السنة الماضية، في شهر يونيو، رغب الجميع في الهرب بعد أشهر من الحجر الصحي والعزلة داخل المنازل التي فرضها انتشار فيروس كورونا، والذي تسبب في إغلاق المطارات وكل الأنشطة داخل الدولة. في ذلك الوقت، ولأول مرة منذ زمن طويل أرى الشواطئ في الكويت ممتلئة بالرواد يستخدمونه بكل الأشكال، وكأننا تذكرنا أننا نملك بحرًا يمكننا تطويعه واستخدامه أخيرًا. فعند التفاتك لأي شاطئ تجد الناس قد خصصوا مساحتهم الخاصة، من كراسي وطاولات ومظلات بكل الأشكال والأحجام. البعض حتى يؤجر عربات خاصة للطعام توفرها المطاعم المختلفة ضمن خدماتهم. وآخرون ينظمون احتفالاتهم من أعراس وأعياد ميلاد قرب البحر.
صار البحر المكان الأمثل للترفيه، وبات الناس يتناقلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي آراءهم وتقييمهم لأفضل الشواطئ التي يمكن لهم قضاء وقتهم فيها دون إزعاج من أحد. هذا الرجوع إلى المنسي أثار فيّ العديد من الأسئلة عن تشكل علاقة المجتمع بالبحر عبر السنوات الماضية، فقد كان البحر يومًا جزءًا لا يتجزأ من هوية الفرد والمدينة في الكويت، وصار اليوم بلا أثر يذكر. وها نحن نرجع له بعد سنوات، فما الذي حدث؟
سأحاول هنا أن آخذ مجرى عمرانيًا للإجابة على هذا السؤال، وأسرد حكايتنا مع البحر عبر تتبع التغيرات العمرانية لمشروعات ساحل الكويت البحري، وكيف شكلت هذه التغيرات علاقة المجتمع بالبحر.
البحر الهوية
كان البحر قبل النهضة العمرانية التي مرت بها الكويت بداية الخمسينيات أساسًا في تكوينها وتكوين المجتمع. فلم يكن فقط مصدرًا رئيسيًا للاقتصاد متمثلًا في التجارة والغوص على اللؤلؤ، بل شكل أيضًا حياة اجتماعية تدور حوله.
مواسم الغوص على اللؤلؤ شكلت معها طقوسها الخاصة، بدءًا بالنساء اللاتي يودعن ويستقبلن الرجال على شاطئ البحر، إلى الأغاني التي يغنيها البحارة وسط البحر وخلال صناعة السفن، لتخلق فنًا ما زال حيًا حتى اليوم. هذا الاتصال المباشر بالبحر شكل شخصية الفرد في الكويت، فالبحر يجلب الرزق، والأخبار، ويأخذ أيضًا الأرواح، ويقسو على المجتمع. هي إذًا علاقة معقدة من الأخذ والعطاء الدائم، وقد خلقت هذه الثنائية معاناة مشتركة ولّدت روح التعاون بين أفراد المجتمع، وخلقت مجتمعًا قاسيًا معرضًا للفقد في أي لحظة.
حتى المدينة ارتبطت وتشكلت حول البحر، فبيوتها المتلاصقة تطل على البحر وتتجه نحوه. كل المرافق الخاصة بالبحر من نقع صيد، مراسي السفن، سوق الخضار (الفرضة) تطل على البحر مباشرة، وتلتصق بالبيوت. إذًا، كانت علاقة المجتمع بالبحر روحية وعاطفية، واستمرت حتى قيام المدينة الحديثة، ليتغير وجه هذه العلاقة وتتحول تدريجيًا إلى شيء مختلف عبر السنوات.
البدايات المتعثرة
بدأت أولى علامات التغير في علاقة المجتمع بالبحر بعد اكتشاف النفط وقيام المدينة الحديثة، بظهور مشروع شارع الخليج عام 1960 أحد أهم المشروعات التي شكلت انعكاسًا لحداثة المدينة والمجتمع، لكونه شارعًا يمتد على طول الساحل. تطلب هذا المشروع نقل كل المرافق والأنشطة المطلة على البحر في المدينة القديمة إلى أماكن جديدة بعيدة عن السكان، وردم جزء كبير من البحر.
إلا أن التغيير الجذري جاء مع مشروع الواجهة البحرية. طُرحت فكرة هذا المشروع لأول مرة من قبل شركة المقاولات المسؤولة عن بناء ميناء الكويت (مكتب سير ويليام هالكرو Sir William Halcrow)، إلا أن الفكرة لم تلق أي اهتمام من المسؤولين. بعد ثلاث سنوات، في عام 1964، ظهرت الفكرة مرة أخرى وبصورة أكثر جدية وسميت «كورنيش الكويت». وبالرغم من بدء أعمال التصميم وإجراء التعديلات عليها، فإن الكورنيش لم يُنفذ وظل حبيسًا مرة أخرى كفكرة لعقد من الزمن.
بدأ التطبيق الفعلي للمشروع في عام 1972 مع تطوير أعمال المخطط الهيكلي الثاني، الذي أوصى القائمون عليه بضرورة تطوير الواجهة البحرية لتكون هذه المرة بامتداد شارع الخليج كله، وتحوي على ممشى ممتد بطول 20 مترًا، تخلله النوادي البحرية والشواطئ العامة والمرافق الترفيهية المختلفة من مطاعم ومدن مائية.
عاد المشروع للمرة الثالثة بصورته الجديدة وبمسمى «الواجهة البحرية»، مع تقسيمه على خمس أجزاء. في هذه المرحلة ولأول مرة صار بين الإنسان والبحر فاصل، وابتعد الإنسان عن التفاعل المباشر معه، وهو ما آذن ببدء مرحلة جديدة وميلاد هوية مغايرة للبحر.
لؤلؤة الخليج، الهوية الجديدة
الكويت لؤلؤة الخليج، هذه هي الهوية الجديدة للمدينة الحديثة، والتي تمثلت في مشروعات الواجهة وشارع الخليج والتي امتد العمل عليها من 1975 حتى نهاية الثمانينيات.
كانت هذه الهوية نقلة سريعة ومفاجئة، وفي محاولة لإدراكها، عبرت الكويت عنها بمختلف وسائل الإنتاج الفني. تنوع هذا الإنتاج وطال كل الوسائل، من شعر (مذكرات بحار لمحمد الفايز)، ورواية (وسمية تخرج من البحر لليلى العثمان)، وأعمال موسيقية (أوبريت صدى التاريخ 1986)، ومسلسلات (صواري الليل إخراج عبد العزيز المنصور)، وأفلام (بس يا بحر)، ومسرحيات (النواخذة لسالم الفقعان عام 1971).
لم يعد البحر جزءًا من الحياة اليومية، وتحول الارتباط الحميمي العاطفي إلى ارتباط جمالي ترفيهي يناسب هوية المجتمع المتمدن.
البعض نظر للبحر نظرة نوستالجية تمنى فيها الرجوع إلى الزمن القديم، والبعض وجد في الانفصال عنه علامة الحضارة والتطور وما القديم إلا تأخر وجهل، والبعض حاول الحفاظ عليه كإرث يجب علينا نقله للأجيال القادمة وتطويعه ليناسب مفهوم الحداثة.
لتحقيق الهوية الجديدة كان لا بد من جهة لتنظيم مراحل تنفيذ الواجهة البحرية. وعليه، جرى إنشاء شركة المشروعات السياحية عام 1976، والتي أصبحت مسؤولة عن تنظيم وإدارة أولى المشروعات وهي أبراج الكويت، والجزيرة الخضراء، وشاطئ المسيلة، ونادي الشعب البحري، ونادي اليخوت، ومتنزه الخيران، وكل ذلك بالتعاون مع بلدية الكويت. نجحت الشركة في مستهل أعمالها في استقطاب الناس بحملات إعلانية على التلفزيون والإذاعة، وبتقديم الأنشطة والامتيازات المختلفة لكل من يود استخدام المرافق الجديدة. فكانت المشروعات التي تنفذ واحدًا تلو الآخر الوجه الجديد للكويت، فافتتاح الجزيرة الخضراء على سبيل المثال كان حدثًا عظيمًا نقله تلفزيون الكويت مباشرة، وحضر الافتتاح أمير الكويت آنذاك الشيخ جابر الأحمد الصباح.
من الملاحظ هنا أنه رغم وجود هذه المشروعات كفاصل بين المجتمع والبحر، فإن العلاقة بينهما لم تنعدم وإنما تغيرت. فبدلًا من كون البحر هو الهوية بذاتها، صارت المشروعات الكبيرة المطلة عليه والتي تعكس حداثة المجتمع هي الهوية، والبحر هو «الواجهة». لم يعد البحر جزءًا من الحياة اليومية، وتحول الارتباط الحميمي العاطفي إلى ارتباط جمالي ترفيهي يناسب هوية المجتمع المتمدن، الذي بات يقود السيارات المتطورة بمحاذاة البحر، ويستخدم الشواطئ العامة للمشي والسباحة والترفيه. استمرت هذه المرحلة حتى توقفت بقدوم الغزو العراقي عام 1990.
بداية الغربة
لإنعاش الاقتصاد وتعويض الخسائر المالية للغزو، ظهر توجه وطني إلى إنعاش القطاع الخاص، فاستخدم ما يعرف بنظام «البناء والتشغيل ونقل الملكية» (BOT - Build Operate Transfer)، وهو نوع من العقود يقوم على التعاون بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، بحيث تمنح الدولة أعمال المشروع لشركة خاصة تعمل على تنفيذه واستثماره، على أن تعود ملكية المشروع إلى الحكومة بعد فترة زمنية محددة.
وهكذا رأينا لأول مرة شركة خاصة تتحكم في تخطيط أعمال الواجهة البحرية وتنفيذها دون تدخل شركة المشروعات السياحية أو بلدية الكويت. وعليه، بدأ استكمال أعمال المراحل التالية من الواجهة البحرية، وأولها مشروع الواجهة الشرقية وهو مجمع سوق شرق عام 1998. تلا ذلك مشروع متنزه شاطئ أبو حليفة (مجمع كويت ماجيك 2000)، مجمع المارينا والمارينا كريسنت (السالمية 2002)، وواجهة الفحيحيل (مجمع الكوت والمنشر 2005).
مثَّل مجمع سوق شرق التجاري الشكل الجديد للواجهة البحرية، المتمثل بوجود مجمع تجاري مطل على البحر مع مرافق خارجية كالشواطئ والأرصفة وسوق السمك والموانئ الخاصة باليخوت. تحول المفهوم الترفيهي الذي بدأ مع شركة المشروعات السياحية إلى بعد آخر، فرغم وجود أماكن للمشاة وبضع شواطئ مرفقة بتلك المجمعات التجارية، بات البحر محجوبًا عن الفضاء العام، ولا يمكنك الوصول إليه سوى من خلال مواقف السيارات والمجمع التجاري.
لم يكن التطور العمراني هو المؤثر الوحيد في تشكيل علاقة الإنسان بالبحر، فقد واجهت البيئة البحرية العديد من المشاكل التي أثرت بشكل مباشر على رؤية الناس للبحر وكيفية استخدامه.
كونت هذه البيئة الجديدة مجتمعًا استهلاكيا أدار ظهره للبحر ليتمتع بالمجمع التجاري، ويصير البحر مجرد شكل جمالي يغيب معه أي نوع من الارتباط. هنا بدأ أول انفصال حقيقي عن البحر.
عزز هذا الانفصال تراجع شركة المشروعات السياحية في حملاتها الدعائية للترويج للمشروعات المسؤولة عنها، وعدم تجديد وصيانة مرافقها السابقة بما يتناسب مع تطور العصر، بالإضافة إلى مواجهة الشركة مشاكل مالية وسوءًا في عمليات الإدارة.
من الملاحظ أن الساحل الجنوبي للكويت ظل طوال هذه السنوات بعيدًا عن عمليات التنمية، رغم التوصيات بتطويره في مستندات أعمال المخطط الهيكلي الثاني في السبعينيات. واستمر هذا التجاهل حتى بداية عام 2000، بتنفيذ مشروع متنزه شاطئ أبو حليفة. ثم توالت بعدها المشروعات ببطء، وزادت أكثر خلال العقدين الأخرين.
تختلف هذه المشروعات عن تلك في الساحل الشمالي، فمعظم المشروعات الحديثة عبارة عن مجمعات مطاعم لا تطل حتى على البحر، لكنها تحجبه تمامًا كحاجز إسمنتي. إلى جانب عدم تطوير أي شواطئ أو مرافق مائية تستفيد من البحر. لم يتوقف هذا الانفصال هنا، لتزداد الشقة بين المجتمع والبحر، لكن هذه المرة من الناحية البيئية.
انفصال تام
بعد 80 عامًا من بداية إنشاء المدينة الحديثة، صار البحر عنصرًا يهدد أمن حياة الأفراد.
لم يكن التطور العمراني هو المؤثر الوحيد في تشكيل علاقة الإنسان بالبحر، فقد واجهت البيئة البحرية العديد من المشاكل التي أثرت بشكل مباشر على رؤية الناس للبحر وكيفية استخدامه.
أولى هذه الظواهر كان التلوث البيئي البحري والبري الناجم عن اشتعال آبار النفط إثر الغزو العراقي. وتوالت بعدها الكوارث البيئية في جون الكويت بدءًا من عام 1999 بنفوق الأسماك الناتج عن ارتفاع نسبة الطحالب الضارة في المياه، ثم عدة كوارث أدت إلى تلوث البحر واستمرت بنسب مختلفة من عام 2002 وحتى 2015، مثل استخدام البحر كمصرف للمياه غير المعالجة وشبكات الصرف الصحي، بالإضافة إلى الردم المتواصل لصالح المشروعات التنموية المطلة على البحر.
أدى تلوث مياه البحر إلى الحد من القدرة على السباحة فيه، لأنها قد تضر بصحة الأفراد. وبات الجلوس على الشاطئ غير مريح بسبب قلة النظافة والروائح المزعجة. بل إن حتى عمليات الصيد لم تعد آمنة وصحية. وكان ازدياد معدلات التلوث لهذا الحد الحلقة الأخيرة في انفصال المجتمع عن البحر. فبعد 80 عامًا من بداية إنشاء المدينة الحديثة، صار البحر عنصرًا يهدد أمن حياة الأفراد، وبات أقل أشكال المتعة ثقلًا، لا يود أحد الخوض فيه، مما أدى لتشكيل حالة من الغربة التامة بين البحر والمجتمع.
وينك يا بحر؟
لا بد أن نعرج سريعًا على موضوع ملكية الأراضي المطلة على البحر، والتي أثرت بشكل غير مباشر في تشكيل هذه العلاقة.
أول قانون ظهر في الكويت بهذا الخصوص كان عام 1960، مع ظهور مشروعات الواجهة البحرية وشارع الخليج العربي. ولا يمكننا هنا إلا أن نلاحظ عدم وضوح قوانين ملكية الأراضي، فهي قوانين عامة يسهل التلاعب بها، ويصعب وضع حدود واضحة بين الملكية الخاصة والعامة. فنتيجة لعدم تنمية الشواطئ المملوكة للدولة لتكون فاصلًا واضحًا عن الملك الخاص، وبسبب القوانين المبهمة للملكية العامة ونظام الرفاهية الاجتماعية المتبع منذ تأسيس الدولة، تكون في العقلية الجمعية للأفراد عبر سنوات عُرف اجتماعي يرى فيه الفرد أن أي مساحة أمام ملكيته الخاصة هي ملك تابع له، حتى لو كانت بحكم القانون ملكية عامة، وهؤلاء يمنعون الأفراد من استخدام البحر، مما يعمق من هوة الغربة معه.
كتب عبد الرحمن الصالح عام 1972 فيلم «بس يا بحر» ليعكس ثنائية الارتباط والانفصال بين المجتمع والبحر، وأنهى الفيلم بأم «مساعد» ترمي باللؤلؤ الذي جلبه لها ولدها الغريق أثناء الغوص في البحر صارخة: «ليش يا بحر ما كفاك إلي سويته ... بس يا بحر، الله يغنينا عنك»، وها نحن اليوم، وفي انعطافة غريبة وساخرة للأحداث، صرنا نبحث عن البحر، وبدلًا من «بس يا بحر» صرنا نصرخ «وينك يا بحر؟».