في هذه السلسلة يكتب لنا كُتَّاب «منشور» وأصدقاؤه رهاناتهم الشخصية في كأس العالم، كلٌّ حسب تفضيلاته. ليست رهانات أو تحليلات فنية، بل تفضيلات وأهواء شخصية منطلِقة من موقعهم كمتفرجين ومشجعين لا أكثر.
يقول لي صديقي المحرر في «منشور»: «سهير.. النهار ده اسمك اتطرح في سياق غريب. عايزينك تكتبي عن الكورة. قلت لهم كورة إيه اللي سهير تكتب عنها؟ قالوا لي إنك بتحبي فريق آيسلندا، وعايزينك تكتبي عنه».
يشجع أبي الأهلي، وتشجع أمي ألمانيا. لكني لا أشاهد إلا الماتشات المهمة معهما، أو ماتشات أبو تريكة الذي إذا أضاع الكرة ابتسم.
يقول أبي: «بصي جميل إزاي؟ عشان هو أكبر من كده. الناس هتتجنن، وهو هادي». بعدها فكرت في روح الزهد التي تستحوذ على أبو تريكة عندما يضيع الكرة، وثباته الانفعالي، وقبل كل ذلك إيمانه بنفسه وموهبته وتواضعه الذي برز في غالبية مواقفه منذ أن بدأ التنكيل به ومصادرة أمواله لمنعه وترهيبه، بينما ينشر على حساباته الشخصية، في السوشيال ميديا، آيات احتساب يُصَبِّر بها أحباءه وجماهيره. حتى عندما بزغ نجم محمد صلاح، وفاز بأحسن لاعب في الدوري الإنجليزي، كان إحساسي أنه أكثر لاعب فرح له من قلبه لأن الأشياء في عينه صغيرة، فهو «أكبر من كده» على رأى والدي.
الكرة فيها تأمل ودراما مفاجئة. من هذا المنطلق أشاهد فقط الماتشات المهمة كما قلت. أما أمي، فتشجع ألمانيا. درسَت في مدرسة ألمانية للراهبات، وفي الجامعة درست الأدب الألماني، وكلما لعبت ألمانيا تقول أمي: «ألمانيا ما بتخسرش». وتعمل صينية «جلاش» احتفالًا بنجاح فرقتها المفضلة.
أنا أحب القصص. لست محللة رياضية، ولا كاتبة تحب الكرة، ولا أدَّعي تشجيعي وولعي بالكرة على الإطلاق. أنا أحب القصص التي تبدأ بالفشل، أو تبدو «فشلو». ولكن تدب فيها الروح وتتغير. فما بالك بفريق دولة صغيرة لم يدخل كأس العالم، ولا كأس أوروبا قط، وفجأة يدخل الاثنين. إنه آيسلندا.
قل الروح من أمر ربي
لا تلعب آيسلندا بطريقة جميلة تستمتع بها، فلاعبو المنتخب لا يرقصون مع الكرة، لكن الفريق يكسب ويصعد ويقاتل حتى الدقيقة الأخيرة.
هناك دائمًا مكان في قلبي للـ«underdog». باستطاعة القصص البسيطة أيضًا أن تكون ملهمة. من يثيرون اهتمامي دائمًا هم من يحاولون بكثير من المثابرة الوصول إلى ما يحلمون به، ولا يجب أن يكون ذلك بشكل ملحمي، أو نابعًا من مأساويات.
في حديث لمدرب الفريق «هالغريمسون» يقول: «هل تعلم كيف يبذل المدربون الجهد مع الفِرَق، ثم لا يجدون عملًا في اليوم التالي؟ ذلك لن يحدث معي.» يدرب المنتخب طبيب أسنان. أما الفرقة، ففيها لاعب يعمل في مصنع لتعبئة الملح. يقول «سافرسون»، مدافع آيسلندا: «أن تكون لاعب كرة، فهي أحسن وظيفة، لكنها ليست حقيقية».
كأس أوروبا
خرجت عناوين تتحدث عن خسارة إنجلترا من آيسلندا، وتوقُّع وصول آيسلندا إلى النهائيات. أقرأ عن الفرقة، وأبدأ متابعة جميع المباريات. منتخب كان قبل مباراتين من أسوأ منتخبات أوروبا، فأصبح من المتوقَّع أن يكون في النهائيات.
أبدأ في مشاهدة مباراياتهم. لا تلعب آيسلندا بطريقة جميلة تستمتع بها، فلاعبو المنتخب لا يجيدون ألعاب الهواء، ولا يمررون الكرة من وراء ظهورهم، ولا يرقصون مع الكرة، وليس لهم مقاطع على يوتيوب بعنوان: شاهد الهدف الساحر والعالمي. لكن آيسلندا في النهاية تكسب وتصعد وتقاتل حتى الدقيقة الأخيرة.
بعد انتهاء المباراة يذهب الفريق إلى جمهوره ويحييه بواحد من أجمل التشجيعات التي رأيتها. يقف الفريق باتجاه المشجعين، يتقدمه المهاجم «أرون جنرسون»، رافعين أيديهم، يبدأون بالتصفيق الهادئ، ثم الأسرع. تشجيع قديم على الطبول من تاريخ «حروب الفايكينغ». هذه ليست رقصة أو أغنية مضحكة، ولا أغنية عن حب الفريق، ولا نشيدًا وطنيًّا. إنها لحظة يقدِّر فيها كل طرف الآخر في لحظة واحدة.
استطاعت آيسلندا أن تفوز على إنجلترا في مباراة ظل فيها المعلق يصرخ في الميكروفون: «انتهى. لن نذهب إلى بلادنا أبدًا. نحن هنا لنبقى». تذكرت يسرا في فيلم سيئ، ولكن فيه عبارة أستخدمها أنا وأصدقائي كثيرًا: «مافيش مرة فرحت غير لما اتقطم ضهري». وللأسف خسرت آيسلندا من فرنسا في مباراتهما الأخيرة في كأس أوروبا.
تعلمك مصر أن تشكك في كل شيء، وأن تتوقع الأسوأ. لكنك في المقابل تفرح بالفعل عندما تأتيك الفرحة. قلت بيني وبين نفسي إن ما فعلته آيسلندا في كأس أوروبا كان حظًّا، فهم خرجوا من تصفيات كأس العالم في 2014، والمدرب طبيب الأسنان (جت معاه كده)، واللاعبون الذين أتوا من أصغر دولة في أوروبا، وكانوا منذ شهور مضت، من أسوأ المنتخبات، لن يكونوا في كاس العالم 2018. لكنني فوجئت، وفرحت عندما شاهدت مبارياتهم في تصفيات كأس العالم. ليست الفرحة التي ينقسم ظهرك بعدها، و لكن تلك التي تجعلك تفكر: «طب والله ممكن». ربما لم يكن الأمر مجرد حظ.
لعبت آيسلندا التصفيات بنفس الطريقة، فلا وجود للقصص الأسطورية عن دخولهم، ولا نقطة أخيرة كان لها مفعول الإنقاذ، ولا محمد صلاح بينهم يذهب من بسيون وإليها بالحافلة لمدة خمس ساعات، ويلعب، ويدهش العالم. مباريات آيسلندا تبدأ بشكل جيد، وتنتهي لصالحهم، ويستقتلون في كل مرة من أجل الفوز. هذه المرة الأولى لبلد صغير بنى عدة ملاعب كرة للأطفال في بداية القرن الحادي والعشرين (الألفينات)، لحثهم على عدم التدخين، كيف يخرج منه هذا الفريق؟
أُطلِقَ على مجموعة آيسلندا تعبير «مجموعة أسامة أنور عكاشة» لأنها تحتوي على كثير من الدراما وأسباب الصعود. تتنافس الأرجنتين وآيسلندا ونيجيريا وكرواتيا في مجموعة واحدة. كل فريق يحتوي على قصة وسبب مهم للاستقتال على الصعود.
صعدت الأرجنتين بصعوبة الى كأس العالم، ونافست في أول مباراة لها ضد آيسلندا. ميسي الذي يراه كثيرون أحسن لاعب في العالم، والذي ينتظر منه الأرجنتينيون أن يأتي باللقب، مثل مارادونا، تصدى له شاب يعمل مخرجًا وفي نفس الوقت لاعب كرة قدم. أما كرواتيا، فإنها في 2014 كانت السبب في خروج آيسلندا من تصفيات كأس العالم، ولا أعتقد أن آيسلندا قد نسيت ذلك. ونيجيريا التي خسرت «2/صفر» في أولى مبارياتها مع كرواتيا.
يميل أكثر من أعرفهم إلى أن كرواتيا ستفوز على آيسلندا. أنا لا أعرف كثيرًا عن كرة القدم، ولكن أعرف عن القصص والدراما وآيسلندا. و اعتقادي وأملي أنهم هنا ليبقوا كما قال المذيع الآيسلندي بعد مباراة إنجلترا في كأس أوروبا.
ع الحلوة والمرة معاه
لا أتذكر مشهد تشجيع إلا وتقفز إلى عقلي صورة شاب لا أكاد أرى جسده من الضرب والأربطة، وقدمه التي يلفها الجبس أمام النادي الأهلي. في صباح الثاني من فبراير 2012 كانت قد جائتني رسالة عن أن الجنازات ستنطلق من هناك. قبل أن تبدأ الجنازة، أو في ما تبين بعد أنها مسيرة، يرفع عدد من الشباب شابًا على أكتافهم، إذ يبدو أنه من الناجين بعد مباراة الأهلي والمصري. أمشي معهم، أحاول ألا أركز في ما يقول رغم أنه يقود الغناء، وهو في حالة يرثى لها من البكاء والغضب.
كانت معي قريبتي. نمشي في صمت، فجأة قال الولد في جزء من الأغنية: «ولا في غيره يفرحني.. أوه أوه أوه أوهه.. ع الحلوة والمرة معاه». التفتت قريبتي قائلة: «ولا في غيره يفرحني؟ إيه الغلب ده؟». وبكينا معًا. لا يوجد عندي شغف بفريق معين ألبس ملابسه وأردد أغانيه، ولكن عندي روح تحب وتقدِّر الشغف. وللأسف تلك أشياء لا تستطيع تغييرها.
حبي لمنتخب آيسلندا قائم على أي إنجاز كروي يُفرِح سكانه الذين لا يزيد عددهم عن 350 ألف نسمة، ومدربه الذي يقابل المشجعين في بار قريب من النادي ليتحدث معهم، واللاعب المتمسك بوظيفته النهارية رغم أنه نجم كرة في المساء.
قصة تصلح لفيلم جميل، أشجعهم بسبب روح الاستقتال والعناد والمثابرة، ولربما مللت من روح الزهد، وتعليق الأشياء على الظروف والوقت والحكم، وربما لأنها الروح المفضَّلة عندي، والتي تحتوي على متلازمة «الفشل ثم النجاح»، مع هدوء البال دون البحث المتواصل عن العظمة، وربما بسبب حبي لطريقة تشجيعهم البسيطة واللطيفة التي توحدهم بالجمهور.
يقول عصام الشوالي، خلال مباراة آيسلندا في كأس العالم 2018، والذي تعادلت فيه مع الأرجنتين: «ملا روح يا آيسلندا ملا روح». هكذا معظم الفيديوهات المتعلقة بآيسلندا على الإنترنت، تبدأ عناوينها بالروح التي يلعبون بها.
يقول المحقق في الفيلم الأرجنتيني «Secret in Their Eyes»، إنهم تمكنوا من تحديد مكان القاتل لأنه في رسائله لصديقته كان يعطي أمثلة بلاعبي ناديه المفضَّل. بينما زميله يؤكد له أن هذه الأدلة ليست كافية لأن يذهب للبحث عن قاتل وسط حشود من الناس لمجرد أنه يحب فريقًا ما، فيرد عليه زميله بأن الشخص يستطيع أن يغير أى شيء عن نفسه: وجهه، بيته، عائلته، حبيبته، دينه، ربه. ولكن يوجد شيء واحد لا يستطيع أن يغيره: شغفه.