تشتهر بعض الدول بإنتاج أنواع معينة من المشروبات الكحولية والخمور، إذ تنشط فرنسا في صناعة النبيذ، بينما تتميز اسكتلندا بالويسكي على سبيل المثال.
وفيما تحرص دولنا العربية على عدم الاقتراب من هذا المجال، علنًا على الأقل بسبب حساسيات مجتمعية، فإن الأمر ليس كذلك في لبنان، كما يشير موقع Your Middle East.
من «كارفور» إلى «نحلة»
بعد مسيرة ناجحة كاستشاري أعمال في فرنسا والسعودية، اتخذ الشاب اللبناني «ماهر حرب» قرارًا بتغيير مجال عمله تمامًا؛ من الآن سيصنع النبيذ.
خلال إقامته في فرنسا، بدأ «حرب» يبحث في صناعة النبيذ، اشترى العنب من متجر «كارفور» القريب منه وأخذ يُجرِّب. طبقًا لمعلوماته، تمتاز قرية «نحلة» التي نشأ بها بمناخ وتربة صالحتين لزراعة كروم العنب. «نحلة» قرية جبلية تقع في بعلبك لبنان، وكانت موطنًا لصناعة النبيذ من قبل، ومن هناك نوى بدء مشروعه الجديد.
عقب تفكير قرر أخيرًا أنه سيغير مسار حياته، وفي عام 2012 زرع أول كرمة عنب في «نحلة».
لبنان: فرنسا شرق المتوسط
لبنان من الدول صاحبة الشهرة في مجال صناعة النبيذ عالميًّا، خصوصًا بعلبك، كيف لا وهي تضم معبد الإله «باخوس» (Bacchus) إله النبيذ الأبيض عند قدماء الرومان؟ مثلما تعد فرنسا وإيطاليا في أوروبا من أشهر دول شرق المتوسط المصنعة له.
أثَّرت الحرب الأهلية في لبنان على هذه الصناعة، لكن حتى خلال الحرب استمر ثلاثة صُنَّاع في إنتاج النبيذ. وبحسب كاتب المقال، فإن الإنتاج آخذ في التزايد تدريجيًّا خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، وحاليًا يوجد نحو 40 مُصنِّعًا لأنواع مختلفة من النبيذ الأبيض والأحمر.
البداية من غرفة صغيرة
يقول ماهر حرب: «كان لدي دافعان لتغيير مسيرتي؛ الأول هو العودة إلى أرض أبي، والثاني أن أصنع شيئًا يجعله فخورًا بي»، مؤكدًا أن «صناعة النبيذ تتعلق بالطبيعة والحب والشغف والأصالة، وكأنها جذورك. ولتكريم والدي، لم أجد أفضل من صناعة النبيذ في أرضه».
لا يزال إنتاج حرب محدودًا، لكنه يسعى للتوسع. أول إنتاجه كان في مساحة صغيرة للتصنيع داخل غرفته، قبل الانتقال إلى مساحة أوسع في الجراج عام 2015. وحاليًا، يبني الشاب الثلاثيني مصنعه الخاص قريبًا من منزله، ومن المتوقع أن يكون جاهزًا للعمل عام 2017.
قد يعجبك أيضًا: تاريخ الكحول في العراق منذ اختراع البيرة إلى منع البرلمان
العنب المحلي أم المستورد؟
من بين أنواع العنب المختلفة، يفضل ماهر حرب عنب «العبيدي» الذي يُزرع في لبنان. يشير إلى أن اختيار البدائل المحلية وعدم الاعتماد على الاستيراد عملية شديدة الأهمية، بل واجب على كل دولة، لأن البديل المحلي يُعبِّر عن هوية البلد المُصنِّع و«يتكامل مع عناصر الطبيعة الأربعة التي نشأ فيها؛ النار، الماء، الأرض، الهواء».
كيف لصُنَّاع النبيذ أن يجمعوا خصوبة الأرض والهواء المنعش والشمس الدافئة وعناقيد العنب الناضجة ومجهود المُزارع في كأس واحدة؟
لكن لم يكن هذا رأي اللبناني الآخر «سيباستيان خوري»، مالك شركة (Domaine de Baal) لصناعة النبيذ، الذي يوضح أن العنب مثل البشر، ومثلما نجد اختلافًا بين سلوك الناس في الغربة، نقابل سلوكًا مختلفًا من العنب حال زراعته في غير أرضه؛ فالعنب الذي يُزرع في فرنسا يصنع نبيذًا مختلفًا عما إذا زُرع هو نفسه في لبنان.
ويؤمن «خوري» بأن تربة لبنان ممتازة، لكنه يرى أن عنب «العبيدي» وغيره من البدائل المحلية لن يحقق النتائج المرجُوَّة.
ويُصنع أحد أشهر أنواع النبيذ اللبناني، (Château Musar)، باستخدام نوعين من العنب المحلي. وبالنسبة للمالك التاريخي للشركة «سيرج هوشار»، الذي توفي بداية عام 2015، فإن النبيذ اللبناني هو المشروب المُعبِّر عن لبنان، سواءً عن أرضه أو أهله، وكان يردد دومًا أن «النبيذ فوق السياسة، النبيذ يعني التسامح»، بل كان يرى أن نبيذ شركته يحتاج إلى روح وعقل للاستمتاع به.
اقرأ أيضًا: كيف يُستهلك الكحول في الدول العربية التي تمنعه؟
كل هذا في كأس واحدة
تذوق النبيذ يخضع للمزاج الشخصي، فلكلٍّ رأيه وذائقته وتفضيلاته، لكن بالنسبة لصُنَّاع النبيذ فإنهم دائمًا أمام تحدٍّ مع الشخص الذي يتذوق منتجهم للمرة الأولى، فكيف لهم أن يجمعوا خصوبة الأرض والهواء المنعش، بجانب الشمس الدافئة وعناقيد العنب الناضجة ومجهود المُزارع، كل هذا في كأس واحدة؟
كان «سيباستيان خوري» يحرص، في كل مرة يعرض فيها مُنتجه خارج لبنان، على أن يشرح لزبائنه طبيعة لبنان وجماله، ثم يفسر لهم أسلوب عمله لإنتاج النبيذ، وعادةً ما تنجح هذه الطريقة، وهو ما اتفق معه ماهر حرب كذلك، مؤكدًا أنه يستطيع نقل شغفه في عملية التصنيع لمن يتذوق.
وإن كان لدى حرب إضافة مهمة، فإنه يرى أن متذوقي النبيذ الذين لديهم مُخَيَّلة واسعة أكثر مَن يحسُّون بكل المشاعر التي يحاول أن ينقلها من خلال منتجه، خصوصًا وهو يحرص دائمًا على أن يكون نبيذه طبيعيًّا قدر الإمكان، مع القدر الأدنى من التدخل البشري.
قد يهمك أيضًا: «زبادو»: حكاية المشروب المالح الذي عبر المحيط ليصبح حُلوًا
لماذا الرقم سبعة؟
اختار ماهر حرب اسم (Sept)، ويعني الرقم سبعة بالفرنسية، ليكون علامة تجارية تحملها زجاجات النبيذ التي ينتجها.
في أثناء بحثه عن الاسم المناسب، كان يسعى لأن يعكس ارتباطه القوي بوالده، وقفزت الفكرة إلى رأسه حين أخبره أخوه أنه، أي ماهر، وأباه مرتبطان بالرقم سبعة بطريقة ما؛ إذ توفي والده قبل الحرب الأهلية في لبنان عندما كان ماهر لا يزال في السابعة من عمره.
بعد أن باع كل ما صنعه في 2015 من النبيذ عن آخره، يخطط حرب لإنتاجه المقبل، لكنه متأكد من أنه سيستمر في تصنيع النبيذ من الكروم الخاص به في «نحلة» وكروم أخرى في سهل البقاع، محافظًا على أن تكون ميزته الرئيسية هي المكونات الطبيعية.
في نعيه لـ«سيرج هوشار»، وصفه الصحفي اللبناني ميشال كرم بأنه مقاتل، مقاتل من أجل صناعة النبيذ ومن أجل وطنه، والآن نحن في انتظار ما سيمثله ماهر حرب لهذه الصناعة مستقبلًا.
أما بالنسبة لحرب نفسه، فإنه يطمح لصنع نبيذ يُعبِّر عن جمال لبنان الذي يكمن في تنوعه، ويعيد الناس إلى الطبيعة والبساطة، وإن كان سيحتاج إلى الكثير جدًّا ليصل إلى مراده.
مَن كان يظن أن وراء المظهر التقليدي لزجاجة النبيذ رحلة طويلة مثل هذه؟