يضحك الأطفال قبل أن يتحدثوا أو يزحفوا أو يخطوا خطواتهم الأولى. يبتسم الطفل لأول مرة في شهره الرابع تقريبًا، ما يفتح الباب أمام مجموعة من الفرص الاجتماعية والذهنية. رغم عالمية الابتسامة، ولأنها تأتي مبكرًا في حياة الطفل، فإن ضحك الصغار لم يحظ بالبحث الكافي حتى وقت قريب.
خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ الباحثون فحص ما يكشفه الضحك عن تلك العقول الصغيرة، وما إن كان الرضع فعلًا يفهمون ما هو مضحك، وكيف يفهمونه.
يسعى مقال نُشِر على موقع «Aeon» إلى توضيح الأدلة التي تثبت أن الرضع يفهمون الفكاهة قبل أن يتموا عامهم الأول.
الضحك من أجل استمرار الحياة
متعة الضحك لها أساس في علم الأعصاب، فالضحك ينشط مناطق المكافأة في المخ.
بدأ علماء النفس في العصر الحديث يتساءلون عما إن كان ضحك الرضع له غرض أو إن كان يكشف شيئًا عن فهمهم للعالم. وما أصابهم بالحماس أن بعض الملاحظات التي سجلها «تشارلز داروين» في الموضوع، والذي تكهَّن بأن الضحك، مثله مثل التعبيرات العاطفية الأخرى، يخدم وظيفة اتصال مهمة. وإلا، فلِمَ أبقت عليه الطبيعة وأعطته تلك الأولولية؟ هناك دليلان يؤيدان تكهنات داروين.
- طبقًا لعالم النفس «جاك بانكسيب»، من جامعة «بولينغ غرين ستيت» في أوهايو، فإن الضحك ليس شيئًا ينفرد به البشر. تظهر العلامات السمعية والوجهية والإيقاعية السابقة على الضحك لدى الثدييات الأخرى، وبخاصة لدى صغار الحيوانات وهي تلعب، ما يشير إلى دور عملية التطور في الضحك عند الإنسان.
- متعة الضحك لها أساس في علم الأعصاب، فالضحك ينشط مناطق المكافأة في المخ. الضحك له تأثير في الشركاء الاجتماعيين يشبه كثيرًا ما يحدثه اللعب. فكما أن متعة اللعب هي الطريقة التي تخلق الروابط بين صغار السن، فإن متعة الضحك هي الطريقة التي تكوِّن الروابط بين الكبار، لأن البالغين من الثدييات نادرًا ما يلعبون. الاشتراك في الضحك له نفس فعالية اللعب في جعل الآخرين مصدرًا للسعادة والإشباع. على هذا، فإن الضحك يعزز التآلف، ويضمن التلاقي الذي نحتاجه من أجل البقاء على قيد الحياة.
الضحك.. تطور في الإدراك
الضحك ليس فقط مُهمًّا من أجل الاستمرار على قيد الحياة، وفقًا لكاتبة المقال، وهي أستاذة علم نفس أمريكية، فهو مهم في فهم الآخرين. مثلًا، يلجأ الرضع إلى تصنُّع الضحك، والبكاء أيضًا، عند الشهر السادس تقريبًا، ويفعلون ذلك حين يشعرون بالتجاهل أو حين يحاولون لفت أنظار شريك اجتماعي.
يُظهر هذا الادِّعاء أن الرضع قادرون على ممارسة بعض أفعال الخداع البسيطة في عمر أصغر مما توقعه العلماء. وجدت عالمة النفس «فاسو ريدي» من جامعة «بورتسماوث»، أنه بحلول الشهر الثامن يستطيع الرضع استخدام شكل معين من الفكاهة، وهو «الإغاظة».
فمثلًا، قد يُسلِّم الرضيع ميدالية المفاتيح التي أعطاها له الأب ليلعب بها. لكنه، في حركة خداع، قد يسحب يده إلى الوراء سريعًا قبل أن يلتقطها الأب، ثم يسمح له الطفل أخيرًا باستردادها، وسيفعل ذلك وعلى وجهه ابتسامة احتيال. تُسمي ريدي هذا الشكل من الإغاظة «عدم الانصياع الاستفزازي». إذ وجدت كذلك أن الرضع بين ثمانية أشهر وعام واحد، يُطوعوِّن أساليب أخرى للإغاظة، مثل «الإخلال الاستفزازي»، وذلك عندما يُسقط الطفل برجًا من المكعبات شيده شخص آخر.
تقول كاتبة المقال إن هذه الأفعال محاولات من جانب الرضيع لاستفزاز الطرف الآخر بهدف التفاعل معه، ما يُظهر أن الرضع يفهمون شيئًا ولو بسيطًا عن عقول الآخرين ونواياهم. في المثال المذكور، يفهم الطفل أنه يستطيع أن يجعل أباه يظن أنه سيسحب المفاتيح. هذه القدرة على خداع الآخرين بهذه الطريقة تقترح أن الرضيع بدأ يطوِّر ما يسميه علماء النفس «نظرية العقل»، وهي التي تساعده على إدراك أن للآخرين عقولًا منفصلة عن عقولهم، ويمكن خداعها.
محاولة إضحاك الآخرين لا تظهر بين الأطفال والبالغين المصابين بالتوحد الذي يفسد القدرة على فهم سلوكيات الآخرين الاجتماعية والعاطفية.
اعتقد العلماء بشكل عام أن الأطفال لا يصلون إلى هذه المرحلة من الإدراك قبل الرابعة والنصف من العمر. قدرة الرضع على إغاظة الآخرين بشكل فكاهي تكشف عن تطورهم في اتجاه «نظرية العقل» في مرحلة أسبق بكثير مما كان يُعتقد.
الأدلة الإضافية التي تثبت ترسيخ «نظرية العقل» لدى الرضع تأتي من دراسات تُظهر أنهم قادرون على تَعمُّد إضحاك الآخرين بحلول الشهر الثامن من العمر. يفعل الرضع هذا من خلال تعبيرات الوجه خفيفة الظل وإصدار الأصوات المضحكة وكشف أجزاء من الجسم والتلويح بالقدمين في الهواء، وكذلك من خلال لعب «بخ بخ» (peekaboo).
معرفة ما يُضحك الآخرين يوحي بأن الرضع يفهمون شيئًا عن الآخر، ويستخدمون ذلك الفهم لتحقيق غرض هو الإضحاك.
محاولة إضحاك الآخرين لا تظهر بين الأطفال والبالغين المصابين بالتوحد الذي يفسد القدرة على فهم سلوكيات الآخرين الاجتماعية والعاطفية. الأشخاص المصابون بالتوحد يضحكون، لكنهم يفعلون ذلك في معزل عن الناس أو استجابةً لمؤثرات لا تبعث على الضحك لدى الشخص غير المصاب. قد يقلدون الضحك، لكنهم لا يشاركون الآخرين فيه، فضحكهم غير اجتماعي.
قد يهمك أيضًا: نحن لا نتذكر طفولتنا، لحسن الحظ
لماذا لا نصدق أن للرضع حسًّا فكاهيًّا؟
عدم تصديقنا قدرة الرضع على ممارسة الفكاهة ربما يرجع إلى أنهم صغار جدًّا. كثيرًا ما نرى ضحكهم نتيجة لتجمع الغازات في بطونهم، رغم أن هذه أسطورة انكشف خطؤها منذ زمن، أو نراه محاكاة لنا، أو ربما ظنناه يأتي نتيجة تعزيزنا تلك الاستجابة كرد فعل على أفعال معينة، مثل غناء الأم لطفلها بصوت «أوبرالي». لكن يبدو أن فهم النكتة لا يتطلب مهارات ذهنية متقدمة، بل إن كثيرًا مما تتطلبه في مقدور هؤلاء الرضع الصغار.
رغم أن الرضع يقلدون الابتسام في الأشهر الأولى من العمر، ويفضلون التطلع إلى الوجوه المبتسمة مقارنة بالمتجهمة، ورغم أنهم قد يعتادون على الضحك في مناسبات معينة، فإن هذه ليست تفسيرات كافية لضحك الرضع. فلو كانت تلك الأسباب كافية، لبررت معظم حالات ضحك الرضع. لكن ملاحظاتنا الحياتية والأدلة المعملية لا تؤكدها.
إضافة إلى ذلك، فإن الاكتفاء بهذه المبررات تقترح أن الرضع غير قادرين على فهم المواقف المضحكة الجديدة، إلا لو كان هناك من يشرحها لهم أو يشاركهم الضحك. لكن الأبحاث تُظهر أن الرضع، في الأشهر الستة الأولى من عمرهم، يستطيعون فهم أن موقفًا جديدًا ما، مضحك دون مساعدة.
كيف يعرف الرضع أن هناك ما يُضحك؟
مثل الأطفال والبالغين، يعتمد الرضع على عاملين اثنين لرصد ما هو مضحك.
1. الضحك دائمًا يتطلب عاملًا اجتماعيًّا. وجد عالم النفس «روبرت كراوت» و«روبرت جونستون» من جامعة «كورنيل»، ومن بعدهما عالم الأعصاب «روبرت بروفينس» من جامعة «ماريلاند»، أن التبسم يرتبط بشكل أقوى بوجود أشخاص آخرين، بينما يرتبط بشكل غير منتظم بمشاعر السعادة.
يعني هذا أن الابتسام يمكن بشكل أكبر أن تحفزه عوامل اجتماعية أكثر منها عاطفية. على هذا، فإن وجود شريك اجتماعي مكوِّن أساسي لاعتبار شيء ما مضحكًا، فالهدف من الضحك هو مشاركته.
2. للفكاهة عنصر ذهني أيضًا، وهو التناقض. المواقف المضحكة تكرار عبثي لتجارب عادية تخالف توقعاتنا، مثل استخدام موزة كسماعة هاتف، أو حين يتحدث رجل ضخم بصوت شخصية كارتونية، أو حين يخرج 20 بهلوانًا من سيارة صغيرة، فكل هذه المواقف غريبة وغير منطقية تتركنا حائرين. الأطفال الرضع يشاركوننا نفس الشعور أيضًا.
في إطار التجارب، عرضوا وقائع عادية على رضع يبلغون ستة أشهر، ثم كرروا نفس الوقائع، لكن بصورة عبثية. في التجربة الأولى كان الباحث يشرب من كوب أحمر، وفي العبثية كان يلبس الكوب الأحمر على رأسه كقبعة. في إحدى التجارب، طُلب من الآباء أن يظلوا محايدين عاطفيًّا لدى عرض الموقف العبثي.
وجد الرضع الموقف العبثي مضحكًا. ليس هذا فقط، بل وجدوه مضحكًا حتى حين ظل آباؤهم محايدين في رد الفعل. يعني هذا أن الرضع لم يعتمدوا على فهم آبائهم للموقف، فقد وجدوه هم أنفسهم مضحكًا. حين كررت التجربة مع رضع عمرهم خمسة أشهر، سجل الباحثون نفس النتائج، رغم أن هؤلاء لم يبدأوا في ممارسة الضحك سوى منذ شهر واحد. فقد فهم الرضع ذوو الأشهر الخمسة وحدهم أن الموقف مضحك.
قد يعجبك أيضًا: أول 11 شهرًا في عمرك هي الأنسب لتعلم اللغات
لكن ماذا عن الألعاب السحرية، فهي أيضا تتناقض مع الطبيعي، لكن الكبار والأطفال والرضع لا يضحكون عليها؟ لاحظ كلٌّ من الباحثتين «إليزابيث سبيلك» من جامعة هارفارد، و«رينيه بايارغون» من جامعة إلينوي، أنه حين تُخترق القوانين الطبيعية، كأن تختفي كرة في الهواء أو يمر جماد من خلال عائق صلب، فإن الرضع مثلهم مثل الكبار والأطفال، لا يضحون، وإنما «يحدِّقون».
لماذا هذا الاختلاف في رد الفعل؟ يرى الباحثون أنه رغم أن السحر وخفة الظل يتضمنان تناقضًا مع ما هو طبيعي، فإن الفكاهة تتضمن «تقديم الحل». في النكات، يأتي الحل في صورة نهاية مضحكة، وهي اللحظة التي نفهم فيها أخيرًا ما تعنيه النكتة. ليس معروفًا إن كان الرضع يحلون هذا التناقض، لكن ضحكهم على النكات وتحديقهم، على الناحية الأخرى، أمام مشاهد الألعاب السحرية يوحي بأنهم يستطيعون ذلك. ربما يمكنهم تمييز أن المواقف المضحكة «تدخل في إطار الممكن»، بينما ليست المواقف السحرية كذلك، وهذا يكفي ليجعل الأولى مضحكة. على الباحثين أن يجيبوا على هذا، وإلى أن يفعلوا، سيظل الرضع يضحكون.