نتعامل مع الوقت دائمًا باعتباره معيارًا يقيس حياتنا ويشكلها. تؤثر الطريقة التي نعيش بها في إدراكنا للوقت. وإن كانت غير ثابتة، فهو تأثير يتغير وفقًا للسياقات والمدخلات.
هذا الإدراك ليس ثابتًا، بل ربما يكون على قدر من الهشاشة. يتغير إدراكنا للوقت عند تلف الدماغ أو تأثرها بالعقاقير أو الأمراض أو قلة النوم أو حتى في حالات الوعي المعدَّلة طبيعيًّا. لكن مجموعة دراسات عصبية حديثة تقترح أن فقدان إدراكنا الوقت يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمجالات تتعلق بالإبداع والجمال والنشوة.
تتلاعب الأفعال التي نمارسها لملء الوقت، بالوقت نفسه. حين تكون عقولنا تحت التحفيز لتحقيق مهمة ما، نشعر بأن الوقت يتحرك ببطء. لكننا حين ننخرط كليةً، وبخاصة في حالة التدفق المألوفة لدى الفنانين والرياضيين، نكتشف أن إحساسنا بالوقت يتغير سريعًا أو يختفي تمامًا.
يصف كثير من الناس أنفسهم بأنهم «منجذبون» أو «مسحورون» عند مشاهدة أداء مؤثر، أو حتى تذكُّر متعمِّق لأعمالهم الفنية المفضلة.
بالنسبة إلى الطبيبة «هيذر بيرلين»، أستاذ علم الأعصاب المعرفي، فإنها تدخل هذه الحالة عند استكشاف قسم اللوحات الأوروبية في متحف «المتروبوليتان» للفنون في نيويورك. وفي تقريرها المنشور في مجلة «Nautilus»، تحاول أن تكتشف حالة الانفصال والتسامي التي كثيرًا ما يقول الناس إنهم يدخلون فيها أيضًا حين ينخرطون في تأمل عمل فني يحبونه: كأن كل ما حولهم يختفي، ويصبح كل ما نقلق منه أو عليه مسألة جانبية. نتسامى وننفصل عن الواقع، يبدو الوقت ثابتًا أو يختفي، بينما نعيش في عالم القصة أو العمل الفني الذي ننشغل به.
ظاهرة التدفُّق
كثير من الفنانين يتحدثون عن حالة تشبه فقدان الوعي، أو التخفف من أعباء مادية. حالة تشبه الانفصال عن الواقع، وفقدان الصلة بما يحدث حولهم.
خلال العملية التي يسميها علماء النفس «Flow state» (حالة التدفق)، يكون الإنسان مغمورًا بفعل جسدي أو عقلي، يشعر الناس بالوقت والمكان وبأنفسهم بشكل مختلف.
يمكن إيجاد مثال على حالة التدفق هذه في عدد من الفنون المرتجَلة، بدءًا من الموسيقى، ومرورًا بالتمثيل، ووصولًا إلى الشعر. وتُعرَف أيضًا باسم «الإبداع العفوي»، أو الارتجال، وهو خليط من السلوك الإبداعي الذي يُلهِم وعينا. تتطلب القدرة على الارتجال مرونة معرفية وتفكيرًا متشعبًا، وتمتاز بتحسُّنها وتطورها بالمران.
لا عجب من أن المناطق الأمامية من العقل التي ثبت انخراطها في إدراك الوقت، والسيطرة على الاندفاعات، منخرطة أيضًا في عملية الإبداع العفوي. تجري عملية الارتجال في حالة متغيرة للعقل أو الدماغ. وحددت الدراسات المتعلقة بالآليات العصبية في الارتجال الموسيقي وجود شبكة من الجهات الأمامية في مناطق العقل، مرتبطة بالارتجال.
يبدو أن عملية الارتجال الإبداعية، على الأقل في مجال الموسيقى، ناتجة عن تغير أنماط النشاط في منطقتين رئيسيتين من الدماغ، تحديدًا في «القشرة الجبهية الأمامية» (PFC).
خلال عملية الارتجال الموسيقي، تُظهِر الدراسات التي ينقلها التقرير زيادة ملحوظة في نشاط القشرة الجبهية الأمامية الوسطية، وهي منطقة في الدماغ معروفة بتوليد التعبير الذاتي الداخلي المتعمَّد، والسعي وراء السلوكيات الموجهه نحو تحقيق الهدف. وهذا منطقي، لأن الأداء الارتجالي يتطلب استحضار مواد جديدة بنسق معين وتقديمها بسرعة للجمهور المستمع أو المشاهد.
الجانب الآخر لهذا النمط هو نقصان في نشاط «القشرة الجبهية الأمامية المدارية» (OFC)، و«قشرة جبهية أمامية الجانب-ظهرية» (DLPFC)، وهي مناطق في الدماغ تعمل على رصد الذات وحل المشكلات وتنظيم السلوكيات الموجهة نحو الهدف وتقييمها. تساعد هذه المناطق في تحديد ما إذا كانت السلوكيات متوافقة مع الأعراف المجتمعية، والسيطرة على السلوك غير المتوافق أو غير المتكيف.
تفعيل «القشرة الجبهية الأمامية الوسطية» (MPFC) يساعد في تشجع التوليد الداخلي للأفكار. وحين تتعطل مناطق القشرة الجبهية الأمامية المدارية في العقل، تسمح للأفكار والسلوكيات الجديدة بالظهور دون تقييد، ما يقود إلى التفكير المتشعب والإبداع غير المرشح. بعبارة أخرى، يتعطل الناقد الداخلي وينطلق المبدع دون قيود.
يرتبط تعطيل القشرة الجبهية الأمامية الجانبية بالانتباه الحر، ما يسمح بزيادة الروابط التلقائية بين الأفكار وحدوث الإدراك المفاجئ أو الرؤى المتعمقة. يبدو أن الإبداع يحدث حين تقلل مناطق القشرة الجبهية الأمامية الظهرية تنظيمها لمكونات الوعي، سامحةً للأفكار والأحاسيس العشوائية غير المفلترة بالتدفق، تمامًا كما يلعب الأطفال بعفوية أكثر حين لا يراقبهم معلمهم. فنحن حين نقلل تأثير القشرة الجبهية الأمامية الجانبية في سلوكنا، نسمح لأنفسنا بالتفكير كالفنانين والمبدعين.
مناطق القشرة الجبهية الأمامية المدارية هي المناطق التي يخلق فيها إحساسنا بالقدرة على التصرف بعد حدوث الأفعال. وحين ينقص نشاط هذه المناطق، يشعر المؤدي بأن قراراته وأفعاله اللحظية تحدث خارج الوقت، ودون انتباه، كما لو أنها «جاءت من مكان آخر». ويتفق هذا الشعور مع ما يسميه عدد من الفنانين «الوحي».
يتضمن التفكير الإبداعي أيضًا شبكة عصبية تسمى «شبكة الوضع الافتراضي». هي مجموعة مناطق دماغية تنشط حين يُوجَّه الاهتمام داخليًّا نحو شيء ما، وتُقمَع حين ينخرط الشخص في مهمات موجَّهه تحتاج إلى التركيز.
تعمل الشبكة عندما تغرق في أحلام اليقظة، أو تفكر في الماضي أو المستقبل. وتكون في أوج نشاطها لحظات الاسترخاء. وتتوقف خلال المهمات التي تتطلب تركيزًا، مثل ملء استمارة ما، لأنه حينها يتطلب الأمر نشاطًا من منطقة «القشرة الجبهية الأمامية الجانب-الظهرية» (DLFPC).
تسمح لنا هذه الشبكة بإجراء أمور اعتيادية بطريقة آلية، تمامًا كالطيار الآلي في الطائرات، مثل القيادة على طريق مألوف بالنسبة إلينا. فالشبكة ببساطة تجعلنا نتوقع الأشياء التي على وشك الحدوث، فتقلل حاجتنا لعملية التفكير.
لحدوث عملية الارتجال، يجب تحقيق التوازن بين نشاط المنطقتين، أي شبكة الوضع الافتراضي ومنطقة القشرة الجبهية الأمامية. ويعكس هذا مدى حاجة الفكر والسلوك الإبداعي للاستجابة للمعطيات البيئية المحيطة به، وتقيُّده بالقواعد لتحقيق المهمات التي ننفذها. لكنك لو صرت واعيًا بنفسك لوقت طويل، ستخسر حالة التدفق، ويتأثر إبداعك.
اقرأ أيضًا: التدفق: وصفة الإنسان الخارق
الوصول إلى التدفُّق
«أنا اللي بالأمر المحال اغتوى
شُفت القمر نطِّيت لفوق في الهوا
طولته، مطولتوش، أنا إيه يهمني
وليه، ما دام بالنشوة قلبي ارتوى»
من رباعيات صلاح جاهين
لا تحتاج إلى الارتجال أو تعاطي المخدرات والتأثير في عقلك للوصول إلى حالة التدفق. تعطيل القشرة الجبهية الأمامية المدارية يحدث أيضًا في حالات وعي مختلفة، مثل التأمل والتركيز الواعي، وحتى أحلام اليقظة. وجرى التعرُّف إلى أنماط مشابهة تحدث في أثناء نوم حركة العين السريعة.
تضمن عملية الحلم ارتباطات غير عقلانية لم يُخطَّط لها، وشعورًا متغيرًا بالوقت، وإحساسًا بقلة التحكم الإرادي. هذه هي نفس السمات المرتبطة بالإبداع الذي يمكن إنتاجه في حالة اليقظة.
يمكنك ببساطة الوصول إلى حالة النشوة والتدفق حين تسمع أغنية تحبها، أو تشاهد فيلمًا، أو حتى ذكرى مرتبطة بشخص تحبه. أنت لا تتحرك من مكانك، لكن عقلك وقلبك يجولان.
الإحساس بمرور الوقت وتغيراته قدرة تطورية اكتسبناها للتكيف. نتتبع الوقت بشكل غرائزي، ويساعدنا في هذا الابتكارات الحديثة، مثل الساعات والمنبهات. لكننا طوَّرنا أيضًا طريقة لإيقاف هذا الوقت، وفقدانه في لحظات الاستمتاع والسمو، وهذه اللحظات تمنح حياتنا جمالها ومعناها، والطريقة التي نقضي بها وقتنا القيم المحدود أعظم الهدايا التي حظينا بها.