تحولات الهوية الخليجية قبل النفط وبعد الاستقلال: رؤية تاريخية واستشراف للمستقبل

الصورة: LGT.com

هشام العوضي
نشر في 2022/08/19

إذا تجولت في أسواق مسقط ومطرح، فقد تسمع أكثر من 14 لغة مختلفة: ستسمع العربية، وهي لغة السكان الأصليين، والفارسية، ممن أتوا من فارس منذ الاحتلال الفارسي لمسقط، أو مؤخرًا للتجارة. وستسمع اللغة البلوشية من صيادي السمك، والإنجليزية من الوكيل السياسي وموظفيه، والفرنسية من القنصل الفرنسي، والبلجيكية من تجار السلاح، والسواحيلية من الأفارقة، والصومالية من الصوماليين الذين يأتون ساحل عمان سنويًا لشراء التمر. وستسمع اللغة الهندية، لغة أكثرية المتعلمين الهنود، والسندية لغة التجار الهندوس من السند، والخوجة، المستقرين في عمان منذ القرن الماضي، والغجراتية لغة التجار الهندوس من بومباي، وتاريخهم في عمان منذ 150 عامًا وزيادة. وستسمع البرتغالية من بعض التجار، والباشتو من الأفغان تجار الأسلحة، والأرمنية من التجار الأرمن، والتركية من الجنود الأتراك الفارين من الجيش العثماني1. هذا ما قاله الوكيل السياسي البريطاني في عُمان عام 1911.2

 

 

لم يكن التنوع اللغوي والعرقي والثقافي حكرًا على مسقط، بل وُجد في موانئ ساحل الخليج، من البصرة والكويت والمنامة ودبي والشارقة، إلى المكلا وعدن. وصف آلن فاليرز المكلا في 1938 بقوله: ازدحمت الشوارع بالزوار الأغراب، الذين ارتدوا الملابس الشرقية الزاهية من كل صنف ولون. كان فاليرز على متن سفينة تجارية كويتية، أبحرت من الكويت متجهة إلى البصرة ومسقط وعدن، ثم إلى موانئ شرق إفريقيا. استطرد فاليرز عن المكلا بقوله: هناك الإيرانيون، والصوماليون، والكويتيون، والعمانيون. وكان التجار الهنود يتجولون بسراويلهم الفضفاضة وقبعاتهم الصغيرة السوداء، واليمنيون بإزاراتهم وعمائمهم الضخمة.3 تكرر وصف فاليرز هذا عن الموانئ الأخرى.

الصورة: Getty

كانت موانئ الخليج مرتبطة تجاريًا بساحل المحيط الهندي، الذي ضم ساحل عمان وشرق إفريقيا وغرب الهند وساحل فارس. أدى هذا الارتباط إلى التأثر بثقافة السواحل، في اللغة والملابس والمطبخ والموسيقى وبعض العادات. كانت الهوية في الخليج، كأي هوية ساحلية، منفتحة متعددة وغنية بالتنوع. تلاشى الارتباط بساحل المحيط الهندي بعد اكتشاف النفط والاستقلال، وأصبحت الهوية الخليجية محلية-عربية. لأسباب سياسية، جرى إغفال الإرث الساحلي أو استبعاده، والتركيز على الإرث المحلي-العربي. شكل هذا التركيز الرواية الرسمية في تاريخ المنطقة. 

يجادل هذا المقال بأن دور المؤرخ ليس إعادة إنتاج الرواية الرسمية، وإنما دراسة ما أُغفل فيها. ولا يعارض هذا الدور أو ينافس الرواية الرسمية، ولكن يدعم الدولة في الخليج لسببين: أولًا، سيشعر الجيل الجديد بالفخر بتاريخ وطنه، الذي انفتح قبل النفط على ما هو متنوع ومختلف. وثانيًا، ستدعم السردية الساحلية رؤية الدولة في جذب المستثمر الأجنبي، لدعم اقتصاد محلي لا يعتمد على النفط.4

الهوية الساحلية قبل النفط 

«لم يكن التجار والبحارة في الكويت جزءًا من ثقافة محلية، ولكن جزءًا من ثقافة المحيط الهندي».

د. يعقوب الحجي، باحث في التراث الكويتي.5

ارتبطت موانئ الخليج بمدن السواحل المجاورة أكثر مما ارتبطت بالمناطق الداخلية في شبه الجزيرة العربية. وقد لعبت الجغرافيا والتضاريس دورًا في هذا. كان ساحل الخليج مفصولًا عن المناطق الداخلية بحواجز مادية تعذر التنقل فيها بسهولة، فالصحراء في الجنوب، والجبال في الشمال الشرقي، والأهوار في الشمال. كان الماء أيسر وسيط للتنقل، مقارنة بحركة الدواب عبر الصحراء والجبال.6 فقد استغرق الانتقال من ساحل فارس إلى مدينة شيراز سبعة أيام، فيما استغرق الإبحار من الساحل نفسه إلى دبي يومين. قبل النقل الجوي، وحّدت البحار والمحيطات الشعوب بدلًا من تقسيمها. 7

الصورة: Getty

كما وفرت أسواق السواحل سلعًا ضرورية لازدهار موانئ الخليج، لم توفرها الأسواق الداخلية. اعتمد اقتصاد الموانئ على صيد السمك واللؤلؤ، والتجارة البحرية، ما أدى إلى ازدهار صناعة بناء السفن. يقدر الرحالة الألماني نيبور أن أسطول الكويت البحري في ستينيات القرن الثامن عشر تكون من 800 سفينة.8 اعتمد بناء السفن على استيراد أخشاب الساج من الهند، والمانجروف الضروري لتشييد أسقف المنازل من شرق إفريقيا. 

ولعبت حركة الرياح دورًا كبيرًا في سرعة التنقل بين الموانئ. في يوم رياح جيدة، كانت الرحلة بين بوشهر الإيرانية والكويت تستغرق 22 ساعة، وبين بوشهر والمنامة 24 ساعة. أدرك سكان الساحل أن الرياح تهب في اتجاه واحد لستة أشهر، ثم في الاتجاه المعاكس لستة أشهر أخرى. ولكن الرياح الموسمية قيدت حركة المراكب الشراعية أيضًا، فقد اضطر التجار والبحارة لقضاء وقت أطول في هذه الموانئ، مما وفر فرصة كبيرة للتفاعل الاجتماعي بين الزائرين والسكان الأصليين.

لم تكن سلطة الدول مركزية، ولم تفرض هيمنتها على كامل النواحي والأطراف، مما أعطى بعض السواحل سمة سياسية مستقلة. فقد استطاع القواسم في القرنين الثامن والتاسع عشر السيطرة على موانئ في بر فارس مثل لنجة، إلى جانب الشارقة ورأس الخيمة. ولهذا قال مايكل بيرسون: «اشترك سكان الشاطئ مع سكان شاطئ آخر على بعد آلاف الكيلومترات، أكثر مما اشتركوا مع سكان المناطق الداخلية».9 أعطى غياب السلطة المركزية للزوار درجة كبيرة من الحرية للانتقال والإقامة، ومنح رأس المال المتمثل في المراكب المتحركة المزيد من الحرية للهجرات، واستئناف العيش أو التجارة من ضفاف جديدة.10

لم تنتقل السلع بين الموانئ فقط، بل انتقل الأشخاص والأفكار وأنماط الحياة كذلك. ولعب التفاعل بين سكان السواحل دورًا كبيرًا في التطور الاقتصادي والثقافي.11 ولهذا قال لورانس بوتر: «كان لسكان الخليج هوية واضحة، لا يمكن النظر معها إلى كونهم مجرد امتداد جغرافي لإيران أو شبه الجزيرة العربية».

الصورة: Envato

إلى عهد قريب، كانت موانئ الخليج جزءًا من ثقافة المحيط الهندي. بحسب جيمس أونلي: «ارتبط الساحل العربي ارتباطًا وثيقًا بفارس والهند. وأقام التجار العرب في موانئ فارس والهند، وأقام الهنود والإيرانيون في الخليج. ونتج عن هذا التداخل تأثير فارسي وهندي قوي على سكان الخليج. وظهر هذا التأثير في شكل العمارة والملابس والأطعمة». ويضيف: «هيمن الطراز الهندي والفارسي على أبنية الموانئ العربية، بفضل البنائين الإيرانيين والهنود. كما زينت الشالات الكشميرية رؤوس العائلات الحاكمة في دبي وأبو ظبي والبحرين، وارتدى أهل عُمان العمائم الهندية الملونة. العديد من النخب تزوجوا من الهند وأنجبوا أطفالًا يتكلمون الأردية والبلوشية والهندية والفارسية، بالإضافة إلى العربية».12

كانت الهوية في الخليج ساحلية قبل النفط. وتعريف الهوية معقد وشائك، ولكن باختصار هي السمات المميزة للجماعة، مثل الأصل العرقي والطبقة الاجتماعية.13 وتستند الهوية الاجتماعية على عدد من الأهداف والقيم والتجارب المشتركة.14 وقد مثلت التجارة وصيد اللؤلؤ التجربة المشتركة لسكان المحيط الهندي. وبالرغم من أن السكان مثلوا حالة بشرية نادرة من التنوع الديني واللغوي والثقافي، بين العرب والإيرانيين والهنود والأفارقة، فإن الجميع اختلطوا وتعايشوا بحرية. يقول جون غيليس إن وحدة المحيط الهندي لم تُفرض من الخارج أو من المناطق الداخلية، ولكن نشأت تلقائيًا من حركة الناس وشبكة العلاقات الإنسانية. عبر هذه العلاقات، جاءت معتقدات وأفكار انتشرت على طول الساحل بسهولة أكثر من انتشارها في المناطق الداخلية. اختلطت هذه الأفكار مع المعتقدات والعادات المحلية، لتصنع هوية ساحلية مميزة. 15بدأت الرحلة التجارية عادة من البصرة، مرورًا بموانئ الخليج حتى عدن، ثم إلى سواحل إفريقيا الشرقية أو سواحل غرب الهند. وفي ما يلي صور لبعض أشكال التفاعل بين سكان الخليج والسكان المحليين في تلك السواحل.

ساحل شرق إفريقيا

الصورة: Getty

أبحرت المراكب إلى شرق إفريقيا مرة واحدة في العام، لجلب الأعمدة الخشبية من شجر المانجروف (الجندل) من دلتا نهر الروفيجي، أو من لامو في كينيا. عانى سكان الخليج من نقص الأخشاب، التي احتاجوها لبناء سفنهم وأسقف منازلهم. يقول فاليرز: تحددت أبعاد وقياسات غرف البيوت العربية على ضفاف لامو.16 لم تكن تجارة الخشب نشاطًا اقتصاديًا فقط، وإنما تحدد معه الذوق وفضاء المعمار أيضًا. في سنة واحدة، عام 1945، رسا في زنجبار أكثر من 300 مركب شراعي قادمة من الخليج. لم تكن هذه المراكب تبحر من موانئها إلى زنجبار مباشرة، وإنما ترسو عند الموانئ العديدة الواقعة بينهما.17

يقول عبد الله شريف: «مع إن تبادل السلع كان الدافع الرئيسي لمسارات المراكب المزدحمة في المحيط الهندي، إلا أن حركة الناس والأفكار هي التي تركت الأثر طويل المدى، على التاريخ الاجتماعي والثقافي للمحيط. لقد أبحر من الخليج إلى شرق إفريقيا في العام 1945 أكثر من ستة آلاف شخص، من البحارة والتجار والباعة المتجولين والنساء والأطفال والموسيقيين، بل والمتسولين. جميعهم تأثر وترك أثرًا على الموانئ التي أقاموا فيها». 

اتخذ العديد ممن أقام أو تردد على ساحل شرق إفريقيا زوجة من زنجبار أو جزر القمر أو مدغشقر. ويذكر شريف أن أحد التجار الذي تنقل بين الخليج وشرق إفريقيا كان له زوجة من مومباسا أنجب منها صبيًا، وزوجة أخرى من لامو أنجب منها صبيًا آخر.18 ويقول إن نسبة عالية من البحارة العرب الذين وفدوا من الكويت وصُور حملوا دماء مختلطة بسبب الزواج من شرق إفريقيا. ويستشهد بقول طبيب هندي أجرى مسحًا طبيًا في مسقط نهاية القرن التاسع عشر، وذكر أن ما يقرب من ثلث السكان في مسقط جاؤوا نتيجة الزيجات المختلطة بين العرب والأفارقة، والعرب والحبشيات، وأن ربع السكان ينحدرون من أصول إفريقية.19 ويقول لوريمر إن عددًا كبيرًا من السكان في مختلف موانئ الخليج ينحدرون من أصول إفريقية،20 وإن العديد منهم لا يزالون يتكلمون بالسواحيلية.21

كان الزواج المختلط شائعًا بين سكان السواحل بسبب إمكانية تعدد الزوجات، ولأن العرب لم يصطحبوا زوجاتهم عند الإبحار. كان النشاط البحري ذكوريًا صرفًا، لم يُسمح فيه بوجود المرأة إلا عند الضرورة. وفي حالة وجود المرأة على متن المركب، كان على النوخذة أن يجد لها مكانًا منفصلًا عن الرجال، ما يعني إهدار مساحات ثمينة في المركب. 

يقول فاليرز إنه عندما زار المكلا شاهد «الأجناس الأخرى من المهجنين، الذين جرت في عروقهم الدماء من جميع أنحاء الشرق. فهم إما أنصاف ماليزيين، أو أنصاف أتراك، أو أنصاف إندونيسيين. كان الرجل من حضرموت يسافر إلى ديار بعيدة، ويتزوج من أي مكان، ثم يعود بالذكور من ذريته إلى وطنه. لهذا تنبض دماء الشرق الأقصى في عروق أولئك الناس الذين نراهم في شوارع المكلا».22

كما مثلت تجارة العبيد نشاطًا تجاريًا آخر بين سكان سواحل المحيط الهندي. فقد أدى ازدهار صناعة اللؤلؤ إلى الحاجة للمزيد من الغواصين، الذين كان أكثرهم يُجلبون من شرق إفريقيا. يقول ماثيو هوبر: كان صيد اللؤلؤ مصدر الرزق الأكبر في المنطقة، وأدى النقص المزمن في عدد الغواصين المحليين إلى زيادة الطلب على العبيد. بحلول أواخر القرن التاسع عشر، أصبح وجود الغواصين العبيد على متن المراكب الخليجية مشهدًا مألوفًا، إذ كانوا يعتبرون من أجلد الغواصين وأكثرهم فائدة.23

وأدى ازدهار زراعة النخيل في عمان والقرنفل في زنجبار (التي كانت تحت السيطرة العمانية) إلى الحاجة لليد العاملة من العبيد أيضًا. وقد امتلك الإمام سيف بن سلطان ثلث بساتين النخيل في عمان، بمساحة احتوت 30 ألف شجرة نخيل، وأكثر من 1500 من العبيد لزراعتها. 

ساحل غرب الهند

الصورة: @MansourShuwaier

وفرت موانئ كاليكوت وبومباي السلع الضرورية لسكان الخليج، مثل خشب الساج والليف لصنع الحبال اللازمين لبناء السفن، بالإضافة إلى الأرز والمنسوجات القطنية. وفي الديار التي توفرت فيها مصادر الري، شُحنت المحاصيل الهندية المناسبة من الحبوب والفاكهة. ولهذا أقام في الموانئ الهندية الوكلاء التجاريون من فارس وموانئ الخليج. 

مثلت بومباي مركزًا تجاريًا مهمًا لتجار الكويت والبحرين وعمان. وتكوّن هناك تجمعًا خليجيًا من التجار، من عائلات الإبراهيم والقناعي والقصيبي والبسام. أسس هؤلاء التجار مدارس عربية لتعليم أبنائهم اللغة والعلوم الأخرى. 24 فأسس محمد زينل مدرسة في بومباي لتعليم العربية والحساب، وأسست دار المعارف الكويتية مدرستين، واحدة في بومباي والثانية في كراتشي. 

كانت بومباي هي الوجهة الشهيرة للعلاج والتعليم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وتذكر نورة القاسمي أن سكان الخليج الموسرين كانوا يرسلون أبناءهم إلى الهند للتعليم. وضربت مثلًا بإبراهيم العريض، الذي نشأ طالبًا في الهند، لدرجة أنه لم يتعلم العربية إلا بعد عودته إلى البحرين.25 كما تذكرت أيضًا سعيد النومان (من الشارقة)، الذي تعلم الأردية والغجراتية والفارسية والإنجليزية، ومرزوق المرزوق وغنيمة المرزوق (من الكويت)، اللذين نشآ وتعلما في الهند. 26

تشير القاسمي إلى الخليجيين الذين تزوجوا من الهند، مثل الأديب الكويتي خالد الفرج.27 عاش الفرج سنوات عديدة في بومباي، تزوج خلالها بامرأة من الهند، فماتت، فتزوج من شقيقتها وأنجب منها صبيًا.28 يقول يعقوب الحجي: «أقام الكويتيون في موانئ الهند، وتزوجوا من أهلها، صانعين وشائج عاشت لأجيال». 29

كانت الهند سوقًا رائجًا للحرير من فارس، والخيول العربية، والتمور، واللؤلؤ. ولهذا كان هناك عدد ملحوظ من التجار والوكلاء التجاريين الهنود في الخليج. وكان للهنود وجود في البحرين والقطيف والدوحة. ويُرجع ممثل الجالية الهندوسية في ساحل الخليج وجود الهنود في المنطقة إلى أكثر من 200 سنة.30 شكل الهندوس ثلث عدد سكان بندر عباس، وكان لهم معبدًا بنوه منذ عام 1893.31 أما التجمع الهندي الأكبر فكان في عمان، إذ استقر عدد من التجار الهندوس في مسقط ومطرح منذ أواخر القرن الخامس عشر. وقد رحب العمانيون بالهندوس، ويسمون البانيان، وسمحوا لهم ببناء المعابد، واستثنوهم من دفع الجزية.32 ويصف نيبور الهندوس في مسقط في عام 1765 بقوله: لا يقل عددهم عن ألف ومئتي شخص، يعيشون بحرية وفق معتقداتهم وطقوسهم، ويُسمح لهم بجلب زوجاتهم وتماثيلهم، كما يسمح لهم بحرق موتاهم.33 وبحلول القرن التاسع عشر، سيطر الهندوس على التجارة العمانية، وبلغ عددهم في مطرح ومسقط بضعة آلاف.

ساحل فارس

لأسباب سياسية، تميل الرواية التاريخية الرسمية إلى إغفال العلاقات التجارية بين ساحل الخليج وفارس، بالمقارنة مع شرق إفريقيا وغرب الهند. ولكن من الدراسات اللافتة، دراسة بالإنجليزية لباحث التراث الكويتي يعقوب الحجي بعنوان «الكويت وإيران: الاتصال المتبادل في فترة ما قبل النفط».34 يقول فيها إن التجار الكويتيين جلبوا البضائع إلى موانئ بوشهر وخرمشهر، كما سلك تجار الجلود الكويتيون طرقًا وعرة داخل إيران، متجهين إلى الأسواق البعيدة عند بحر قزوين.35 ويذكر أن التجار الكويتيين وضعوا جلود الأغنام في أخياش بالقرب من بندر هنديان في ساحل فارس، ثم استأجروا البغال لحملها من إيران إلى قزوين، ومن قزوين إلى أرض البلغار أو الشيشان.36

ويشير الحجي إلى أن الكثير من الكويتيين اتخذ لنفسه أو لأبنائه زوجات من فارس، وهو تقليد استمر لأجيال عديدة.37 ويذكر أن بعض البحارة الكويتيين وجدوا أهالي جزيرة قيس في مجاعة، فقدموا لهم المساعدة، وجلبوا الفتيات إلى الكويت لإسعافهن، وتزوج الكويتيون من الفتيات، وكونوا بعضًا من أشهر العائلات في الكويت. ويشير عبد الله شريف إلى الزواج المختلط في بر فارس، فيذكر أن بندر عباس ضم هجينًا من العرب والإيرانيين والبلوش والأفارقة، تحدثوا بلغة محلية هجينة من الفارسية والبلوشية والعربية والسواحيلية.38

في دراسته عن الوحدة الثقافية بين الخليج والمحيط الهندي، يوضح رضا باقر أن حوض المحيط الهندي والرياح الموسمية وحّدا السكان الساحليين في الخليج وغرب الهند وشرق إفريقيا، في نمط حياة لا يزال واضحًا حتى اليوم. فلا يزال هناك عمانيون يعيشون وفقًا للتقاليد القديمة، مثل اتخاذ زوجة ومنزل في عمان، وزوجة أخرى في زنجبار.39

تحولات الهوية بعد الاستقلال

أدى ظهور النفط والاستقلال إلى انتهاء التجارة البحرية والتبادل الثقافي بين سكان السواحل. يقول لورانس بوتر: «أصبحت العروبة هي الفكرة الغالبة، بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية ورسم حدود الأقطار العربية». ويضيف أنه «مع بروز قادة التحديث في إيران وشبه الجزيرة العربية، تشكلت هويات جديدة، وأصبح ما إذا كان الشخص سعوديًا أو عراقيًا أو إيرانيًا موضوعًا مهمًا».40 ويذكر وليام بيمان أنه «لم يعد الانتقال بين الموانئ سهلًا كما كان، وبدأت حركة الأفراد تُنظم بوثائق السفر. بين عشية وضحاها، أصبحت الدولة هي الوحدة الأساسية في نشأة العلاقات الإقليمية، وصارت المواطنة عنصرًا مهمًا».41

بعد الاستقلال، اختلفت موانئ الخليج عن سواحل المحيط الهندي. لم تعد الهوية الخليجية ساحلية كما كانت، وإنما متأثرة بالمناطق الداخلية. لعبت عوائد النفط ومشاريع التمدن العمراني ووسائل النقل والمواصلات الحديثة دورًا كبيرًا في التغلب على عقبة التضاريس الحاجزة بين سكان الساحل والمناطق الداخلية. وأدت هذه الاستدارة إلى تحول واضح في شكل الهوية الخليجية. فبحسب هالة فتاح، صنع النفط والاستقلال أحادية في الهوية، محت من الذاكرة التاريخَ القريب الذي ارتبط بالمحيط الهندي.42 كما حدث هذا التحول في إيران، إذ بذل الشاه جهدًا كبيرًا في صناعة الولاء لفارس، والتقليل من أهمية الهويات الأخرى المكونة لإيران.43

يعتبر أحمد الديلمي أن بزوغ القومية الفارسية، ومطالبة الشاه بالبحرين، والثورة الإسلامية، والحرب الإيرانية-العراقية، كلها شكلت دوافع قوية لدى دول الخليج لتأكيد عروبة الهوية الخليجية.44 فأعادت الدولة كتابة تاريخها من وجهة نظر عربية، قللت من أهمية الروابط مع ساحل المحيط الهندي. 45ويلاحظ جيمس أونلي هذا التحول في مظاهر متعددة، كالملابس، فلم يكن يتوجب على أفرع العائلات التجارية الخليجية، التي أقامت في زنجبار وبومباي وعدن وبوشهر، أن ترتدي الملابس العربية كي تحظى بالقبول، مقارنة بالعائلات التجارية اليوم. وفقًا لأونلي، تخلى الخليج عن أي صلات ثقافية ساحلية، في مقابل تأكيد الهوية العربية الخالصة.46

الجماعة المتخيلة

الصورة: Getty

بعد الاستقلال، تكون ما أسماه بندكت أندرسون الجماعة المتخيلة.47 يشير هذا المصطلح إلى المواطنين أو أفراد الشعب الذين لا يعرف بعضهم بعضًا معرفة شخصية، ورغم هذا يشعرون بالانتماء إلى جماعة واحدة. بالنسبة إلى أندرسون، هذا الشعور الوطني استحدثته الدولة في تصور أو مخيال الشعب كي توحد الولاء لها، حتى صارت الوطنية هي المفهوم الأكثر قبولًا في العالم الحديث. 48

يقدم أندرسون عرضًا تاريخيًا عن الجماعة المتخيلة، فيقول إنه قبل نشأة الجماعة الوطنية، كانت الجماعة متخيلة على أساس ديني. فالذي صنع الأمة المسيحية أو الإسلامية بروابط أوسع من حدود الدولة القومية كان النص المقدس. لكن الحال تغير بعد اختراع المطبعة وانتشار النصوص باللغات المحلية الدارجة. لكن لم تفرض الدولة الحديثة على الشعب، الذي لم يزل أغلبه أميًا، قراءة تلك النصوص، بل اقتصر تداولها على الدوائر الحكومية والمحاكم فقط. 

بدأت الدولة فرض قراءة مطبوعاتها بعد أن انتشرت المدارس والجامعات، وأدت إلى نمو الطبقة المتعلمة، التي صارت أكثر وعيًا بانتمائها إلى أمة واحدة.49 ولعبت أدوات الدولة، مثل الصحف والإذاعة والعادات والتقاليد والطقوس الشعبية والقوانين، أدوارًا مكملة في بناء المخيال الجمعي.50

يوظف عدد من الباحثين ما توصل إليه أندرسون من أجل فهم أفضل لدور الدولة الخليجية في صناعة الجماعة الوطنية وهوية ما بعد الاستقلال.51 فيشير سليمان خلف إلى دور المدرسة، وأجهزة الإعلام، وبطاقة إثبات الشخصية، والجنسية، وجواز السفر، والأعلام، والنشيد الوطني، والأوراق المالية، ونصب الجندي المجهول، والعادات والأعراف، والقوانين التي ميزت المواطن عن غيره، كأدوات في بناء الجماعة المتخيلة.52

تركز رنا المطوع على دور الملابس الوطنية تحديدًا في بناء الجماعة المتخيلة.53 إذ تلاحظ أن ملابس الرجال والنساء في الخليج تعددت قبل النفط بحسب محددات مثل الحرفة والعرق أو الأصل والمنطقة. ولبست المرأة في دبي البرقع والألوان الزاهية، وليس العباءة السوداء فقط كما تصور اليوم، فيما لبس الرجال أغطية الرأس والملابس المختلفة، بما فيها الوزار (لباس سكان السواحل)، وليس الكندورة أو الدشداشة والعقال فقط.54 تقول المطوع إنه من خلال توحيد الزي الوطني، جاء سرد الرواية التاريخية على أنها متجانسة عرقيًا وثقافيًا، رواية هيمن عليها «العربي الأصيل»، الذي لم تمسه الثقافات الأخرى من العجم والبلوش وشرق إفريقيا. 

الصورة: الأنباء \ كونا

هيمنت عادات وتقاليد المناطق الداخلية على السردية الرسمية للتاريخ،55 فأصبحت مسابقات الشعر النبطي وسباق الهجن والصيد بالصقور من الرياضات الوطنية التي مثلت شريحة كبيرة، لكنها استبعدت من سكنوا السواحل والجزر والقرى وأتوا من الديار الأخرى.56 استهدفت هذه التقاليد سكان المناطق الداخلية، الذين جرى توطينهم منذ النفط ومشاريع التمدين، لكن بعض الأجيال الجديدة لا تشعر أنها ما زالت بحاجة إلى هيمنة هذه التقاليد. فقد أظهر حوار مع عدد من فتيات المدارس الثانوية في الكويت وجود إجماع على أن جيلهن ليس بحاجة إلى الممارسات القبلية، وأن هذا التراث يمكن أن يقتصر على حصص التاريخ والكتب الدراسية والمتاحف الوطنية.57

كتب بندكت أندرسون فصلًا إضافيًا عن دور المتاحف الوطنية في صناعة الجماعة المتخيلة.58 ففي المتاحف، عادة ما تُنتقى المعروضات التي تقوي مشاعر الجماعة المتخيلة، ويُخفى ما يمكن أن يضعف هذه المشاعر. في بعض المتاحف الوطنية، جرى إغفال ما يشير إلى الصلات مع سواحل المحيط الهندي. يلاحظ لورانس بوتر أن متحف دبي، على سبيل المثال، يصور أصحاب المحلات في الأسواق الشعبية على أنهم عرب، مع أن أغلبهم كانوا من إيران والهند. ويقول بوتر إن عامة العرب لم تعتبر العمل في محلات التجزئة مهنة نبيلة، وفضلوا عوضًا عن ذلك الاشتغال في تجارة اللؤلؤ وبيع الجملة. كما يلاحظ ماثيو هوبر أن متحف «بوابة مسقط» في عمان يصور من اشتغلوا في زراعة النخيل بمنطقة الباطنة على أنهم عرب، مع أن أكثر من اشتغل في زراعة النخيل كانوا من شرق إفريقيا.59

الصورة: متحف دبي

يصف مايكل رولف هذا التغييب من السردية التاريخية الرسمية بـ«الإسكات»، ويوضح أن إنطاق معلومة وإسكات أخرى يحول الحقيقة التاريخية إلى حقيقة تاريخية ناقصة. ويقول إن الإسكات عملية جدلية نشطة، تشبه كتم صوت المسدس.60 ومن هنا فإن الدور الفعال للمؤرخ، والمثقف عمومًا، ليس إعادة إنتاج ما جرى إنطاقه، بل إنطاق ما جرى إسكاته. 

هناك حاجة إلى الكتابات التي تعيد إنطاق الصلات التي تشكلت لعقود بين سكان السواحل. يعدّد لورانس بوتر مجموعة من التحديات التي تواجه هذا النوع من الدراسات، منها قلة المصادر، بسبب التقسيمات السياسية والأكاديمية التي ألحقت السواحل بالمناطق الداخلية، وبعض الإجراءات التي عرقلت وصول الباحثين إلى مراكز الأبحاث في مدن السواحل الأخرى، وعدم معرفة اللغات السواحيلية والهندية والفارسية. ويرى بوتر أن الحل يكمن في تشجيع الأبحاث المشتركة لتقديم رؤية أوسع عن تاريخ المنطقة. ويقول إن هناك حاجة إلى تناول الأوضاع المحلية والعلاقات الاجتماعية والإنسانية، وتجاوز الروايات التقليدية التي تميل إلى التركيز على الدور البريطاني والنفط والحداثة.61

دعم الدولة 

ذكرنا أن الدور الحقيقي للمؤرخ هو إنطاق ما أُسكت في التاريخ. ولا يتعارض هذا الدور مع سردية الدولة لبناء الجماعة المتخيلة بالضرورة، ولكن أجادل بأنه يمكن أن يدعمها لسببين: الأول مرتبط برؤية الدولة للعقود القادمة، والثاني له علاقة باتجاهات الجيل الجديد. 

يشكل من هم دون سن الخامسة والعشرين الأغلبية العظمى من سكان الخليج.62 وتكمن أهمية هذا الجيل في أنه الذي سيمكّن فكريًا واجتماعيًا في المجتمع، عاجلًا أم آجلًا.63 ولهذا يقول إريك فيرني: «سيكون من الجيد لأولئك الذين يسعون إلى فهم ما يحدث في الشرق الأوسط والتنبؤ بمستقبل المنطقة، أن يركزوا بعناية على الشباب، لأنهم الجيل القادم من الكبار».64 في الكويت مثلًا، يمثل الشباب 60% من عدد المواطنين. ولأن الكويت من الدول التي تحظى ببرلمان وحرية في التعبير، فإن اتجاهات الشباب تؤثر على الحكومة، وتمثل قوة دافعة في المستقبل. 65

يميل الجيل الجديد إلى تبني اتجاهات أكثر انفتاحًا، بسبب وسائل التواصل الاجتماعي والتحولات العالمية والتعليم الحديث. 66 يتحدث الكثير من الصغار، خصوصًا من تلقى تعليمه في المدارس الأجنبية، اللغة الإنجليزية في المدرسة والشارع والبيت، مما يضعف من قدراتهم في اللغة العربية.67 ولا يقتصر تأثر هذا الجيل على نمط الحياة الغربي، ولكن بأنماط أخرى من نواح جغرافية مختلفة. ولذا تلقى الأغاني والمسلسلات الكورية والتركية والهندية انتشارًا واسعًا على وسائل التواصل والفضائيات. ومؤخرًا، وفرت الألعاب الإلكترونية التفاعلية نافذة على عالم أكبر، وفرصة للتواصل والانضمام إلى مجتمع افتراضي عالمي حيوي.68 وفقًا لتقديرات سوق الألعاب الإلكترونية، من المتوقع أن تنمو تلك الصناعة بنسبة 12% بين 2022-2026، خاصة مع دخول السعودية والإمارات والبحرين كأسواق استهلاكية قوية.69

لم يعاصر هذا الجيل أحداثًا فاصلة، مثل نشأة القومية العربية أو اندلاع الثورة الإيرانية، وبالتالي لم يرث الحساسيات العرقية أو الطائفية التي ورثها آباؤه. وقد اعتبر 36% ممن تتراوح أعمارهم بين 18-29 عامًا أنهم «مواطنون عالميون»، فيما عرف 9% أنفسهم على أساس المعتقدات الدينية.70 إن ارتباط هذا الجيل بتراثه التاريخي والثقافي محدود وضعيف، واهتماماته منصرفة أكثر نحو الحرية والتغيير والتنوع.71 ولذا هناك ترحيب واضح من هذا الجيل بالأدبيات المحلية التي تناولت التنوع في التاريخ أو المجتمع الخليجي.72 ومن الملفت أن الدولة لم تمنع هذه الأدبيات، مما يدل على رشدها في التعامل مع السرديات المغايرة.73 سيحتفي هذا الجيل بسردية السواحل، ويشعر بالفخر والزهو لأنها تمثل جزءًا مهمًا من تاريخ دولته. كما يمكن لتلك السردية أن تلهم هذا الجيل بتتبع مسيرة أجداده في الانفتاح، والاستفادة الجادة من الثقافات المختلفة. 

يمكن لسردية السواحل أن تدعم رؤية الدولة للمستقبل، وما ستتطلبه هذه الرؤية من الانفتاح. فبحسب ريتشارد فلوريدا، سيزداد الارتباط الوثيق بين النمو والانفتاح في الأعوام القادمة، ذلك لأن النمو يحتاج إلى التكنولوجيا، والتكنولوجيا تحتاج إلى المواهب، والبحث عن المواهب سيوجب الانفتاح.74 ويؤكد أن التنقل الجغرافي والمقاربات البديلة لطريقة الحياة لن تهدد مستقبل النجاح كما يدعي المحافظون الجدد، بل ستكون شرطًا للنجاح. ويشير إلى أنه ستكون هناك معركة على المواهب الإبداعية، بسبب الارتباط بين الإبداع والنمو، والمنتصر في هذه المعركة لن يكون الدول، بل المدن والمناطق الجغرافية التي تقدم مزيجًا من التكنولوجيا والموهبة والانفتاح. 75يبدو أن هناك خطوط تماس مشتركة بين مقاربة النمو الذي حدث في موانئ الخليج قبل النفط، ومقاربة النمو في المستقبل الذي يشير إليه فلوريدا.

لقد تنوع اتجاه الدول الخليجية في صياغة الرؤية للمستقبل، ولكن جوهر الرؤية ظل واحدًا، وهو تنويع الاقتصاد بحيث لا يعتمد على النفط فقط. كان الاتجاه في الإمارات هو تطوير السياحة وجذب الاستثمارات الأجنبية وتوطين أصحاب المواهب. أصبحت الإمارات الدولة الخليجية الأولى التي تمنح الجنسية للمستثمرين والمتخصصين الذين استطاعوا الإسهام في دعم المسيرة التنموية، على حد تعبير حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.76 وكان الاتجاه في الكويت هو التحول إلى مركز مالي وتجاري إقليمي وعالمي، من خلال مشروع «مدينة الحرير» الذي يربط الكويت بالعراق وإيران وآسيا الوسطى والصين، بخطوط نقل وسكك حديد تجارية. كما خصصت الدوحة أراض سكنية لمن حصلوا على الإقامة الدائمة، كي يسهموا في اقتصاد قطر.

الصورة: كونا

لم تحذ أي دولة خليجية حذو الإمارات في توطين المستثمرين والموهوبين، وهذا الإجراء من شأنه أن يفتح باب النقاش واسعًا أمام موضوع الهوية، كما من شأن إنطاق تاريخ السواحل أن يثري هذا النقاش. تتوقع نتالي كوش أن يعيش أكثر من 70% من سكان العالم في المدن القريبة من السواحل بحلول 2030، ما سيضفي قوة اقتصادية على المدن الساحلية مثل دبي والدوحة والكويت.77 ويمكن لهذه المدن أن تقدم مزيج التكنولوجيا والموهبة والانفتاح الذي أشار له فلوريدا، إن أرادت أن تزدهر في اقتصاد ما بعد النفط. ويمكن لسردية تاريخ السواحل إذًا أن يهيئ الأذهان للتعامل مع تحديات هذه المرحلة. 

كما يمكن لإنطاق سردية السواحل أن يلهم القيم والمهارات التي سادت قبل النفط، وهي شبيهة بالقيم والمهارات التي سيحتاج إليها الوطن والمواطن لتحقيق رؤية المستقبل. في مقاله بعنوان «تجارة المراكب الشراعية العربية»، يتناول آلن فاليرز ذهنية البحار وبعضًا من مهاراته، مثل القيادة في سن مبكرة، والتفاني في العمل بكفاءة وإخلاص، والانضباط.78 إن قراءة تاريخ السواحل قراءة قيمية معاصرة يمكن أن تشكل مستودعًا تراثيًا لصناعة الذهنية الخليجية المرجوة مستقبلًا. فمن خلال دراسة طرق تقسيم مهام البحارة، يمكن تأصيل فكرة العمل ضمن فريق، وإدارة الوقت، وتقبل المخاطر، وتحمل الشدائد، والعزيمة، والمرونة، والقدرة على حل المشكلات، نتيجة الإقامة الطويلة في بيئة الموانئ المختلفة. 

الخلاصة

تتناول الدراسة تحولات الهوية الخليجية قبل النفط وبعد الاستقلال، مجادلة بأن الهوية في موانئ الخليج بدأت مرتبطة بسواحل المحيط الهندي، وانتهت بالاستدارة نحو المناطق الداخلية والأقاليم العربية. وإزاء هذا التحول، ارتكز بناء مخيال الجماعة الوطنية على أساس رواية تاريخية محددة، استندت على البعد المحلي والعربي. لم تتلاش الروابط التاريخية مع سواحل المحيط الهندي فحسب، وإنما غُيّبت هذه الروابط في السردية التاريخية الرسمية. 

تذكر الدراسة أن دور المؤرخ والمثقف عمومًا ليس إعادة سرد الرواية الرسمية للتاريخ، بل إنطاق ما جرى إسكاته. وتجادل بأن إعادة إنطاق سردية تاريخ السواحل لا يشتبك أو يتعارض مع سردية الدولة، ولكن يمكن أن يدعم رؤيتها للمستقبل. فالتاريخ الساحلي، بمؤثراته الثقافية والإنسانية، بالإضافة إلى القيم والمهارات التي أكسبها، يمكن أن يشكل مخزونًا تراثيًا ملهمًا للأجيال الجديدة المتعولمة، والدولة التي تطمح إلى مزيد من الانفتاح، من أجل صناعة اقتصاد لا يعتمد على النفط.

مواضيع مشابهة