فكر في عدد المرات التي تستخدم فيها موسوعة ويكيبيديا بحثًا عن معلومة ما، أو متابعةً لفضولك من رابط إلى آخر حتى تنسى ما كنت تبحث عنه بدايةً. هل تبدو هذه تجارب مألوفة لك؟ الآن تخيل أنك لا تستطيع الدخول إلى ويكيبيديا أصلًا، أو أنك تستطيع الدخول إليها لكن بلغة غير لغتك الأم، أو تخيل أن ويكيبيديا بلغتك الأم ليست ثرية بما فيه الكفاية لكي تلعب دورًا مهمًا في دراستك أو حياتك اليومية.
رغم أن تصميم ويكيبيديا يدفعنا للتفكير بأنها موسوعة ذات توجه ديمقراطي أصيل، لكن هذا ليس صحيحًا.
بالنسبة إلينا قراء العربية، لا تبدو هذه تجارب غريبة هي الأخرى. فنحن نعرف بالضبط أهمية ويكيبيديا وسهولة استخدامها، ونعرف في الآن نفسه أن ويكيبيديا باللغة العربية تبدو شديدة الفقر إذا ما قورنت بنظيراتها من لغات عالمية أخرى؛ كالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية.
لقد نمت ويكيبيديا بالتدريج منذ نشأتها عام 2001، لا لتصبح فقط أكبر عمل موسوعي في تاريخ البشرية، لكن لتصبح كذلك (في قسم معتبر منها) على قدم المساواة مع الأعمال الموسوعية الأكاديمية ذات السمعة الرفيعة؛ مثل الموسوعة البريطانية، وكل هذا دون أن تُنسب أي واحدة من مقالاتها إلى مؤلف بعينه.
وبالرغم من أن تصميم ويكيبيديا يدفعنا للتفكير بأنها موسوعة ذات توجه ديمقراطي أصيل؛ إذ يكتبها عموم الناس من أجل عموم الناس، ولا نتوقع بالتالي أن تحتوي على أي انحيازات مُضمرة أو خفية، إلا إن هذه الفكرة تصطدم بواقع انعدام التوازن الواسع بين ويكيبيديا في لغاتها المختلفة.
الإنترنت ليس ديمقراطيًّا
ربما تجدر الإشارة مبدئيًّا إلى أن الإنترنت لا يأخذنا دائمًا أو بالضرورة نحو عالم أكثر ديمقراطية. لقد قام موقع فيسبوك عام 2010 بتجربة مثيرة على مستخدميه الأمريكيين أثناء انتخابات الكونجرس؛ فعن طريق إظهاره إعلانًا صغيرًا لنسبة من المستخدمين يحوي الرسالة البسيطة القائلة: «هؤلاء الأصدقاء شاركوا في الانتخابات، فهل شاركت أنت أيضًا؟»، لاحظ باحثو الشركة ارتفاعًا لنسب التصويت في المناطق والولايات التي جرت عليها التجربة.
وإذا كان فيسبوك يستطيع أن يعرف التوجهات السياسية لمستخدميه عن طريق تحليله لنشاطهم على الموقع؛ فإنه يصبح قادرًا نظريًّا على توجيه الانتخابات باستخدام هذه التقنية مع المستخدمين المتوقع تصويتهم لحزب بعينه؛ من أجل رفع نسبة مشاركتهم.
والواقع أن الاحتمالات المخيفة التي يطرحها الإنترنت لا تقتصر على استخدام فيسبوك أو غوغل أو غيرهما لسلطتهما بشكل غير ديمقراطي، فقد نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» منتصف العام الماضي مقالًا يستكشف الطريقة التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي «باستبطان» التحيزات البشرية وتثبيتها وإعادة إنتاجها. وُجد مثلًا أن الخوارزمية الخاصة بمحرك البحث غوغل تميل لإظهار إعلانات الوظائف ذات الدخول الأعلى للرجال أكثر مما تظهرها للنساء.
تمثل ويكيبيديا دليلًا أكيدًا على عدم صحة فرضية أن توفير الإنترنت للجميع سيؤدي إلى توفر المعرفة للكل بشكل ديمقراطي.
تخيل الآن كيف يؤدي هذا إلى أن يقدم عدد أقل من النساء على هذه الوظائف، وبالتالي يصبحن ممَثلاتٍ بدرجة أقل عند هذا المستوى من الدخل، ما يؤدي إلى زيادة الفارق في متوسط الدخل بين النساء والرجال، الذي ربما تعاد تغذيته إلى الخوارزمية مجددًا بمختلف الطرق، وهكذا من دون توقف.
التوزيع غير العادل للموسوعة الحرة
تعاني ويكيبيديا مشكلة كالتي تسبب فيها فيسبوك أيضًا، وهذا وفقًا لتقرير نشرته مجلة «ذي أتلانتيك»، عن حوار أجراه «إري فريدمان» (Uri Friedman)، وهو كاتب صحفي في شؤون السياسة العالمية، مع «جيمي ويلز» (Jimmy Wales) مؤسس ويكيبيديا، بشأن الطريقة التي تتوزع بها الموسوعة بشكل غير متساوٍ، بالرغم من افتراضنا أنها موسوعة «حرة» ومتاحة للجميع.
تمثل ويكيبيديا، وفقًا لمقال «ذي أتلانتيك»، دليلًا أكيدًا على عدم صحة الفرضية القائلة بأن توفير الإنترنت للجميع سيؤدي بالضرورة إلى توفر المعرفة للجميع بشكل ديمقراطي، فويكيبيديا تتوفر اليوم بالفعل بمئات اللغات، وهي واحدة من أكثر 20 موقعًا تُزار في 95% من البلدان التي يتوفر فيها هذا النوع من الإحصائيات، إلا إن هذا لا يدل على أن درجات «المشاركة» و«التمثيل» تتساوى للجميع.
على سبيل المثال، يقوم عدد أكبر كثيرًا من المستخدمين الأوروبيين بتحرير مقالات الموقع، بالمقارنة بعدد المشاركات التحريرية التي يقوم بها المستخدمون من إفريقيا أو الشرق الأوسط، بل يصل الأمر إلى أن عدد المشاركات التحريرية في هونغ كونغ وحدها يفوق كل المشاركات من قارة إفريقيا بالكامل.
وبحسب المقال نفسه، قام الباحث «مارك غراهام» (Mark Graham) وفريق من جامعة أوكسفورد بتحليل المحتوى المتوفر في 44 من اللغات على ويكيبيديا، وتحديد المقالات التي تشير إلى مكان ما بإحداثياته، ليجد أن أكثر من نصف هذه المقالات يدور حول شخصيات وأماكن وأحداث تقع في وسط وغرب أوروبا، وهي منطقة تشكل 2.5% فقط من مساحة العالم.
رغم نمو معدلات الوصول للإنترنت من إفريقيا عن طريق هواتف محمولة، فإنه من المستبعد استخدام الهاتف لإنشاء صفحة كاملة على ويكيبيديا.
ويحاول «جيمي ويلز» في هذا الحوار أن يشير إلى العوامل التي تؤدي لهذا التوزيع غير المتساوي للنشاط على ويكيبيديا، ويخبرنا بالكيفية التي نستطيع بها الاستدلال من حجم ويكيبيديا في لغة معينة على معدلات الأميَّة، وتوفر الكمبيوتر والإنترنت، وأعداد المتحدثين بهذه اللغة في المجتمعات المختلفة. وبالرغم من كثرة وتعقيد العوامل التي قد تدخل في تشكيل ظاهرة كهذه (فكر في كل العوامل الثقافية والسياسية مثلًا)، فإنه يسعى لتحديد مجموعة من هذه العوامل التي نستطيع رؤية ارتباطها المباشر بالظاهرة.
الاتصال بالإنترنت لا يكفي
رغم أن معدلات الاتصال بالإنترنت تزيد باطراد في بلدان إفريقيا، إلا إن معظم هؤلاء المستخدمين الجدد إنما يدخلون إلى الإنترنت عن طريق الهواتف المحمولة بسبب زيادة انتشارها، ولا يستخدمون أجهزة كمبيوتر لأجل هذا الغرض.
ويشير المقال إلى تقرير الاتحاد الدولي للاتصالات، الذي سجل زيادة عالمية في استخدام الهواتف المحمولة من عام 2000 إلى 2015 تصل إلى 96.8%، وزيادة في استخدام باقات الإنترنت للهواتف المحمولة في الفترة نفسها تصل إلى 47.2%.
وإذا كان من الممكن استخدام الهاتف المحمول من أجل تصحيح بسيط على ويكيبيديا، فإنه من المستبعد بالتأكيد أن تستخدمه لإنشاء صفحة جديدة كاملة، أو لإجراء تعديلات واسعة في إحدى الصفحات القائمة. فكر في كل المهام التي يتطلبها هذا العمل؛ من كتابة وتنسيق وإضافة مصادر، لتدرك أن إجراءها لا يعتمد على مجرد الاتصال بالإنترنت فقط، وإنما كذلك على نوعية الجهاز المتصل.
العرض والطلب على اللغات
يسعى الناس للمشاركة في تحرير ويكيبيديا لأنهم يدركون أن هناك من سيقرأ ما كتبوه، لكن ماذا لو كانت اللغة التي تقرأ أنت بها ممثلة عالميًا بدرجة ضئيلة؟ سيؤدي هذا بالتأكيد إلى التأثير على المحتوى المتاح لك على ويكيبيديا. وبالرغم من أن هناك مثلًا 70 مليونًا من متحدثي لغة «التاميل» (Tamil) حول العالم، فإن مشاركة هؤلاء في تحرير ويكيبيديا إنما تتوقف على الطلب في هذه اللغة بالذات.
يعني هذا أن معدلات الاتصال بالإنترنت ومعدلات الأمية، بالإضافة حتى إلى معدلات إتقان أي لغة «عالمية» أخرى بين المتعلمين؛ كالإنجليزية أو غيرها من اللغات التي قد يفضلون المشاركة بها، كل هذا سيؤثر في درجات المشاركة، ويعني كذلك أن قارئي التاميل، أو أي لغة أخرى بالندرة نفسها، يصبحون أقل حظًا فيما يتعلق بتوزيع ويكيبيديا للمعرفة.
المعرفة تثمر معرفة
أشار «غراهام» في دراسته إلى أن عدم التوازن في التوزيع يقوم بتغذية نفسه، لأن إنتاج المحتوى الجديد يعتمد دائمًا ببساطة على محتوى سابق، وخصوصًا بالنظر إلى سياسات ويكيبيديا الصارمة فيما يتعلق بالإحالات والمصادر. فمن أجل كتابة مقال على ويكيبيديا لن تحتاج فقط إلى قاعدة موجودة بالفعل من الكتب والخرائط والصور لاستخدامها كمصادر، بل يلعب المحتوى على الإنترنت كذلك دورًا كبيرًا في تيسير هذه العملية.
عوامل عدة قد تؤثر على نمو ويكيبيديا بلغة بلدك؛ كمدى انتشار ثقافة التطوع على سبيل المثال.
ونتيجة للمعوقات التي قد تحول دون إنتاج المحتوى الجديد، بسبب النقص في المحتوى الأقدم الذي يمكن الاعتماد عليه، تميل النسخ الإنجليزية والألمانية والفرنسية من ويكيبيديا إلى النمو بدرجة أسرع كثيرًا من ويكيبيديا المكتوبة بلغات أكثر محلية.
العوامل السياسية قد تفسد كل شيء
وأخيرًا، ربما تتدخل الرقابة التي تخدم أغراضًا سياسية كذلك لهدم العملية برمتها، فقد حجبت الحكومة الصينية مثلًا موقع ويكيبيديا عندما تحول لاستخدام بروتوكول «HTTPS» المشفر لأغراض الأمان الرقمي. وهكذا تصبح كل العوامل الأخرى بغير معنًى؛ لأن الحكومة قررت ببساطة شديدة أن تخفي الموقع بالكامل.
ولا تتعرض ويكيبيديا كثيرًا لهذا النوع من المشاكل بسبب طبيعة الموقع المعرفية غير المسيَّسة، لكن يظل ممكنًا من حيث المبدأ أن تتدخل الحكومات المحلية لأي سبب في هذه العملية، التي تسعى إلى توفير معرفة واسعة ومجانية ومتاحة للجميع.
بالإضافة لكل هذا، يمكنك أن تفكر فيما لم يتطرق إليه «ويلز» من عوامل ثقافية واجتماعية قد تؤثر على محتوى ويكيبيديا في بلدك: إلى أي مدى تنتشر ثقافة التطوع؟ وإلى أي درجة قد تلجأ الفئات القادرة على المشاركة في ويكيبيديا ببساطة إلى المحتوى المكتوب بلغة أخرى غير اللغة المحلية، لاستخدامها أو للمشاركة في إنتاجها؟ وأخيرًا؛ ما هي السبل الممكنة لزيادة تمثيل مجتمعك المحلي، إن لم يكن ممَثلًا بشكل جيد، على ويكيبيديا؟