في السنوات الأخيرة، ومع ازدهار سوق الغذاء والضيافة في الكويت، توجه المستثمرون المحليون إلى إبراز الأطباق الكويتية المشهورة ومحاولة إدراجها في الأسواق العالمية، مثلما نشاهد انتشارًا واسعًا للبرغر والبيتزا وصولًا إلى المطبخ الآسيوي، فأسهم اهتمام المستثمرين بتلك الأصناف الغربية في وقوع أطباقنا الكويتية في مؤخرة السباق؟ أم كان ذلك بناء على شريحة المستهلك، التي بدورها تحدد ما هو جديد وناجح على الساحة؟ أم لأن المستهلك تعود على أن تجربة الأكل في المطعم تقتصر على كل ما هو مستورد ومغاير عما يتناوله في المنزل؟
مع إعلان الكويت عزمها إطلاق لقب الكويت عاصمة الغذاء عام 2030، بات من المهم إبراز ثقافة الأكلات والأطباق المحلية حتى تصل إلى مستوى جيد.
«مجبوسنا أحلى من مجبوسكم»
لطالما كان الطعام تذكرة العبور ولغة التخاطب بين الشعوب، ويسهم في معرفة الخلفية الثقافية وتاريخ المنطقة. من خلال سفرنا لأي دولة، نجد أن لكل مدينة طابعًا غذائيًا مميزًا، أو طبقًا مرتبطًا بتلك البقعة الجغرافية ويعبر عن هويتها وسكانها.
البيتزا مقترنة بمسقط رأسها في مدينة نابولي، مرورًا بالبرغر والبطاطس المقلية التي تأخذنا إلى الأفلام الأمريكية التي لا يخلو مشهد منها. ومع ازدياد السفر والتعرف إلى مختلف الأطعمة العالمية، بات من السهل علينا الجلوس في مطعمنا المفضل في الكويت والتمتع بأفضل بيتزا من نابولي، ولا حاجة لقطع الكيلومترات بالطائرة لتجربة السوشي، بل من الممكن طلبه عبر أحد تطبيقات التوصيل والتمتع بتلك التجربة على أريكتك خلال متابعة برنامجك المفضل.
يمتاز المطبخ الكويتي بأصناف تميزه عن باقي الأطباق الخليجية، ويشترك معها في استخدامه السخي للبهارات المستوردة من شتى المناطق المحيطة ودمجها، ومن أشهرها «المجبوس» الكويتي.
مع تطور ذائقة المستهلك في الكويت، شهدنا نشاطًا ساحقًا للمستثمرين لتوفير أفضل شركات الأطعمة العالمية في الكويت، ابتداء بشركات الوجبات السريعة، ومخابز الحلويات، وحتى أشهر مقاهي القهوة والشاي. عند دخولك أي مجمع تجاري تجد من الاختيارات التي ترضي ذائقتك، سواء كانت من السوشي، أو الباستا، أو المطبخ الأمريكي الكلاسيكي، أو الشرقي. بين كل هذه الاختيارات أتساءل: لماذا لا نرى تسويقًا أو انتشارًا لأطباقنا الكويتية على المستوى المحلي أو حتى العالمي؟
لا أنكر وجود بعض المشاريع الكويتية التي دأبت وحرصت على إبراز أطباقنا المحلية ومحاولة تسويقها ودمجها في المنافسة مع شتى الأطباق العالمية، لكنها تبقى محاولات متواضعة، وبالكاد تحظى باهتمام وطلب من المستهلك.
استمد المطبخ الخليجي أطباقه من بلاد الهند، وبعض الأطباق من حوض البحر المتوسط، ومع مرور الزمن وتباين مصادر الغذاء، انفرد كل مطبخ بعدد من الأطباق التي بمجرد رؤيتها تتبادر إلى ذهنك تلك المدينة.
يمتاز المطبخ الكويتي بأصناف تميزه عن باقي الأطباق الخليجية، ويشترك معها في استخدامه السخي للبهارات المستوردة من شتى المناطق المحيطة ودمجها، ومن أشهرها «المجبوس» الكويتي، الطبق الذي يعتبر سيد المائدة على سفرة أهل الخليج باختلافات بسيطة من دولة لأخرى.
وكما تعودنا منذ الصغر، يكمن مقياس لذة الأكل الكويتي وإتقانه في جملة «مجبوسنا أحلى من مجبوسكم». ولأن الكويت اعتمدت على البحر في بداية عهدها مصدرًا للرزق، تجد تعدد الأطباق البحرية وتميزها على حسب وفرة الأسماك التي اشتهر بها ساحل الكويت، ومن أشهرها المموش ومطبق الزبيدي. وبالنظر إلى السوق الحالي، ترى غياب المطبخ الكويتي وتقديمه للمستهلك المحلي والعالمي على حد سواء.
مع تزامن إعلان الكويت في عام 2017 توجهها للحصول على لقب عاصمة الغذاء، في اعتقادي أنه من المهم إبراز المطبخ الكويتي وتسويقه لينافس أشهر المطابخ العالمية. إنها معادلة صعبة ومنافسة شرسة لتقديم تلك الأطباق المحلية لمستهلك اعتاد على تلك الأصناف الأخرى، ويعتبرها بوابة العبور لثقافة تلك المدينة وتاريخها.
المطبخ الكويتي في طابع حديث
كانت تجربتي الأولى في الرياض، حيث بدأت فكرة قائمة طعام تعتمد على المكونات الخليجية، ولكنها قُدمت بالطريقة الكلاسيكية للمطبخ الأمريكي، وبعض الوصفات من المطبخ الهندي التي دُمجت مع نكهتنا الخليجية. كانت تجربة ناجحة جدًا، إذ استقطبت الشريحة الشابة التي لطالما اعتادت على الأطباق الكلاسيكية الغربية، مما شكل التساؤل لدي: لماذا لا نهتم بإبراز نكهاتنا وأطباقنا المحلية التي تعتبر علامة مميزة لهذا الإقليم؟
بعد هذه التجربة خضت تجارب عديدة، وبالنظر إلى تطور ذائقة المستهلك، ساعدني هذا في استنباط أفكار جديدة لعمل قائمة طعام أساسها النكهات الكويتية، مع إدخال المهارات الأوروبية والأمريكية لعمل الوصفات. في عام 2019، ومع بدء الاحتفالات الوطنية في شهر فبراير، نفذت قائمة طعام تضم أشهر أطباقنا الكويتية لكن بتطبيقها ودمجها مع الأطباق العالمية من حيث التقديم وطريقة التنفيذ، في محاولة لمغازلة ذائقة المستهلك الغربية.
حرصت على إبقاء أصالة الطعم وأساس المطبخ الكويتي من حيث المكونات والبهارات المستخدمة، ولكن قدمتها بطريقة حديثة وطبقت عليها أسس الطبخ الأوروبية، سواء الكلاسيكية أو الأمريكية الحديثة. في البداية اتفقنا على تقديمه لمدة أسبوع، ولكن مع تزايد الإقبال استقبلنا عددًا من مختلف شرائح المجتمع العمرية، وكان لها الصدى الإيجابي، مما أدى لاستمرارها طوال شهر كامل.
مع توجه الكويت للحصول على لقب عاصمة الغذاء، بات من الضروري تسليط الضوء على ذلك الجانب الذي يحاكي تاريخ الكويت وتراثها على مر الأزمان.
من خلال تجربة أخرى، وهي تقديم وصفات أوروبية كلاسيكية من الحلويات أو الأطباق الجانبية ولكن بمذاق ومكونات كويتية وخليجية، قدمت حصة البارود، وهي شيف كويتية متخصصة في المخبوزات والحلويات، وصفاتها على منصات التواصل الاجتماعي ومن خلال تلفزيون الكويت أيضًا، وهي وصفات خاصة لشهر رمضان في عام 2021.
عند مقابلتي للشيف حصة، تكلمت معي عن تجربتها في تقديم هذا النوع من الوصفات وتفاعل الجمهور معها، فوصفت تجربتها لـ«منشور» قائلة: «لم تكن الأطباق العربية من اهتماماتي، بل انصب اهتمامي على المطبخ الأوروبي والفرنسي، كوني من مدرسة أوروبية وتتلمذت على أيدي طهاة فرنسيين، والخبز بشكل عام أوروبي المنشأ. وبعد دخولي وقراءتي لعالم الغذاء والضيافة في الكويت، اكتشفت أن لتلك الأطباق ما يقابلها في المطبخ الكويتي، مثل قرص العقيلي ولسان الثور وبسكويت الشاي، فاهتممت بالاطلاع على أطباقنا، وخصوصًا الحلويات، في محاولة مني لدمج النكهات العربية التي هي أقرب إلى هويتي وشغفي، وكانت أيضًا فرصة لتقريب التراث الكويتي من خلال أطباق ونكهات مألوفة عالميًا، وتقع في محيط ذائقتنا».
تضيف الشيف حصة: «بعد انتهاء دراستي وعودتي للكويت وانخراطي في سوق العمل والتعرف إلى ذوق المستهلك الكويتي، تشكلت عندي فكرة كافية خصوصًا للمناسبات الإسلامية والخليجية، والتي لها أجواء خاصة مرتبطة بها مثل رمضان، تساءلت: لما لا تكون الأطباق التي اعتدنا أكلها في هذه المناسبات هي الأطباق التي تُصدَّر للعالمية وتحاكي تراثنا؟ فشاركت خلال شهر رمضان هذه الفكرة عبر شاشة تلفزيون الكويت، لتقديم وصفات عالمية لكن بنكهة رمضانية وكويتية بالتحديد».
وتقول: «تلت تلك التجربة تجارب أخرى على إنستغرام بالتعاون مع برج الحمراء، لتقديم أطباق أوروبية تحاكي النكهات الكويتية، ومن أكثرها شهرة كانت المادلين، ويعتبر طبق حلويات كلاسيكيًا أوروبيًا دمجته بنكهات عربية».
من خلال تجربة الشيف حصة وتجربتي، اكتشفنا مدى إقبال المستهلكين على أطباقنا الكويتية المحدثة أو الممزوجة بطابع أوروبي. يجهل الكثيرون مدى ثراء مطبخنا الكويتي بالنكهات والأطباق التي من شأنها أن تنافس العديد من الأطباق العالمية. ومع توجه الكويت للحصول على لقب عاصمة الغذاء، بات من الضروري تسليط الضوء على ذلك الجانب الذي يحاكي تاريخ الكويت وتراثها على مر الأزمان، منذ أيام الغوص وتطور المطبخ الكويتي إلى يومنا هذا. أعتقد أنها فرصة ذهبية لكل مشروع أو مستثمر ليبرز متخصصي الطبخ من الشباب والشابات الكويتيين، ويدمج علمهم الحديث من المدارس المتخصصة العالمية مع أطباقنا، ثم يصدرها للعالمية. هذه الخطوة ليست فقط لتوارث واستمرارية المطبخ الكويتي، بل هي مهمة لاستقطاب شريحة كبيرة من محبي الطعام والسياح من مختلف أقطار العالم في المستقبل. هل نستطيع تطبيق هذه الفكرة وإيصال أطباقنا للعالمية بحيث ينافس البلاليط طبق باستا ألفريدو، ويتربع المجبوس على عرش طاولات المطاعم الإسبانية بدل الباييلا؟