ليس من الصعب فهم المغزى وراء وجود الأبطال الخارقين: يحمون المدينة وسكانها، ويطبقون عدالة ناجزة وسريعة، ويحافظون على الأمن الداخلي للأفراد، ويقضون على الجريمة المنظمة. تكمن وراء كل واحد منهم حكاية خارقة أو سبب غير طبيعي. أما الأبطال الواقعيون، العاديون الذين يغمرهم الروتين اليومي مثلنا، فما يخلقهم هو الحدث، والحالة التي يصنعون بطولتهم من خلالها.
ليس بالضرورة أن يكون الأبطال ذوي أعمال عظيمة للغاية، فربما يسهم أحدهم في تغيير مسار التاريخ بفعل عادي تقليدي بسيط، وربما لا يكون للبطل نفسه يد في بطولته، وأن يكون دوره في الملحمة هو «الشهيد» أو الضحية الأيقونية التي يمكن اعتبارها رمزًا للقضية.
شهد واقعنا العربي عددًا من الضحايا الذين أصبحوا أبطالًا بشكل أو بآخر، وأسهموا في خلق حالة من التعاطف، وربما الغضب. فَكِّر في محمد البوعزيزي في تونس، أو محمد الدرة في فلسطين، أو خالد سعيد في مصر، أو آلان الكردي في سوريا (الطفل الذي وجدوه ميتًا غرقًا على شواطئ تركيا). أمثلة بسيطة عن الضحايا الذين أثروا في القلوب، واهتمت الصحافة بذكرهم، وصاروا أبطالًا ورموزًا تشير إلى الظلم الذي تعرضوا إليه، رغم أنهم ليسوا حالات فردية نادرة.
في الوقت الحالي، ما زالت الصحافة العالمية مشتعلة بالحديث عن قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تركيا. يجري تصوير الانتهاك الذي تعرَّض له، ومتابعة كل جديد يتعلق بالقضية، رغم وجود قضايا أخرى يرى كثير من الناس أنها تفتقد نصف هذا الاهتمام، منها على سبيل المثال الحرب في اليمن، التي تشير منظمة الصحة العالمية ومنظمة رعاية الأمومة والطفولة (يونيسيف) إلى وجود كارثة إنسانية بسببها.
في الدراسات النفسية والاجتماعية، دراسة طبيعة التأثر الإنساني بالأحداث التي تدور حوله يجذب الاهتمام. لا أحد يريد أن يكون الأقل تأثرًا بالأحداث، خصوصًا إذا كانت من النوع المأساوي.
لكن مع التقارب الذي سبَّبته أجهزة التواصل، من خلال التعليقات والأخبار وكتابات الرأي وبرامجه، صار الأمر أكثر تعقيدًا، وبحاجة إلى سنوات أكثر وإكثر من التأثر الشديد بالدمار والحروب التي يجري نقل أخبارها حول العالم.
هكذا ننطلق في محاولة تفسير لماذا لاقت قضية خاشقجي كل هذا الاهتمام (مع أهميتها الفعلية)، في ظل وجود قضايا أخرى أكثر فداحة لم تلقَ من الاهتمام الصحفي والإعلامي شيئًا يُذكر.
خاشقجي: هذا واحد، وهؤلاء ملايين
في أربعينيات القرن الماضي، قال «جوزيف ستالين» لأحد المسؤولين السوفييت إن «موت شخص واحد مأساة، أما موت مليون شخص فمجرد إحصائية». هذا الاقتباس من حديث ستالين لم يكن عابرًا، ولا جزءًا من مخيلة ديكتاتور، فقد صار على كل مراسل يعمل على تغطية كوارث إنسانية أن يضع هذا الاقتباس نُصب عينيه، ربما لأن ستالين كان على حق.
وجد علماء النفس أنه في كثير من الأحيان يعاني معظم الناس من رد فعل عاطفي أكبر، في حالة فقد شخص واحد فقط، بينما يُمكن أن يقل هذا التعاطف تدريجيًّا كلما زاد عدد الحالات التي تحتاج إلى درجة من درجات التعاطف.
هذه الظاهرة يُطلَق عليها «إنهاك التعاطف». وسببها، وفقًا لعلماء النفس، ليس أننا لا نستطيع التعاطف مع وفاة مليون شخص، بل لأننا نخاف من التعاطف مع كل هذا القدر من المآسي. هذا الخوف يكمن وراءه خوف من الاستنزاف العاطفي، الذي ربما يكون متوقَّعًا في تلك الحالة بدرجة كبيرة.
ليس هناك من بإمكانه التعاطف مع آلاف الحالات التي تعاني من الكوليرا أو المهددة بالإصابة بها في اليمن، إضافةً إلى آلاف الضحايا والمشردين نتيجةً للحرب. لكن في حالة جمال خاشقجي فالأمر كان مختلفًا. انتشرت قضيته بدرجة كبيرة عن طريق التعاطف المباشر مع فرد واحد محدد، وهو ما كان مفقودًا في حالات أخرى ربما كانت أكثر فداحة في أعداد الضحايا.
جمال خاشقجي.. واحد منا
قتل صحفي يكتب في «الواشنطن بوست» يمس الموقف الأمريكي بدرجة كبيرة.
لعب خاشقجي دورًا بارزًا في الصحافة واللقاءات الإعلامية، وهو أيضًا كثير الأسفار، ولديه علاقات واسعة مع شخصيات مختلفة، وعمود خاص في صحيفة «The Washington Post»، إحدى أهم منابر الصحافة الأمريكية، ما يجعله بشكل غير رسمي فردًا من نخبة مثقفة في واشنطن.
هكذا، فالامتياز الأكبر الذي تتميز به حالة خاشقجي، إضافةً إلى أنه حالة واحدة مقابل ملايين، هو الشهرة والسمعة الجيدة التي اكتسبها. ففي مقابل كثير من الضحايا مجهولي الهوية، كان جمال معروفًا في الأوساط الدبلوماسية، وله مكانة جيدة من الاحترام. وفي مقابل الضحايا الأفراد أصحاب الأدوار السلبية، لعب خاشقجي دورًا بارزًا في السياسات الخارجية، لدرجة أنها قد تكون سببًا في مقتله. وفي مقابل حالات من الضحايا اشتهرت بمأساتها، نال جمال خاشقجي شهرة قبل وفاته. ولعل شهرته كصحفي بارز هي التي ساعدت في انتشار الاهتمام الإعلامي بقضيته.
رغم اعتبار كثير من السعوديين مقتل خاشقجي أمرًا داخليًّا يخص السعودية فقط، فإن قتل صحفي يكتب في «الواشنطن بوست» يمس الموقف الأمريكي بدرجة كبيرة، وربما يهدد شروط التحالف غير المعلنة، وبالتالي يهدد الثقة بين البلدين، خصوصًا من ولي عهد شاب لم يكتسب الثقة الأمريكية بالدرجة المتخيلة حتى الآن.
في وجه من نرفع أصابعنا؟
خاشقجي نموذج قريب من الوجدان الأمريكي والمخيلة الحقوقية، ما جعل قضيته ذات عناية خاصة، لكن إلى جانب ذلك، ساعد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في إبراز تلك الصورة للقضية بشكل غير مباشر.
سعى بن سلمان في السنوات الأخيرة إلى إظهار نفسه فعَّالًا ومسؤولًا قويًّا في السياسة والإدارة السعودية الاستراتيجية، وأنفق أموالًا طائلة لإظهار نفسه وجهًا رئيسيًّا للنظام، خصوصًا مع اعتياد الدول الأجنبية تصور أفراد العائلة المالكة كموظفي نظام بيروقراطي روتيني شديد الركود.
هذا الظهور الخاص لولي العهد السعودي جعل رواية الاغتيال أكثر جاذبية، مع إبراز الصحافة للحدث كعملية انتقام، فتصورته المخيلة الإعلامية انتقامًا شخصيًّا من الأمير الحاكم ضد الصحفي الناقد.
بذلك، حصلت قضية خاشقجي على امتياز أكبر في مقابل قضية آلان الكردي أو محمد الدرة أو خالد سعيد. ففي حالة خاشقجي، ساعدت شهرته على نشر القضية، إضافةً إلى شهرة الخصم وتمثُّله في شخصية أسهمت في توجيه التعاطف نحو القضية، بعكس الأمثلة الأخرى التي اكتسبت صورتها في المخيلة الإعلامية من المأساة نفسها، وبقي المتهم غير محدد ومجهولًا.
هل هي السياسة؟
لا يمكن فهم رد الفعل القوي تجاه قضية مقتل خاشقجي إلا في سياق تحليلات سياسية ونفسية، واجتماعية كذلك.
لجأت عدة تحليلات، في تفسيرها للاهتمام البالغ بقضية خاشقجي، إلى المسار السياسي، وذلك بالنظر إلى القضية كورقة ضغط جيدة على النظام السعودي، بالنسبة إلى خصومه.
في الوقت الذي كانت تلك التحليلات تُرجِع الأمر بشكل كامل إلى السياسة العامة والعلاقات بين الدول، فلا يُمكن إغفال الأبعاد النفسية والاجتماعية في تلقِّي الأحداث. وعلى العكس، فالعلاقات السعودية الأمريكية الجيدة لم تشفع للحدث بشكل كامل.
بين عشية وضحاها، ظهرت ردود أفعال مثل سحب الشركات الأمريكية استثماراتها، وإعادة مراكز الأبحاث الأمريكية تمويلها السعودي إلى الرياض. في الوقت الذي تمثل فيه العلاقات السعودية الأمريكية أفضل نموذج لها على مدار سنوات عدة، ربما الأفضل على الإطلاق في تاريخها، لتقارب قادة البلدين أكثر من أي وقت مضى من ناحية، وتشاركهما المصالح السياسية في المنطقة بدرجة كبيرة من ناحية أخرى.
هكذا، لا يمكن فهم رد الفعل القوي تجاه قضية مقتل خاشقجي إلا في سياق التحليلات السابقة، بدايةً من السياسي وصولًا إلى النفسي الاجتماعي. فمقتل الصحفي البارز من الصعب أن يُفهَم إلا باعتباره حادث قتل بشعًا، ما يمثل نقطة تحول ربما سيظل صداها مهدِّدًا العلاقات السعودية الأمريكية لوقت طويل.
المعرفة المشتركة
تشير الأبحاث التي أجراها «آري أدوت»، المدرس في كلية علوم الاجتماع بجامعة تكساس الأمريكية، إلى أن «المعرفة المشتركة» كظاهرة اجتماعية تعني أن «مجموعات الأفراد تصبح أكثر قدرة على التصرف ضد الفعل المخالف، في حالة إدراك كل الأفراد بما يحدث وما يمكن عمله»، وهذا يُسهم في خلق ضغط اجتماعي للتصرف.
رغم أن سياسات السعودية في المنطقة لم تكن أمرًا سريًّا، فلم يكن هناك تفاهم مشترك بين معارضيها. أما في حالة مقتل خاشقجي، لم يكن من الصعب التنبؤ بالتفاهم المشترك حول العالم ضد الإدارة السعودية، لغياب أي سبب منطقي مفهوم لحادث القتل من ناحية، ومن ناحية أخرى لتغطية الأمر إعلاميًّا بصورة جيدة، إضافةً إلى تلاعب المصالح السياسية واعتبار الحادث بطاقة ضغط على السياسة السعودية، المتمثلة في ولي العهد محمد بن سلمان بشكل خاص.