافل عن تكييف المنتجات المتنوعة لتناسب استخدامهم يعني أنهم لا يزالون مضطهدين.
تشير الدراسات إلى أن احتمالات ولادة طفل أعسر لأبوين يستخدمان اليد اليمنى لا تزيد عن 9.5%، لكن هذه النسبة تتضاعف لو كان أحد الأبوين أعسر، وترتفع إلى 26% لو كان الاثنان من ذوي اليد اليسرى. وتؤكد أبحاث أن 18% من التوائم المتطابقين يكون أحدهما أعسر والآخر أيمن، وترتفع فرص اختلاف تفضيل إحدى اليدين بين التوائم عمومًا مقارنةً بالأشقاء العاديين.
المثير أن مسحًا أجرته جامعة بريتيش كولومبيا الكندية أظهر أن فرص ولادة طفل أعسر ترتفع بنسبة 128% إذا كانت الأم قد تخطت الأربعين. ويرى الباحثون أن ذلك ربما يرجع إلى عدة أسباب، منها صعوبة عملية الولادة في تلك السن، والتعقيدات البيولوجية المرتبطة بولادة توأمين أو أكثر.
حتى إن كنا نحتفل بالأشخاص العُسر في 13 أغسطس من كل عام، فإن نسيان احتياجاتهم والتغافل عن تكييف المنتجات المتنوعة لتناسب استخدامهم يعني أنهم لا يزالون مضطهدين، أو لنقل متجاهَلين في كثير من الأحيان، رغم أنها يسعون إلى التأقلم فقط، دون جلبة.