للسفر مذاقات عديدة، وهو فن آخر من ضمن الأنشطة الإنسانية، التي أصبحت مرتبطة وبصورة كبيرة بالتجارب الفردانية. ورغم كل الاقتراحات التي تنهال علينا حول الأماكن التي لا ينبغي علينا تفويت زيارتها، فإننا نختلف في تفضيلاتنا للسفر وما يعنيه، بل إن هذا الاختلاف قد يتوقف عند الرغبة في السفر من عدمها، فهناك من لا يحبون السفر، بقدر أولئك الذين لا يتخيلون حياتهم دونه.
تبدو اليوم الكثير من المزارات السياحية حول العالم بمثابة أماكن تمثل زيارتها طقسًا ذا طبيعة دينية، حتى وإن كان لا يرتبط بالدين على الإطلاق، الأمر الذي يفسر الدهشة التي قد تتملك أحدهم إذا علم بأنك زرت باريس دون أن تشاهد برج إيفل، أو دخلت متحف فان غوخ في أمستردام دون أن تصور نفسك مع لوحة «دوار الشمس».
يعد التخطيط للسفر مظهرًا من هذه الاختلافات، فهناك من يخطط للسفر قبل فترة محددة من موعد الرحلة، وهنالك من يحجز تذكرة سفره قبل موعد الرحلة بساعتين، وهو الوقت اللازم للوصول إلى المطار قبل الإقلاع. نحاول هنا أن نفكك اتجاه الأشخاص للسفر في اللحظات الأخيرة، والسيناريوهات المتوقعة لما يمكن أن يحدث معهم في ظل إجراءات السفر التي أصبحت أكثر تعقيدًا مع جائحة كورونا. ننظر في متعة هذا النوع من السفر، والمناخ الذي نشأت فيه رغبة اقتلاع نفسك من وضعك الراهن لتصبح في مكان آخر خلال ساعات قليلة بعيدًا عما تألفه.
توضح مجلة Fastcompany أن 51% من حجوزات الفنادق على تطبيق السفر Hopper تُجرى في غضون 48 ساعة قبل تسجيل الوصول، لذا فإن الشركة الآن تتبنى حملات موجهة لمحبي هذا النوع من السفر. ويشير التقرير إلى أن أهم 10 مدن في أمريكا لمسافري اللحظة الأخيرة هي لاس فيغاس ولوس أنجلوس ونيويورك وشيكاغو وأتلانتا وميامي وأورلاندو ودالاس وهيوستن وسان دييغو.
تخبرنا هاجر، وهي فتاة كويتية تهوى السفر، أنه «علامة على التحول الجذري في حياتي اليومية، إذ أنني من الأشخاص الذين يرتاحون للتكرار، فكان السفر بالنسبة لي مفارقة عن روتين الحياة الذي أعيشه. يبدأ السفر منذ اللحظة التي أقرر فيها حجز تذكرة فورًا لأقرب رحلة للمكان الذي أنوي السفر إليه. أخشى أن يكون الأمر تمثلًا لهوسي الاكتئابي، لكن مع ذلك أرتاح واستمتع كثيرًا بهذا النوع من السفر».
رغبة في الرغبات: أفراد في مجتمعات ضاغطة
من الصعب أن نتخيل أننا في آخر المطاف، وبسبب نمط حياتنا اليوم، لسنا سوى آلات غاضبة، أو آلات تعاطف. ورغم قسوة إطلاق صفة الآلة علينا، فإننا نخضع لما يمليه علينا المجتمع المتطلب الذي نعيش فيه، والتحولات المرتبطة به.
لقد دفع هذا النوع من الإدراك إلى تجارب تسعى لإبطاء حركة الأفراد. نشرت لورين برلنت وكاثلين ستيوارت عالمتا الأنثروبولوجيا بجامعة تكساس في أوستن كتابًا بعنوان «The Hundreds»، يعتبر بمثابة تمارين للكتابة القصيرة، كل شذرة فيه بمثابة تجربة في «متابعة تأثير الأشياء» في مئة كلمة.
وبحسب الكاتب «هوا شو»، يسير الكتاب وفق عملية جرد لما تسميه برلنت وستيوارت «الاعتياديات»، والتي تنشأ من المواجهات مع العالم التي «ليست أحداثًا للمعرفة، أو وحدات لأي شيء، أو اكتشافًا لواقع ما، أو حقائق. إنها سجلات للتأثير، والتأملات، والبيانات، وقصائد النثر. هناك مداخل حول العصائر واللقاءات الغريبة في متاجر الكحول، واستطراد حول صور السيلفي، واليوغا، والرأسمالية، وإشارة إلى البرنامج التلفزيوني "Search Party" وغيرها».
على الجانب الآخر، هناك الالتزام القسري بضغط العمل، وتحمل نفقة العيش، ووجود أزمات سياسية واقتصادية، وحالة من الشعور بالانفصال عن العالم والآخرين، ناهيك بالتجربة الكابوسية التي نعيشها اليوم مع جائحة كورونا، وهنا يبرز الملل كجبهة أخرى، علينا كأشخاص نريد الاستمرار في العيش أن نواجهه بقوة قد لا نملكها معظم الوقت.
ازدهر في العقدين الماضيين مجال كامل من «دراسات الملل»، كما تسميها كاتبة النيويوركر مارغريت تالبوت، والتي تستدعي لتفسير وقع الملل علينا ما كتبه عالم الأعصاب جيمس دانكرت في كتابه «Out of My Skull: The Psychology of Boredom» على أنه الإحساس بفقدان شيء ما، على الرغم من أننا لا نستطيع أن نقول ما هو بالضبط. أو كما يعرفه الكاتب الروسي ليو تولستوي: «رغبة في الرغبات».
تكتب تالبوت كيف أنه من الواضح أن الملل له تاريخ ومجموعة من المحددات الاجتماعية، وارتباط حاد بالحداثة. في عالم ضاعفت فيه الرأسمالية الحديثة من وسائل التسلية والمواد الاستهلاكية، فإنها قوضت في الوقت نفسه المصادر الروحية للمعنى، ونمَّت التوقعات بأن الحياة ستكون على الأقل في بعض الأوقات مسلية، وأن الناس بما في ذلك ذواتنا أنفسنا، سيكونون مثيرين للاهتمام، وكان أن جربنا خيبة الأمل عندما لم نجدهم كذلك.
يشير المفكر السياسي إريك رينغمار في الجزء الذي كتبه ضمن بحث «قارئ دراسات الملل»، إلى أن الملل غالبًا ما يحدث عندما نكون مضطرين للانتباه. وفي المجتمع المدني الحديث، هناك الكثير مما يُتوقع من البشر الانتباه إليه، مثل صفارات المصنع، وأجراس المدارس، وإشارات المرور، وقواعد المكتب، والإجراءات البيروقراطية وغيرها.
كثيرة هي الطرق التي يعبِّر بها الشخص عن عجزه تجاه كل هذا، لكن واحدًا من أهم مصادر الرهانات العالية، التي نسلكها لنعالج هذا الواقع، هو «الخيال العاطفي» الذي يمنحنا القدرة على التفكير في حلول، حتى وإن بدت غير واقعية إلا أنها يمكن أن تنتشلنا. تصبح حالة التهيج اللحظي قبل السفر آخر لحظة بمثابة مواجهة للعجز الشخصي. وفي هذا مزيج من الخيال والعبث والحماس ودفع الأشياء إلى درجاتها الأقصى، بما يخيل لنا أنها خاضعة هذه المرة لإرادتنا وسلطتنا.
جرأة أم تكلفة باهضة الثمن؟
مسافر آخر لحظة «يتبهدل ولكن جريء»، هكذا تذكر فاطمة في حديثها لـ«منشور». فاطمة فتاة كويتية أخرى تحب السفر مع زوجها، لكنهما يخططان له قبل عام من موعد الرحلة، وذلك على حد تعبيرها «يجنبنا التجارب السيئة التي لا داعي لها، مثل فندق سيئ أو عدم توفر مواصلات. ونسافر لفترات قصيرة غالبًا، فالتخطيط المسبق يساعدنا على اختيار الأماكن التي نفضلها ونجدولها بحسب أيام الرحلة».
على العكس، تكتب المدونة «كالي آن» المحبة للسفر على موقعها الشخصي عن «فوائد السفر آخر لحظة»، فتقول: «رغم أن هذا قد يجهد بعض الأشخاص، فإني أعتقد أن هناك الكثير من الفوائد للسفر في اللحظة الأخيرة. من المثير أن تتخذ قرارًا بالذهاب إلى مكان ما في آخر لحظة، يمنحك هذا شعورًا عفويًا، ويشعرك بالتحرر. إذا كنت تخطط عادة للأشياء قبل فعلها بوقت طويل، فحاول التخطيط لرحلة عفوية. الكثير من الناس يتحدثون عن مدى متعة التطلع إلى رحلة ما، وكيف أنهم لا يمكنهم الانتظار حتى الرحيل لأنه سيكون مذهلًا للغاية. لكن إذا كنت تبحث باستمرار عن تلك الرحلة القادمة، أو أي شيء لامع آخر في المستقبل، فلا يمكنك أن تعيش اللحظة، ويجب أن تكون مرنًا جدًا، فهناك فرصة جيدة لتوفير الكثير من المال عن طريق حجز عروض السفر في اللحظة الأخيرة. غالبًا ما تعقد الفنادق صفقات اللحظة الأخيرة إذا كانت تحاول بيع أي غرف متبقية. ونظرًا لأنك تحجز قريبًا جدًا من تاريخ مغادرتك، يمكنك تجنب الدفع الإضافي مقابل السعر المرن الذي يسمح بالإلغاء أو التغيير. قد يكون العثور على رحلة رخيصة أكثر صعوبة».
الجائحة تنحاز للسفر آخر لحظة
مع تغير القواعد باستمرار بسبب جائحة كورونا، صار من الصعب التخطيط لرحلات السفر، وحتى الرحلات المستعجلة تحتاج إلى مزيد من الوقت قبل المضي فيها، فالشروط المرتبطة بالساعات التي تسبق إجراء فحص الإصابة بكورونا وغيرها من التصريحات قد تأخذ وقتًا يصل لأيام.
فرضت هذه التغييرات المستمرة أسئلة حول أهمية السفر في هذه المرحلة، وهل يمكن أن يعود السفر ليكون ممتعًا، وهي أسئلة ربما لم نشهد مثلها سابقًا، حتى مع الأزمات السياسية الكبرى ورواج الخوف من الإرهاب.
يكتب أندرو سولومون أن السفر ليس مجرد مسألة متعة، بل هو جزء ضروري من تعليمنا المستمر. ويقتبس ما كتبه عالم الطبيعة في القرن التاسع عشر ألكسندر فون همبولت: «لا توجد رؤية للعالم بهذا القدر من الخطورة مثل النظرة العالمية لأولئك الذين لم يروا العالم قط».
يؤكد الكاتب أنه «بقدر ما دفعتْ حدودُ فقاعاتنا خلال الحجر الصحي الكثير منا إلى الجنون، كان الحبس في بلدنا مدمرًا للكثيرين. يعتمد نجاح كل بلد على فضول مواطنيها. إذا فقدنا ذلك، فإننا نفقد بوصلتنا الأخلاقية. وبالمثل، بقدر ما أتوق للذهاب إلى مكان آخر، فأنا حريص على الترحيب بالناس إلى هذه الشواطئ. إنه لأمر غريب أن تتجول في متاحف مدينة نيويورك العظيمة ولا تسمع ضجيج 100 لغة».
يحكي سولومون أنه في نهاية كتاب «الفردوس المفقود»، يُطرد آدم وحواء من جنة عدن، إلا أن المؤلف جون ميلتون لا يبدي تعظيمًا بشأن معاناتهما من الطرده. لكنه لا ينتهي عند هذه الملاحظة المؤلمة، لأن النفي من مكان يعني فرصة العثور على مكان آخر، مهما كانت تلك العملية مخيفة: ذرف آدم وحواء بعض الدموع، هذا طبيعي وبديهي، لكنهما مسحاها سريعًا، فقد كان العالم كله أمامهما، أين يختارا مكان استراحتهما، والعناية الإلهية دليلهما: يدًا بيد مع خطوات تجول بطيئة، من خلال عدن أخذا طريقهما المنفرد. ستكون هذه هي الطريقة التي نعود بها إلى عوالمنا قبل أن يصادرها منا كورونا. ومع السيطرة على الفيروس، سنبدأ بخطوات تجول بطيئة مع حذر وعدم يقين.