كتبت إسراء فاروق الجزار وبلال علاء
يكفى حنينًا فارغًا. إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. الشعب الذي استطاع في عقود معدودات أن يُكوِّن دولة حديثة متطورة علميًّا وثقافيًّا، تملك جيشًا من أقوى جيوش العالم. إسرائيل حيث انتصار العلم والحريات الشخصية والأمن في منطقة مأزومة ومنهارة.
ماذا يمكنك أن تفعل الآن في دولة وُلِدَ فيها ما يقرب من أربعة أجيال من مواطنين إسرائيليين لا يعرفون أرضًا سوى الأراضي الإسرائيلية؟ وما الحق الذي يمكن أن ينادي به حفيد فلسطيني تربى وتربى والداه في الخارج دون أن يرى فلسطين في حياته؟ وماذا يمكن لدولة عربية جديدة أن تقدمه أكثر مما قدمته الدول العربية طيلة هذه السنوات بالفعل؟
أمام كل الانتهاكات التي تُتَّهم بها إسرائيل، والتي تبدو ضئيلة جدًّا إذا قورنت بسجلات دول عربية أخرى، لا يمكن أن يسأل أحد عما فعله بشار الأسد ليحافظ على سلطته من المتمردين، ولا عما تفعله دول عربية أخرى إذا أحست بخطر يهددها، ولا حتى عما يمكن أن يحدث إن خرج 10 متظاهرين في دولة منهم.
في الوقت الذي تتنافس فيه أغلب الدولة العربية على تذيُّل قوائم الدول الديمقراطية أو المتقدمة، تتصدر إسرائيل البحث العلمي وتصنيع الأسلحة وصناعات الأدوية والتعليم العالي والزراعة وتكنولوجيا المياه.
في إسرائيل بلغ نصيب الفرد 37 ألفًا و292 دولارًا سنويًّا تقريبًا من إجمالي الناتج المحلي في 2016، وحصل 12 إسرائيليًّا على جوائز نوبل في الأدب والكيمياء والسلام، ما يجعلها في مقدمة الدول الأكثر حصولًا على نوبل بالنسبة إلى عدد السكان، فهي الدولة الأكثر إنفاقًا على البحث والتطوير في الشرق الأوسط بإجمالي 4.2% من الدخل القومي، إضافة إلى تقليل نسب الفقر إلى 10.2% في 2015.
ورغم أن نِسَب عرب إسرائيل لا تتخطى 20% من إجمالي السكان، فإن العربية لغة رسمية في إسرائيل، والكنيست الإسرائيلي به 13 عضوًا عربيًّا، والعربي الذي يعيش في إسرائيل يتمتع بما لا يستطيع أن يحظى به أي مواطن في دول عربية بعد كل هذه الانتفاضات، وبعد كل هذا الموت.
الأرض لمن يعمرها، لمن يستطيع استغلال مكوناتها والمحاربة لأجلها. وفي نهاية المطاف لا يملك المهزوم خيارًا سوى السعي للسلام وترك الماضي الذي انتهى وانتهى معه أهله وصراعاته. الحياة تصطف بجانب أبناء اللحظة، والتاريخ يدهس الحالمين حين يحاولون جر عجلاته إلى الوراء.
لحظة من فضلك
ربما تكون الطريقة الأفضل دومًا للفوز بنقاش أن تطرح فقط الأسئلة التي يمكنك أن تجيب عنها، وتزيح أسئلة أخرى إلى الوراء حتى لو كانت أكثر جوهرية لموضوع النقاش.
يرى المولَع بإسرائيل غضبًا ضدها، ويفسره بالغباء أو بانعدام المعلومات الحقيقية، فيصحح الصورة بمعلومات متراكمة عن تقدمها، لكنه هنا يفند حججًا لم تُطرَح، فهل كانت المشكلة مع إسرائيل يومًا أنها دولة ديكتاتورية تتحكم فيها عصبة قليلة بمصير كل يهودها؟ أم أنها دولة يمثل يهودها مواطنيها المعترَف بأحقيتهم في الوجود والمشاركة السياسية الفعالة؟ وهل خرج الفلسطينيون، في أي يوم، في مظاهرات عارمة لأنهم غاضبون من تدني دخل المواطن الإسرائيلي اليهودي؟ وهل اندلعت الانتفاضات الفلسطينية المتتالية لأن ميزانية الحكومة الإسرائيلية المخصصة للبحث العلمي كانت أقل مما يلزم؟
إذا كانت الإجابة بنعم، فربما تُمثل الإحصائيات الموثقة لتقدم إسرائيل العلمي المفترَض حجة حاسمة ضد أي اعتراضات، أما إذا كانت الإجابة بلا، فربما علينا أن نصوغ مرة أخرى الاعتراض الأساسي على إسرائيل: أنها دولة احتلال قامت على طرد شعب من أرضه، وأن اللاجئين الذين قُدِّرَ عددهم بـ900 ألف عند التهجير وصلوا في 2018 إلى أكثر من خمسة ملايين فلسطيني مشرد في الدول المجاورة في الأردن ولبنان وسوريا، فيعيشون في الأردن تحت خطر سحب الجنسية الأردنية، وفي سوريا من دون جنسية، وفي لبنان أيضًا دون جنسية أو حقوق اجتماعية تمكنهم من العمل أو الحركة.
ولا يتمتع أيٌّ من سكان غزة أو الضفة بميزات المواطنة، أيُّ مواطنة، إذ تحطم إسرائيل بشكل دوري أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية حقيقية.
تحاصر إسرائيل قطاع غزة، الذي يوجد به ما يفوق المليون لاجئ، منذ أكثر من 10 سنوات، وتمنع مواطنيه من حرية الحركة والتنقل، ومن وصول السلع الأساسية إليهم، ومن خدمات التعليم والصحة.
وفي الضفة تنتشر الحواجز الإسرائيلية في كل مكان لحماية المستوطنات الإسرائيلية، حيث يقيم أكثر من نصف مليون فرد في مستوطنات غير قانونية، تلك المستوطنات التي لا تتوقف إسرائيل عن بناء مزيد منها واستقدام مواطنين أجانب لا يربطهم بها سوى الديانة اليهودية، رغم الرفض الدولي المستمر لذلك النمط الاستيطاني، للدرجة التي دفعت إدارة أوباما إلى تمرير قرار دولي في مجلس الأمن يطالب إسرائيل بوقف الاستيطان، والاتحاد الأوروبي إلى وضع ملصقات تمييزية لمنتجات هذه المستوطنات.
هذا كله إضافة إلى وجود ما يقرب من 6500 أسير فلسطيني داخل السجون الإسرائيلية، هؤلاء الأسرى في نسبتهم الساحقة من الضفة الغريبة، أي مما يُفترَض، في حكم القانون الدولي، أنها دولة أخرى غير إسرائيل.
تتعلق «المسألة الفلسطينية» بِهَمٍّ واقعي وحاضر وجاثم على شعب كامل في الشتات دون دولة، وغير قادر على خلق أي حياة طبيعية في ظروفه تلك، والأمر ليس نابعًا من أي حنين لأرض خيالية مليئة بالجِنان في الأندلس، ولا بأرض ميعاد مقدس مؤجل منذ ألفي عام.
أما البقية الأقل جذرية في معارضتهم لإسرائيل فيرونها دولة احتلال بإقرار الأمم المتحدة، لأنها تحتل الضفة الغربية وأجزاء أخرى من لبنان وسوريا، ومصر قبل ذلك، ولأنها، حتى هذه اللحظة، تستمر في إنشاء مستوطنات يهودية داخل ما يُفترَض أنها الأراضي الفلسطينية التي ستقام عليها «الدولة الفلسطينية».
ما الذي تعنيه أن تكون دولة ديمقراطية علمانية فعلًا؟
هل تدعم إسرائيل الحركات الديمقراطية في العالم عامة، والعالم العربي خاصة؟ هل وجودها كدولة يهودية يجعل الشرق الأوسط أقرب إلى الليبرالية من عدم وجودها؟
ديمقراطية إسرائيل هي الحجة الأبرز للإعجاب بها، إنها الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، وهو تسويق تكرره إسرائيل نفسها دومًا. لكن ما الذي يجعل من «ديمقراطية إسرائيل» شيئًا مثيرًا لإعجاب المولعين بإسرائيل؟
إذا كان النقاش الأساسي هو التفكير في الطريقة المثالية لحكم الشعب اليهودي الصهيوني لنفسه، فإسرائيل، بالمعايير الليبرالية، ربما تحقق الحد الأدنى من هذا، ويمكن للفرد اليهودي الصهيوني أن يخرج من هذا النقاش منتصرًا.
لكن إذا كان النقاش عن الحرية والمساواة للبشر كافة، ولمشروع عالمي تكون كل دولة فيها فردًا في مجتمع دولي يتجه نحو تحقيق شروط عامة تجعل الحلم الإنساني بعالم حر أقرب، فالأمر يبدو أكثر سوداوية بكثير، وهنا تنفتح نقاشات أخرى أكثر أصالة: هل تدعم إسرائيل الحركات الديمقراطية في العالم عامة، والعالم العربي خاصة؟ هل وجود إسرائيل كدولة يهودية يجعل منطقة الشرق الأوسط أقرب إلى الليبرالية من عدم وجودها؟
هل تستثمر إسرائيل تقدمها العلمي في سبيل الدفاع عن حرية كل البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم ودياناتهم وأعراقهم؟ كيف تعرِّف إسرائيل نفسها؟ هل الفلسطينيون الواقعون تحت حكم الاحتلال يمتلكون حرية المشاركة وتقرير مصير الدولة الإسرائيلية بنفس القدر الذي يتمتع به اليهود الإسرائيليون؟ هل إسرائيل كدولة ديمقراطية علمانية، كما يقول المدافعون عنها، تنظر بعين المساواة تجاه كل الانتماءات الدينية؟ هل يمكن لأي فرد في العالم، مهما يكن دينه، أن يحوز الجنسية الإسرائيلية بنفس فرصة الشخص اليهودي؟
التشجيع الحماسي لإسرائيل من بعض الليبراليين يكون منطقيًّا ومتماسكًا فقط في حالة كانت نعم هي إجابة هذه الأسئلة الاستفهامية. أما في الواقع، وبحسب قانون العودة الإسرائيلي، فيمكن لأي شخص يهودي في أي دولة، مهما يكن بلده وتاريخه، أن يحوز الجنسية الإسرائيلية بمجرد ذهابه إلى إسرائيل، بينما لا يمكن للفلسطيني الذي تعرض للتهجير من هذه الأرض وينتمي بشكل مباشر إليها، ولا يحمل أي جنسية أخرى، أن يعود هو الآخر حتى إن وُلِدَ في الداخل الإسرائيلي لفلسطينيين لاجئين.
ويبيح قانون المواطنة الإسرائيلي سحب الجنسية الإسرائيلية من كل من «ارتكب عملًا فيه شيء من خيانة الأمانة لدولة إسرائيل».
على خطى التراتب العرقي والبِنى المؤسساتية القائمة على قوانين تمييزية، لا تبدو الصورة مشرقة تمامًا في الداخل الإسرائيلي، إذ ترفض اليهودية الأرثوذكسية في إسرائيل الاعتراف بكثير من اليهود الأفارقة ذوي الأصول الإثيوبية أو السودانية الذين يبلغ عددهم أكثر من 170 ألف نسمة، بحجة الخوف من الجريمة وتدهور «القيم الإسرائيلية».
وبينما انخفضت نسبة الفقر في إسرائيل إلى 10%، تتعدى النسبة بين يهودها الأفارقة 50%، فتُجبَر الإثيوبيات في مراكز الإيواء على تناول حبوب منع الحمل دون إعلامهن بأعراضها الجانبية، ويُمنَع أطفالهن من التسجيل في المدارس، ويُمنَع الأفارقة من تأجير العقارات أو شرائها في بعض الأماكن داخل إسرائيل، ولا تؤخذ تبرعاتهم بالدم خوفًا من انتشار مرض الإيدز في إسرائيل.
تاريخيًّا، وحتى إحصائيًّا، لا تبدو إسرائيل الدولة المناسبة كمثال للديمقراطية: ليست دولة مؤسِّسة للأحلام الليبرالية مثل فرنسا وثورتها، ولا تمتلك آلة بروباغندا ضخمة تغلف طموحاتها في الهيمنة الدولية باسم الحرية كأمريكا، ولم تمتلك ساسة ملهمين للعالم بنضالهم أو بأفكارهم مثل غاندي في الهند ونيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، وحتى في مؤشرات الديمقراطية دائمًا ما تسبقها عشرات الدول في التصنيف.
إذًا ربما لا تكون الديمقراطية وحدها العامل الأساسي في الولع بإسرائيل، وربما تكون قوتها أو قدرتها على تنفيذ ما تريد رغم أي اعتراضات هي سبب هذا الولع، لكن..
ما الذي يعنيه أن نؤيد دولة لأنها قوية؟
لِنَدَّعِ أنها لا تحصل على أي دعم دولي خاص، ولا تتمتع بحماية من دول كبيرة تحصنها من تبعات أي هزيمة محتملة، ولنفترض أنها دولة قوية فعلًا بمجهودها الذاتي الفريد، وأنها أقوى من كل جيرانها، تغلبهم كل مرة، واستطاعت هزيمة جيوش عربية عدة في حروب متتالية، وتنجح المرة تلو الأخرى في هزيمة الانتفاضات الفلسطينية ضدها، وبالتالي تنجح في جعل أي احتجاج أو معارضة لها «مقاومة كاريكاتيرية» تنهزم عاجلًا أم آجلًا، هل يكفي هذا للولع بإسرائيل؟
لو كان الولع بإسرائيل كدولة قوية منتصرة قادمًا من فكر يقدس القوة والانتصار، بنَفَس نيتشوي، أي يبجل القوة في ذاتها مهما تكن القيم التي تنتصر لها هذه القوة، ربما تكون هذه حجة متماسكة.
لكنها متماسكة بالقدر الذي يكون فيه هذا الانتصار والقوة دائمَين وغير معرضَين للانكسار في زمن قادم، لأنه لو رجحت كفة الطرف الآخر يومًا ما، سيكون على مقدسي القوة أن يغيروا تماهيهم معها إلى تماهٍ مع الطرف المنتصر الجديد، وإذًا تكون المسألة برُمتها رهنًا بموازين القوى التي يمكن لأي طرف تحديها والرهان على قدرته على تغييرها، الرهان الذي، كأي رهان آخر، لا يمكن الحكم عليه إلا من نتيجته النهائية، وليس من طموحه الأوَّلي.
لكن، وبنفس منطق الانحياز للمنتصر، هل يكون دعم هتلر في ذروة قوته هو الموقف الصحيح؟
كان هتلر منتصرًا على خصومه، ويحكم دولة كبيرة ومتقدمة علميًّا وثقافيًّا، وتملك جيشًا قويًّا تمكَّن من هزيمة جيوش أقوى دول في العالم، وكانت ألمانيا في عهده مهتمة بالبحث العلمي، وبتطوير الأسلحة. هل يمكن لأنصار «إسرائيل القوية» أن يقولوا إن دعم هتلر وقتها كان الموقف المثالي، حتى لو تطلب دعمه التضحية ببضعة ملايين من اليهود، وإلقائهم في محارق ومعسكرات سُخرة من أجل تقدم العرق الأعلى، العرق الآري؟ وهل كان الوقوف ضد ممارسات هتلر الناجحة، المستندة إلى قوة وفعالية، محض ممارسة طفولية ورومانسية حالمة؟
إن كان مِن النضج ترك العاطفة ومواثيق حقوق الإنسان جانبًا والتركيز على الرغبة في النجاة، فهل من العقلانية تأييد منتصر يبني انتصاره على أنقاض كل القيم التقدمية؟ وهل تستوعب البراغماتية تأييد منتصر يحتقرنا ويسلبنا حقنا في الوجود، أم أن الأكثر عقلانية هو الانحياز لقيم استمرارنا بغض النظر عن ميزان قوى الآخرين؟
ربما يكون جزءًا من الولع بإسرائيل الوقوع في غرام المنتصرين والرغبة في الانضمام إليهم: نحن أقوياء وناضجون الآن، وننتمي إلى الأقوياء المثقفين المنتصرين مثلنا.
قد تكون إسرائيل دولة متقدمة علميًّا وتكنولوجيًّا، وتستطيع أن تقابل صواريخ غزة الهزيلة بصواريخ عالية الدقة وفائقة القوة التدميرية، لكن هل ذلك شكل التقدم الذي نطمح إليه؟ وهل بناء دولة من الصفر في 50 عامًا على جثث سكانها الأصليين إنجاز ملهِم نحب أن نتعلم منه؟ وأين يصبح موقعنا المتخيَّل حين ننتمي هوياتيًّا إلى ذلك النجاح؟ هل سنصبح مستوطنين يهودًا أم جنود احتلال أم آباء مؤسسين للحلم الصهيوني؟
إذا كانت هناك حاجة للاعتبار بمثال ما، فهناك ديمقراطيات آسيوية وإفريقية وعربية ربما تكون أقرب إلى طموحاتنا ومخاوفنا. ربما لا تملك أقوى جيش في المنطقة، ولم تهزم أحدًا، ولم تخلق أمة ولغة وقومية من الصفر، لكنها بالتأكيد، والأهم، تواجه نفس أسئلتنا الجمعية عن التنمية والهُوية والإسلام السياسي، ومحملة بتراثنا الديني والاستعماري، ولم يمنعها ذلك من الاندماج في العملية الديمقراطية بما تتضمنه من ضمانة الحريات الشخصية والسياسية.
ماذا لو لم تكن إسرائيل؟
حين يكون السؤال هو: ما الذي كانت ستضيفه دولة عربية أخرى في فلسطين غير أن تكون نسخة مشابهة للدول العربية في تخلفها وعجزها عن الوصول إلى الديمقراطية؟ فربما تكون الإجابة أن هذه الدول نفسها بشكلها الحالي كان وجود إسرائيل ذاتها عاملًا مهمًّا في تشكيلها. لأنه من الثابت تاريخيًّا أن الديكتاتوريات العربية الكبرى محوَرت خطاباتها حول حلم تحرير فلسطين، قمعت شعوبًا عربية باسم الممانعة، سرقت، حاربت التعددية السياسية وحرية التعبير طويلًا لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، المعركة التي في الوقت نفسه لا تحدث أبدًا.
من حقنا أن نتساءل إذًا: ماذا لو أن ذلك الكيان الذي ظهر كشبح مفاجئ في تاريخنا لم يكن موجودًا حين تحررت الدول العربية من الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي؟ علام كانت ستتكئ نظم الممانعة في سوريا والعراق ولبنان لو لم تكن هنالك حاجة لتمهيد أي طريق للقدس بطحن شعوبها، وغالبًا ما يكون طريقًا وهميًّا لا يذهب إلى مكان؟
ما احتمالات تطوُّر المؤسسات المصرية إن لم تكن بحاجة إلى دخول أربعة حروب ضد إسرائيل، حروب شكلتها تمامًا بداية من نكبة 1948 التي كانت من أسباب حركة 23 يوليو؟ كيف كانت ستتطور الأيديولوجيات السياسية دون وقع هزيمة 1967؟ ودون هذه الهزيمة، هل كانت ستمضي كل هذه السنين ونحن نطرح السؤال الهوياتي المتكرر: كيف يمكننا مواجهة عدو صهيوني جاء إلى «أرض الميعاد» يؤسس وطنًا لليهود، سوى أن نكون أمامه مدافعين إسلاميين لاسترداد مقدساتنا الإسلامية؟
صحيحٌ أن دولة عربية مكان إسرائيل كانت لتشبه الدول المجاورة لها، لكن هذه الدول نفسها لن تكون كما نعرفها الآن، دول متحررة من هاجس إسرائيل كخطر مستمر، ومن الإحساس الساحق بهزيمتها المتكررة أمامها، ودون حروب متكررة تستنزفها وتشكل ملامحها ومآسيها.
إذا كنت مواطنًا عربيًّا في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، ستكون أمامك عشرات الاحتمالات الممكنة لطرق تنمية الدول العربية الناشئة وعشرات أنماط الهويات القومية، وسيكون هناك عشرات آلاف السيناريوهات المحتمَلة للتواريخ الشخصية للمواطنين الذين انخرطوا في تلك الحروب، ولن تتخيل أن ما سيشكل بقية القرن هو الصراع مع دولة اسمها إسرائيل، ستوجد بالقوة وبالدمار في أواخر الأربعينيات. هذه الدولة لن تنهي فقط كل هذه الاحتمالات لحساب مشروعها الخاص، بل أيضًا سترى كل احتمالات تنمية هذه الدول أو تحرر شعوبها خطرًا وجوديًّا عليها. هناك عوالم كاملة لمستقبل هذه المنطقة، أفقدتها هذه الدولة إمكانية الوجود.
*نشر هذا الموضوع على منشور أول مرة في 14 مايو 2018