رغم أن وجود الإنسان بصحبة الآخرين ليس من الحاجات البيولوجية المُلِحة التي يَهلك الإنسان لو لم يشبعها، فبدونها لا يمكنك أن تسلم من المشاكل النفسية، التي بدورها تؤثر في صحة جسدك. اقتضت «الفطرة السويّة» للإنسان أن يكون اجتماعيًّا إذًا.
الغريب أن هناك من لا يستمتع بوجوده مع آخرين، وهناك من يشعر برضا تام في عزلته، ما يعني أن هناك معادلة خفية نتيجتها أن الشعور بالوحدة ليس مرتبطًا دائمًا بالعزلة عن البشر.
وفي هذا الصدد، بحث الفلاسفة والشعراء عن سبب منطقي لتلك المشاعر المختلطة، وتناولها مقال منشور على موقع «Aeon».
كيف تعامل الفلاسفة والمفكرون مع الوحدة؟
تساعدنا العزلة على تأمل تصرفاتنا وتحسينها، بالهروب من ضوضاء الحشود والاختلاء بالنفس والاستماع إليها.
في عام 1840، كتب الشاعر الأمريكي «إدغار آلان بو» قصيدة عن «الطاقة المجنونة» لرجل مسن ظل يجوب شوارع لندن من الغسق إلى الفجر، إذ أنه كان مصابًا بحالة من اليأس لا يخففها سوى إقحام نفسه في زحام سكان المدن، فهو يرفض أن يكون وحيدًا، حتى أن بو أطلق عليه «رجل الزحام».
كغيره من الشعراء والفلاسفة على مر العصور، شدد بو على أهمية العزلة، ورأى أنه من سوء حظ الإنسان أن يفقد القدرة على أن يبقى وحيدًا، وأن يستسلم لفكرة عدم الشعور بالراحة إلا وسط جموع البشر.
وبعد عقدين من الزمان، تحدث الشاعر الأمريكي «رالف والدو إمرسون» عن مفهوم العزلة برؤية مختلفة إلى حد ما، فقد رأى أن الطبيعة تداعب خيال الإنسان عندما يكون بمفرده بشكل لا يحدث عندما يكون برفقة آخرين، وطالب المعلمين بلفت أنظار تلاميذهم إلى أهمية العزلة كسلوك معتاد، لأن باستطاعتها أن تحول الأفكار المجردة إلى واقع ملموس.
شكّل مفهوم العزلة أحد المحاور المهمة في أفكار «حانّا آرندت»، الكاتبة والمحللة السياسية اليهودية من أصل ألماني، التي هربت من النازية ووجدت في أمريكا ملاذًا لها.
قضت آرندت جزءًا كبيرًا من حياتها في بحث العلاقة بين الفرد والمدينة، ورأت أن حرية الفرد لا تقتصر على تصرفه بشكل عفوي في الأماكن العامة وأمام الناس، بل تنطوي على القدرة على التفكير البنّاء عندما يكون وحيدًا، وتساعده العزلة على تأمل تصرفاته وتحسينها، ويكون ذلك بالهروب من ضوضاء الحشود والاختلاء بالنفس والاستماع إليها.
قد يعجبك أيضًا: وحدي لكن ونسان: العزلة ليست وصمة
كيف أخرَج لنا الزحام وحوشًا؟
أصبحنا بالكاد نجد لأنفسنا مساحة من التأمل والاختلاء بأنفسنا، فمعظمنا يتفحص بريده الإلكتروني مئات المرات يوميًّا، ونطالع آلاف الرسائل على مختلف التطبيقات.
في عام 1961، كُلِّفت آرندت بتغطية محاكمة «أدولف آيخمان»، وهو ضابط نازي ساعد في ترتيب محرقة (الهولوكوست).
كان السؤال الذي يُلحّ على آرندت هو مِن أين أتى آيخمان بهذا الكم من الشر والتوحش ليرتكب جريمة بتلك البشاعة، لكن المفاجأة كانت في اكتشافها أنه لم يكن على أي قدر من التوحش، ولم يكن لديه أي قناعات شريرة راسخة، فما فعله كان فريسة لعقله الطائش، فكان عجزه عن التوقف للحظة والتفكير بتأنٍّ في ما يؤمر به سببًا في تورطه في عديد من المجازر.
استنتجت حانّا آرندت أن من لا يُقدر قيمة العزلة، وما تتميز به من تفكير صامت ندرس فيه أقوالنا وأفعالنا، لن يكون قادرًا على تقدير عواقب ما يقوله أو ما يفعله، وبالتالي لن يجد مانعًا من ارتكاب الجرائم. توقف آيخمان عن التفكير الذاتي، وفشل في العودة إلى إنسانيته وإلى حالة العزلة، فلم يعد قادرًا على التمييز بين الحقيقة والخيال، والخير والشر.
تلك النتيجة جعلت آرندت تؤمن بأن المجتمعات ينبغي أن تمنح أفرادها فرصة للعزلة والاختلاء بأنفسهم، لتسمح لهم بالتفكير الصحيح وتقييم الأمور على حقيقتها، فالعيش مع الآخرين يبدأ بمعرفة الفرد كيف يعيش مع نفسه وفي عزلته.
يبقى السؤال هنا: ألسنا بهذا المنطق معرّضين لأن نصبح أشخاصًا منعزلين عن العالم، ونحرم أنفسنا من متعة البقاء مع الأصدقاء؟
كثير من الفلاسفة فرقوا بين مفهومي العزلة والوحدة، فتحدث أفلاطون في كتابه «الجمهورية» عن النموذج المثالي للفيلسوف المنعزل الذي قدمه سقراط من قبل، حين يهرب الفيلسوف من ظلمة الانعزال تحت الأرض ومرافقة غيره من البشر، إلى ضوء شمس التأمل، فيكون بمفرده لكنه لا يشعر بالوحدة، أصبح متناغمًا مع ذاته الداخلية وعالمه الخارجي، وعندها فقط يعود إلى الكهف المنعزل تحت الأرض كي يرشد مجتمعه إلى النور.
«وحدي لكن وَنسَان»
إضافةً إلى ما استنتجه أفلاطون، ترى آرندت أن ممارسة التفكير الذاتي عزلة وليس وحدة، عزلة تحتفظ خلالها بمصاحبة نفسك الواعية، وتستغني بها عن مصاحبة الآخرين. أما الشعور بالوحدة فيأتي من رغبتك في مرافقة شخص ما، والعجز عن فعل ذلك، وهو ما يجعل بعض الناس يشعرون بالوحدة حتى وسط أعداد كبيرة من الناس.
لذلك لم تشعر آرندت بالوحدة، فقد كانت قادرة على إدارة حوار مع نفسها تستغني به عن مرافقة الناس
قد يهمك أيضًا: ما سر السعادة الذي لا يعترف به أحد؟
تأتي أهمية فكرة العزلة والتحكم في مساحة وقت تفكر فيها مع نفسك، من أننا في هذا العالم الذي تتحكم فيه تكنولوجيا الاتصالات بشكل مبالغ فيه، أصبحنا بالكاد نجد لأنفسنا مساحة من التأمل والاختلاء إلى أنفسنا، فمعظمنا يتفحص بريده الإلكتروني مئات المرات يوميًّا، ويطالع آلاف الرسائل الإلكترونية على مختلف التطبيقات، بل ويحاول الاتصال والبحث عن أخبار أعداد كبيرة من المعارف والأصدقاء وعلاقات الحب السابقة.
نحن، باختصار، نتوق إلى رفقة الناس بشكل أو بآخر.
أرادت حانّا آرندت تذكيرنا وتحذيرنا من أننا نفقد بالتدريج قدرتنا على الانعزال عن الناس وإفراد مساحة خاصة بنا، وأن ذلك سيسفر حتمًا عن فقدان قدرتنا على التفكير السليم، والمجازفة بالوقوع في فخ الاندماج المبالغ فيه مع البشر، وأن يجرفنا تيار زحام البشر فنفعل ما يفعلونه ونؤمن بما يؤمنون به دون تفكير ودون أن نُخضِع ذلك إلى قناعاتنا الشخصية أولًا.
إن لم ندرك معنى وأهمية العزلة، سينتهي بنا الحال إلى أن نفقد التمييز بين الصواب والخطأ، بين الخير والشر، وبين الجميل والقبيح، فالعزلة ليست فقط حالة ذهنية ضرورية لتنمية وعي الفرد، لكنها أيضًا ممارسة تؤهلنا لخوض غمار الحياة الاجتماعية والسياسية على أساس صحيح، فقبل أن نسعى للشعور بالسعادة وسط الآخرين فلنبحث عنها أولًا ونحن في معزل عنهم.