كان رجال العصور الوسطى الخارقون، بردائهم الأبيض المزين بالصليب الأحمر، يحملون في داخلهم مزيجًا من شجاعة المقاتلين الأقوياء وبسالتهم وتدين الرهبان والتزامهم. منهم «فرسان الهيكل» أو «فرسان المعبد» أو، كما أُطلِق عليهم «جنود المسيح الفقراء».
لكن الحقيقة أنهم كانوا أبعد ما يكون عن الفقر، بل على النقيض، كان ثراؤهم يناطح أعتى ملوك أوروبا، ما جعلهم مطمعًا لأشهر هؤلاء: الملك الفرنسي «فيليب الرابع»، الذي كان خوفه من الإفلاس أول طريق نهاية فرسان الصليب الأقوياء، النهاية التي تركت خلفها لغزًا يبقى حتى يومنا هذا دون إجابة حقيقية.
نشأة تنظيم فرسان الهيكل
فلسطين، تلك الأرض المقدسة التي كانت محورًا لصراعات العصور الوسطى، كانت محل ميلاد أحد أشهر التنظيمات العسكرية في التاريخ، قبل نحو ألف عام، ورغم سيطرة الصليبيين على القدس حينها، فإن الطرق المؤدية إلى الحج كانت شديدة الخطورة: «كان الحجاج يواجهون عنفًا من قُطَّاع الطرق الذين استهدفوهم حول المناطق المقدسة المسيحية كبحر الجليل»، حسب رواية وثائقي «Templer's Lost Treasure».
أوضحت المؤرخة والكاتبة «هيلين نيكولسون»، في الوثائقي نفسه، الظروف التي خرج من رحمها التنظيم: «كل الطرق كانت خطرة جدًّا لأن كل مُلاك الأراضي على جانبي الطريق، كانوا يرون أن من حقهم الحصول على مقابل من كل شخص يعبر (أموال حماية إذا أردت تسميتها)، بعض المجموعات قررت عدم الدفع والقتال، لذلك لم تصل إلى القدس بعض أفواج الحجاج، لأنهم إما قُطِّعوا إلى أجزاء وإما سُجِنوا»، مضيفة: «كانت الدولة تحتاج إلى مقاتلين وليس لرجال يُصلُّون».
وسط حالة عدم الاستقرار خلال الحملات الصليبية الأولى، ظهر مجموعة صغيرة من الفرسان الفرنسيين في القدس، على استعداد لتقديم حياتهم «من أجل المسيح». حسبما يروي الوثائقي: «ذهب هؤلاء إلى بطريرك القدس، رأس الكنيسة هناك، وقالوا: نريد أن نفعل شيئًا لمساعدة الصليب، نحن فرسان. فقال: مقابل خطيئاتكم، آمركم بحماية طرق الحج»، تقص هيلين.
كان تشكيل تنظيم فرسان الهيكل أول حدث في التاريخ يؤمر فيه تنظيم ديني بحمل السلاح، فيما كانوا تابعين فقط ومباشرة للبابا. وخلط التنظيم بين حياة الرهبنة وحياة الفرسان، حسب وثائقي «Trial of The Knights Templar».
«كان هؤلاء مقاتلين وفرسانًا مدربين على مستوى عالٍ، كانوا على مستوى آلة الحرب في العصور الوسطى، ما يساوي دبابة حاليًّا، كانوا فرسانًا مسلحين بالكامل على أحصنة مسلحة أيضًا، أقوياء جدًّا، لذا كان بأمكان فارس واحد أو اثنين حماية طريق بأكمله وجعله آمنًا»، يشرح «شين مارتن»، مؤلف كتاب «The Knights Templar»، موضحًا أنهم طلبوا أن يكون مقرهم الرئيس في المسجد الأقصى، والذي كانوا يشيرون إليه باسم «هيكل سليمان»، ذلك الذي دمره الرومان عام 70 بعد الميلاد إثر ثورة اليهود، كما يروي الكاتب: «لم يكن هناك شيء متبقيًا منه، لكنها كانت منطقة تسبح في الميثولوجيا».
رحلة الصعود إلى قمة الثراء
فرسان الهيكل كانوا مهتمين بإخفاء نشاطاتهم، وبخاصة مصادر نفوذهم وثروتهم، بعدما جرى تشكيل التنظيم في هدوء عام 1119، لحماية الحج إلى الأرض المقدسة، بعد 20 عامًا من استيلاء المسيحيين على المدينة، ليبقى السؤال: كيف أصبح هذا التنظيم بهذا الثراء والسلطة التي ناطحت أعتى الملوك في أوروبا؟
ثراء فرسان الهيكل كان له عدد من الطرق. أولها التبرعات التي انهالت عليهم من مواطني أوروبا، كما تروي هيلين: «الناس في الغرب سمعوا عن ما يفعلونه وقالوا لأنفسهم: مهلًا، أريد المساعدة، لذا أعطوهم أموالًا، وكذلك أعطوهم أراضي، والتي كانت تعود عليهم بعائد مادي»، وتبرعت العائلات المالكة والتجار أيضًا للتنظيم، متسارعين لشراء موقع في الجنة، كما تصوروا، وأُعفيَ فرسان الهيكل من دفع الضرائب، فقد كانوا رجال البابا الأقوياء، ليصبحوا ثاني أغنى مؤسسة في أوروبا بعد الكنيسة.
لكن التبرعات لم تكن المصدر الوحيد لثراء الفرسان، إذ كانوا أول من اخترع فكرة الشيكات البنكية، وقامت الفكرة على أن يدفع الحاج إلى الأرض المقدسة مبلغًا ماليًّا في أقرب مقر للفرسان، وهناك يحصل على ما يشبه الشيك بالمبلغ الذي دفعه، وعند وصوله إلى الأرض المقدسة يسلم الشيك ويحصل على أمواله. هكذا يضمن الحاج أنه لن يتعرض للسرقة في الطريق.
ورسوم هذه الخدمة ساعدت الفرسان في تكوين ثروة هائلة، وامتلكوا أيضًا عددًا من مصانع الغزل والخمر والمزارع، ليصفهم مارتن: «كانوا أول الرأسماليين، إذا أردنا أن نطلق عليهم هذا اللفظ».
بعيدًا عن هذه المصادر، كانت الشائعات التي تحيط بالفرسان تربطهم بمصدر مختلف تمامًا لثروتهم، التنقيب عن الآثار الدينية.
كانت الآثار الدينية تمثل هوسًا للمجتمع الأوروبي في هذا التوقيت. توضح «باربرا فرالي»، المؤرخة بمدرسة الفاتيكان لعلم «الباليوغرافيا»: «كان الناس يؤمنون بأن تلك الآثار أقرب الطرق للمس الرب»، وكانت أشهر الآثار الدينية التي يسعى خلفها الناس تقبع في الأرض المقدسة، حسب اعتقادهم: «دون شك كان لدى الفرسان شغف بالآثار الدينية، كان الأمر أشبه بالهوس.
هؤلاء الذين أتوا إلى البلد كانوا على استعداد لقتل، ليس فقط اليهود والمسلمين، ولكن أيضًا المسيحيين المحليين، في طريق بحثهم عن الآثار الدينية»، يقول مارتن. فهل نقب فرسان الهيكل تحت الحرم القدسي وجبل الهيكل؟ سؤال أجاب عنه الدكتور «أدريان بواس»، الأستاذ بجامعة حيفا، برد قاطع: «بالطبع حفروا أسفل الحرم القدسي. لا شك في ذلك، لأننا نعلم أنهم كانوا ينفذون عددًا عمليات البناء: حمامات ومستودعات وقصر جديد، وربما أيضًا حفروا ممرات تحت الحرم القدسي».
إحدى الأساطير التي ارتبطت بـ«الكأس المقدسة»، كان عثور فرسان الهيكل عليها أسفل جبل الهيكل.
في القرن التاسع عشر، عُثِر على ممر أسفل جبل الهيكل، ضمن مئات الممرات أسفل القدس نفسها، كما يروي «Trial of The Knights Templar». أما أشهر الآثار الدينية التي قيل إنها وقعت في أيدي فرسان الهيكل، فكان ما عُرِفَ لاحقًا بـ«كفن تورينو»، وهي قطعة كتانية قيل إنها كانت الكساء الذي كُفِّن به السيد المسيح في أثناء دفنه.
أما الأهم، فكان ما أُطلِق عليه «الكأس المقدسة»، وهي التي استخدمها المسيح في العشاء الأخير حسب بعض الأساطير. وقد وُصِفت بأشكال عدة، إذ قيل إنها ليست كأسًا، بل طبق مقعر، وارتبطت في الأساطير بحملها قدرات شفائية إعجازية، إذ يُعتقد أنها الكأس التي شرب منها المسيح في العشاء الأخير، وأن يوسف الرامي جمع فيها دماء المسيح عند صلبه.
لأن كثيرًا من الأساطير أحاطت تحديدًا بالكأس المقدسة، فإن المؤرخين فشلوا في تفرقة الحقيقة من الخيال، إذ إن وجودها في ذاته محل شك. لكن إحدى الأساطير التي ارتبطت بهذه الكأس، كان عثور فرسان الهيكل عليها أسفل جبل الهيكل، لتختفي مع كنزهم إلى الأبد. فأين ذهب هذا الكنز؟
«فيليب العادل» يحطم أسطورة فرسان الهيكل
نشر فيليب الرابع شائعات مسيئة عن الفرسان، كانت أشبه بالسم الذي استخدمه لتدمير التنظيم.
كانت معركة حطين في مواجهة صلاح الدين، عام 1187، نقطة التحول في تاريخهم. إذ كانت هزيمة الصليبيين ومقتل 20 ألف مقاتل صليبي ضربة ساحقة. وبعد ثلاثة أشهر دخل صلاح الدين القدس واضطر فرسان الهيكل للتخلي عن مقرهم بالحرم القدسي، لينتقلوا إلى عكا، ومنها حاولوا إنقاذ الحملات الصليبية التي خفت بريقها في الشرق، لكن بعد قرابة مئة عام، انتهى الأمر إلى الأبد. وفي عام 1291، غادر فرسان الهيكل الأرض المقدسة أخيرًا.
اقرأ أيضًا: الحملات الصليبية: الأسطورة، والدين، والمال
عاد الفرسان إلى أوروبا، ومعظمهم إلى فرنسا. وفي الوقت نفسه عُيِّن «جاك دي مولاي» قائدًا، لتكن المواجهة الجديدة ضد عدو مختلف، هو الملك الفرنسي فيليب الرابع أو فيليب العادل. دون الحملات الصليبية كان الفرسان ضعفاء. كانت بنوكهم ممتلئة بالأموال الصليبية، لكن وجودهم كان دون هدف حقيقي. أما فيليب، فكان يعلم ذلك، كان ملكًا طموحًا ويرغب في أن يصبح أكثر الملوك مسيحية في أوروبا، ولم يكن يوقفه شيء للوصول إلى مراده سوى المال، العقبة التي رأى أن الحل لتجاوزها في خزائن فرسان الهيكل.
يروي مارتن: «كان فيليب يستعير أموالًا من الفرسان لتمويل حروبه ضد الإنجليز. وفي 1307، كان شبه مفلس بشكل يائس. قبلها في 1306، احتمى فيليب في مقر الفرسان بعد احتجاجات غاضبة لتخفيضه قيمة العملة، وهناك شاهد بالفعل كنوزهم، والتي كانت ذهبًا وعملات وأشياء أخرى، كان قصر الفرسان في باريس مبنى محصنًا، احتفظوا فيه بكل عملاتهم الصعبة، كان الفرسان يلعبون دور البنك، سواء للملك أو للأثرياء في باريس».
أوضحت باربرا فارالي كيف تحولت العلاقة بين الملك وفرسان الهيكل: «كانت مملكة فيليب على حافة الإفلاس. كان بحاجة إلى أموال فرسان الهيكل. وفي بدايات 1300، لم يكن هناك سبب لوجود الصليبين مجددًا»، قرر فيليب تحييد الفرسان ومصادرة ممتلكاتهم، لكنهم لم يكونوا تحت إمرته، إذ كانوا يتبعون للبابا مباشرة، وكانت شعبيتهم كبيرة، «نشر فيليب الرابع شائعات مسيئة وسلبية عن الفرسان، كانت أشبه بالسم الذي استخدمه فيليب لتدمير التنظيم»، تروي فارالي.
لم يكتفِ فيليب الرابع بترويج الشائعات ضد الفرسان، بل زرع جواسيس أيضًا بين صفوفهم، وعادوا ليخبره بحدوث أشياء غريبة داخل التنظيم. وفي عام 1307، بعد تدمير سمعة التنظيم، كان الوقت قد حان في اعتقاد الملك الفرنسي لجني الثمار، وفي يوم الجمعة 13 أكتوبر تحركت قوات فيليب لتقتحم مقر فرسان الهيكل في باريس، وصدرت الأوامر في أنحاء فرنسا باعتقال جميع فرسان الهيكل.
«كانت عملية سلسة ومنفَّذة بشكل جيد، ودون أي تحذيرات، وتقريبًا جميع الفرسان في فرنسا ألقي القبض عليهم»، يحكي مارتن. وبعد ستة أعوام من التحقيقات التي تدخَّل فيها البابا «كليمنت الخامس» الذي كان أشبه بدمية يحركها فيليب، اعترف القائد دي مولاي ليُعدَم حرقًا معلنين نهاية التنظيم إلى الأبد.
نهاية التنظيم وبداية رحلة البحث عن الكنز
شخصًا واحدًا كان الأكثر شغفًا بالبحث عن الكنز المفقود أسفل قلعة الفرسان: «روجيه ليموا».
إلى هنا انتهى التنظيم، لكن الغموض المحيط به لم ينته، بل كان سقوطه مجرد البداية لقصة أكثر جنونًا، «حين اقتحم رجال فيليب معبد باريس في صباح يوم الجمعة، كل ما وجدوه بالداخل كان رجال، لم يعثروا على أي كنوز أو غرف تخزين أو صناديق مليئة بالذهب»، يقص مارتن، ويضيف: «الأموال والذهب اختفوا تمامًا، ولم يُعثَر عليهم في أيٍّ من المقرات الرئيسية كباريس ولندن وفيينا، وببساطة لا نعلم أين ذهبوا.
في وقت الاعتقال، اختفى أسطول الفرسان في لا روشيل، لم يتمكن أحد من معرفة كم سفينة كانت هنا وماذا كان عليها، لكنهم اختفوا تمامًا من على وجه الأرض».
منذ تلك اللحظة، نشأت الأساطير حول الكنز المفقود. ربما كان كنزًا حقيقيًّا من ذهب وفضة وعملات، وربما كان الكنز آثارًا دينية كتلك التي ارتبط اسم الفرسان بالبحث عنها وتجميعها، وربما لم يكن هناك كنز من الأساس، لكن الحلم عاش داخل وجدان عدد من البشر، حلم العثور على الكنز.
عقب العثور على معبد باريس فارغًا، بدأ البحث عن كنوز الفرسان. إحدى الروايات تقول إن مجموعة من فرسان الهيكل هربوا قبل فجر القبض عليهم، محملين بكنوزهم التي حملوها غربًا إلى قلعة سابقة لهم في جيزور، وداخلها عُثِر على رموز غامضة محفورة على جدرانها، رآها بعضهم دلائل تشير إلى الكنز المفقود لفرسان الهيكل، ومنها عربة ربما استُخدِمت لنقل الكنوز في الآثار التوراتية، ورسوم غامضة تبدو كأنها تخص السكان الأصليين لأمريكا الشمالية. وعلى مدار السنوات، كانت القلعة محلًّا للقصص الخيالية والبحث عن الكنوز المفقودة، لكن شخصًا واحدًا كان الأكثر شغفًا بالبحث عن الكنز المفقود أسفل القلعة: «روجيه ليموا».
أسطورة جيزور
في عام 1929، سيطر هوس العثور على الكنز في قلعة جيزور على الشاب ذي الـ25 عامًا: ليموا. هوس جعله يرسل عددًا من الطلبات مرارًا وتكرارًا لمجلس المدينة يطالب فيها بجعله حارسًا للقلعة، كما يروي كتاب «The Templar Treasure: An Investigation»، للكاتب الألماني «توبيال دانيال فابيل»، وبعد إلحاح وافق المجلس على طلبه وعيَّنه حارسًا ومزارعًا للقلعة، وهناك بدأت رحلته في البحث عن الكنز المفقود، رحلة لم يهتم فيها لسلامته، فكان بمجرد خروج الزوار يبدأ في الحفر ليلًا.
ومن غير المعلوم كيف كان يحدد الأماكن التي يحفر فيها، لكن تنقيبه كان يصل أحيانًا إلى 30 مترًا تحت الأرض، وبعد عدد من المحاولات، فوجئ مجلس المدينة بإخبارية من ليموا يقول فيها إنه عثر على كنيسة سرية أسفل القلعة، ممتلئة بصناديق مكدسة بالمعادن القيمة.
حضر المسؤولون، لكنهم لم يجدوا سوى حفرة في الأرض. حاول اثنان منهم، هما مستشار المدينة وشقيق ليموا «مارسيل»، ورئيس جهاز المطافئ «إيميل بين»، دخول الحفرة التي بدت هشة وعلى وشك الانهيار. إلا أن الأول خرج سريعًا خوفًا من دفنه حيًّا، قبل أن يلحق به الثاني. لكن الأخير ألقى بحجر صغير داخل الحائط الذي قال حارس القلعة إن خلفه الغرفة السرية، ليسجل بين في تقريره أنه سمع صدى صوتها، لكنه لم يذكر قط بشكل صريح وجود غرفة تحت الأرض. وبعدها أمرت السلطات المحلية بردم الحفر في أسرع وقت، وطُرِد روجيه ليموا من القلعة.
لم يفقد ليموا الأمل، واستطاع إقناع رجال أعمال بالحفر أسفل القلعة، ليقدموا طلبًا لمجلس المدينة، وافق عليه الأخير بشرط الحصول على 4/5 من أي كنوز يعثرون عليها، ليقرر رجال الأعمال التخلي عن الفكرة. لكن «ليموا» لم يستسلم وعاد ليتسلل إلى القلعة ليلًا ليحفر، وعندما وصل صاحب الـ48 عامًا حينها إلى باب الكنيسة السرية نظر عبر الحائط ليفاجأ بأنها أصبحت فارغة تمامًا، كما يروي فابيل في كتابه.
في عام 1961، أصدر «جيرار دي سيدي» كتابًا بعنوان «Les Templiers sont parmi nous»، تحدث فيه عن الغموض المحيط بقلعة جيزور، ليصبح الكتاب الأكثر مبيعًا ويجذب انتباه الرئيس الفرنسي «شارل ديغول»، الذي نشأ لديه فضول تجاه الأمر بعد تقارير من وزير الثقافة «أندريه مالرو»، الذي بدا أن هوس الوصول للكنز قد سيطر على عقله هو الآخر.
أمر وزير الثقافة الفرنسي علماء آثار بإجراء تنقيب واسع في القلعة. في البداية وافقوا، إذ كانت هناك احتمالية للعثور على شيء، لكنهم سريعًا أعلنوا أنه من غير الممكن وجود غرفة فارغة تحت الأرض، غير أن مالرو أصر على الاستمرار في البحث والحفر، ليقرر الاستعانة بقوات من الشرطة والكتيبة الخامسة (مهندسين) التابعة للجيش الفرنسي، وأغلق الجيش القلعة لمدة شهر نقَّب خلاله، إلا أن العملية انتهت بنتيجة سلبية.
رواية «لايدر» وكنيسة روسلين
الكنز المفقود كان أيضًا محورًا لكتاب أصدره عالم الآثار البريطاني «كيث لايدر»، باسم «The Head of God»، ادَّعى فيه أن كنز فرسان الهيكل مخبأ في كنيسة روسلين في إسكتلندا، وهو عبارة عن أثر ديني عمره 2000 عام، عثر عليه الفرسان أسفل جبل الهيكل في القدس، ونُقِل إلى إسكتلندا قبل حملة الاعتقال التي طالتهم في 13 أكتوبر 1307، موضحًا في كتابه أنه في الغالب رأس المسيح المحنطة، حسب وصفه.
أسس لايدر قصته قائلًا إنه قبل موجة الاعتقالات، هرب قليل من الفرسان على متن 18 سفينة من ميناء لا روشيل بالكنز إلى أسكتلندا، إذ أهداهم الملك «ديفيد الأول» بعض الأراضي. وفي عام 1314، أعلن البابا كليمنت الخامس فصل الملك «روبيرت دي بروس» من الكنيسة، بسبب قتله منافسه على العرش «جون كومين» داخل إحدى الكنائس، ولم يستجب لأوامر البابا بالقبض على جميع فرسان الهيكل وتسليمهم للمحاكمة. على العكس، رحَّب بهم وسمح لهم بإخفاء كنزهم في أسكتلندا.
تلك الرواية تبقى ضمن الأساطير أيضًا. إذ ينفي فابيل في كتابه إمكانية حدوثها منطقيًّا، قائلًا: «بالتأكيد لم يكن فرسان الهيكل يبحثون عن جمجمة المسيح أسفل جبل الهيكل، والذي كان يومًا موقعًا لهيكل سليمان. البحث عن بقايا المسيح أسفل جبل الهيكل كالسفر إلى باريس لمشاهدة كاتدرائية كولونيا. إذا كانوا يريدون البحث عن بقايا المسيح، فمن المنطقي أكثر البحث أسفل كنيسة القيامة التي يُعتقد أنها بنيت فوق قبر المسيح».
الجزيرة الغامضة ونظريات أكثر غموضًا
امتد البحث عن كنز فرسان الهيكل من أوروبا ليصل إلى كندا، وتحديدًا ساحل نوفا سكوشا وجزيرة البلوط (Oak Island)، إذ عززت رسومات لإحدى قبائل السكان الأصليين في المنطقة، أشبه بالصليب الأحمر فوق الخلفية البيضاء، الرواية التي تناقلها الأجيال عن رجال ذوي بشرة بيضاء حطوا رحالهم على تلك الأرض قبل أن يكتشفها «كريستوفر كولومبس». ربما كانوا هم أنفسهم فرسان الهيكل.
هناك على أرض جزيرة البلوط، كانت بداية قصة جديدة من قصص البحث عن الكنز. هذه المرة جاءت صدفة في البداية، حين تعثَّر «دانيال ماكغيننز»، أحد السكان المحليين، في شيء ما، في أثناء سيره في الغابة، ليعثر أسفله على ما يشبه أثارًا مدفونة، واعتقادًا منه أنه ربما عثر على كنز مدفون يخص القراصنة، عاد ليستعين باثنين من أصدقائه، ويأتي بمعدات لمساعدتهما في الحفر.
على عمق 28 مترًا، عثر الباحثون على حجر غامض منقوشًا بعلامات لم يفهموها، عُرِف لاحقًا بـ«حجر التحذير».
يشرح «داني هينيغر»، مدير مكتب السياحة المحلية، ما حدث بعد ذلك قائلًا: «بدأوا في الحفر معتقدين أنهم سيعثرون على ذهب خاص بالقراصنة. حفروا قرابة نصف متر قبل أن ترتطم جوارفهم بشيء صلب، كانوا يتوقعون العثور على صندوق كنز، لكنهم اكتشفوا أن الفتحة التي عثروا عليها تقود إلى بئر عمقها نحو أربعة أمتار».
استرسل مدير مكتب السياحة المحلية في قصته: «استمروا في الحفر، وكانوا يتوقعون أن يعثروا على الكنز في أي لحظة. بعد حفر نحو ثلاثة أمتار أخرى، لم يكن هناك كنز، بل هيكل خشبي، أزالوه واستمروا في الحفر، ليعثروا على هيكل خشبي آخر على عمق تسعة أمتار من السطح. حينها شعروا بأن الأمر أكبر منهم، لذلك حاولوا الحصول على المساعدة. لكن جميع من حولهم رفضوا مساعدتهم، إذ كانوا خائفين لأن الجزيرة ارتبطت ببعض الحكايات الخرافية. في ذلك الوقت، عام 1795، لم يكن لدى الناس وقت للبحث عن كنز، واعتقد كثيرون أن هؤلاء الثلاثة مجانين حقًّا»
لم يجر البحث في الموقع ذاته حتى عام 1803، حينها عثروا على هيكل خشبي كلما حفروا ثلاثة أمتار، وفي حفرهم وجدوا طبقات من الفحم وألياف جوز الهند، إضافة إلى الهياكل الخشبية. وعلى عمق 28 مترًا، عثر الباحثون على حجر غامض عُرِف لاحقًا بـ«حجر التحذير»، فحين قلبوا الحجر وجدوه منقوشًا بعلامات لم يفهموها، لذا وضعوه جانبًا واستمروا في الحفر، لكن هدف هذا الحجر عُرِف لاحقًا، إذ كان على ما يبدو يشير إلى حدود معينة، وبالحفر بعده وجد الباحثون أنفسهم محاطين بالمياه التي غمرت الحفرة.
«حين عادوا في اليوم التالي لإكمال الحفر، وجدوا الحفرة ممتلئة بالمياه على ارتفاع نحو 18 مترًا. حاولوا إفراغها، لكنهم لم يستطيعوا، لتتحطم معنوياتهم ويغادرون الجزيرة» يروي هينيغر. وظلت الحفرة الغارقة متروكة لمدة 40 عامًا، واختفى حجر التحذير الشهير. لكن في بدايات القرن العشرين جذبت الحفرة مجددًا الباحثين عن الكنوز.
«الفرسان في أمريكا.. قصة خيالية جميلة»
رغم عدم الوصول إلى الكنز، فإن البحث قاد لاكتشاف كبير. فالماء الذي يملأ الحفرة مالح، إذًا لا علاقة له بالنهر، بل يرتبط بالمحيط الأطلنطي. لذلك انطلقوا إلى أقرب شاطئ من المحيط: سميث كوف. هناك بدأوا في الحفر، ليكتشفوا أن الشاطئ مصنوع، وأسفله شبكة ممرات تقود إلى الحفرة نفسها. «شعر كثيرون بأن هذه البنية جرى تشييدها على يد أصحاب الكنز بهدف تأمين الحفرة، بحيث لا يعلم أحد كيف يدخل إليها ويتوقف بفعل مياه المحيط، وقد نجحت الخطة بشكل جيد جدًّا»، يقول هينيغر.
أساطير كثيرة تحيط بالكنز المفقود، إن كان هناك كنز من الأساس. أساطير تلاعبت بخيالات كثير من البشر على مدار مئات السنوات.
في العصر الحديث، أمكن تحديد عمر ما عُثِر عليه داخل الحفرة. إذ أعاده العلماء إلى عام 1575 بنسبة دِقةٍ تزيد أو تقل 85 عامًا، لكن ألياف جوز الهند التي وُجدت أيضًا داخل الحفرة، كانت تعود إلى عصر أقدم من ذلك بكثير. إذ اكتُشف أن بعضه يعود إلى القرن السادس أو السابع، وأشجار جوز الهند لم يكن موطنها نوفا سكوشا. إذًا، أحدهم أحضرها إلى هناك. ويؤمن بعضهم بأن حفرة الجزيرة تحتوي في تكوينها على كل علامات فرسان الهيكل الأسطوريين أو أحفادهم، سواء في المهارات الهندسية أو الالتزام العسكري والسرية.
هذه الرواية لا تجدها المؤرخة هيلين نيكولسون منطقية: «الفرسان يهربون إلى أمريكا. يا لها من قصة خيالية جميلة. لكن ما هي الفائدة من حمل الكنوز إلى نوفا سكوشا بينما فكرة التنظيم بأكمله قائمة على حماية القدس؟»، مضيفة: «إذا كنت تبحث عن مَن يحفرون حفر مد وجزر في نوفا سكوشا، أين كان كل هؤلاء الفايكنغز الذين استقروا في غرين لاند؟ أليس من الممكن أن يكونوا هم من فعلوها؟ في أواخر القرن الرابع عشر، كان لا يزال هناك مستوطنة فايكنغز في غرين لاند ثم اختفوا، أين ذهبوا؟ لا أحد يعلم». وحاليًّا أصبحت الجزيرة ملكًا خاصًّا، فيما يستمر البحث فيها، لكن حتى هذه اللحظة لم يُعثر فيها على أي كنز.
تبقى أساطير كثيرة تحيط بالكنز المفقود، إن كان هناك كنز من الأساس. أساطير تلاعبت بخيالات كثير من البشر على مدار مئات السنوات، ذهب وعملات وآثار دينية مقدسة. لكن شيئًا لم يُعثر عليه قط، ويبقى الحلم قائمًا، ربما لدى بعضهم، أن يعثروا يومًا على كنز فرسان الهيكل المفقود.
لم تغب الأساطير عن عقول صناع السينما والدراما، إذ كان الكنز المفقود، وتحديدًا الكأس المقدسة، محورًا لعدد من الأفلام، وأشهرها: «Indiana Jones And The Last Crusade» و«The Da Vinci Code»، فيما كان أحدث عمل فني يتناول الصراع بين فيليب وفرسان الهيكل وهوس العثور على الكأس المقدس، مسلسل «Knightfall»، إنتاج عام 2017، ويروي الأيام الأخيرة لفرسان الهيكل، فيما انتهى موسمه الأول ويُنتظر تقديم جزئين آخرين في الأعوام القادمة.