«أمي چانت تلبس أسود من يهل شهر الحزن
ينكسف مبسم وجهها وتجري الدمعة شجن
تقلي لا تضحك يا يمه واسي قلب أم الحسن
وتبچي والحسرة بقلبها، آه يا مصاب الحسين»
تتماوج أسراب الحمام السوداء، كل واحدة منهن تجر أصغر أطفالها، تمسد قلبها موقنة بأنها تواسي فاقدة في ولدها، يركضن في كل بداية سنة هجرية، قلوبهن تلهج بذكر سيد شباب أهل الجنة، أيديهن تقرصهن مشتاقة للطم، خواطرهن مكسورة ويطلبن مرادًا.
هذه الصورة التي كبرتُ عليها كل مُحرَّم، هذه المشاهد التي أراها بقلبي لا بعيني، هذا العالم التي فتحت عيني عليه، وحتى من فرط العادية والتكرار ظننت أني مللته. يبدأ محرم وتصدح «يا لثارات الحسين» في كل منزل شيعي، تبدأ النسوة في تنظيم بيوتهن وألبستهن للالتزام بالحداد لمدة أربعين يومًا، اقتصرت في الآونة الأخيرة لأسبوعين.
تخرج النسوة صباحًا من دون أي منبهات أو تذكير، تعرف كل منهن طريقها، يقودها قلبها وجرة الونين، تسمعها من المنزل الذي يقيم مراسم العزاء، أو كما نسميه بالعامية «الماتم»، أطفالهن تزين رؤوسهن عبارات «كرامتنا من الله الشهادة»، «ثائرون»، «هيهات منا الذلة».
يستقبلهن البيت الحسيني بالأحضان، يشعرن بالأمان لمجرد وطء عتبة الدار، بعضهن يتذكرن البيت منذ طفولتهن برفقة أمهاتهن، والبعض الآخر يعتبرنه أمانًا مكتسبًا من صوت الحسين، هذه النغمة الموحدة التي تحتشد حولها النسوة ويجرين خلفها دون هوادة. يستقبلهن البيت الحسيني بالبركات، يستقبلهن ويتلقفهن من قسوة العام، تقول أمي إن الساعة التي تقضيها في مجالس العزاء قادرة على تصفيتها من آلام العام كاملًا، هذه الدموع التي تذرفها تغسل بها روحها، وكأن هذه المجالس قُدر لها أن تكون بداية كل عام رحمة ورأفة بأولئك المشحونين، الذين ينتظرون مساحة لإفراغ ما راكمته السنة الماضية استعدادًا للتي تليها.
«من يهل عاشور أمي الماتم إلها يصفى دار
تلبس ثياب الخدامة تواصل الليل بنهار
لا هو إلزام بوظيفة ولا هو مربوط بقرار
هو بس حبها لمحمد وأهل بيته الطيبين»
نسوة يتشحن السواد، سهم في مواجهة المرارة، يخرجن وبركات الحسين من الأطعمة تملأ أيديهن، عائدين لمنازلهن استعدادًا للمأتم الذي يليه. تأتي والدتي منذ طفولتي بخبزة حمراء ساخنة جدًا مع علبة زبادي، لا زلت أشمها في أنفي محفورة في ذاكرتي، وأحيانًا تعود بصحن من الشعرية التي لا أحبها أبدًا ويتهافت عليها إخوتي، وكانت عطلة نهاية الأسبوع هي الوقت الوحيد الذي يُسمح لي بمرافقة والدتي للمآتم الصباحية، لا زلت أميز رائحة حليب الهيل والزنجبيل شتاء، وشراب «الفيمتو» صيفًا، الذي يقدم للمستمعات من النسوة والأطفال.
بعد العودة من المأتم يأتينا صوت والدتي نصف النائم: «أصواتكم لا أريد سماعها، أرتاح نصف ساعة حتى موعد القراءة في بيت أم فلان».
لا أعرف كم استغرقني الوقت لأعرف أن العالم كله لا يسير عبر تقويمي الخاص، وأن الحياة شبه تتعطل خلال الأسبوعين الأولين من كل سنة، وأن النسوة يتوقفن عن الطبخ في منازلهن لأن بركات الحسين من الصباح للمساء تغرق كل المنازل وسكانها، وأن ليلة سابع وعاشر محرم تغلق حتى البقالات. يضحكني أن موضوع «قولوا لبابا يجيب خبز لأن باچر عاشر» أمر طبيعي جدًا في مجتمعي، أما خارجه يستغربون من الرابط العجيب. جملة «بكرة عاشر» تعني أن المدارس فارغة، كنت معتادة هذا الأمر جدًا في محيطي، ولم أكتشف غيره إلا مع الإنترنت.
هذه الشبكة اللعينة التي فتحتْ عيني على قيح متواصل من العنصرية المذهبية، لا زلت ألومه على تفجير الفقاعة التي كنت أعيشها، كيف للعالم ألا يعيش على تقويمي ولا على روتيني الشخصي؟ وعلى منحنى آخر؛ كيف للعالم أن يمضي حياته كلها دون أن يتذوق كبسة المأتم الفلاني أو مرقة البيت العلاني؟ إذًا ماذا يأكلون في محرم؟
لا يمكنني الإفلات من هذا السحر الذي يربطني بالمجلس، وكأن أمي قمطتني بالعمامة والمسابيح وخضبتني بالتجلي بالألم.
أتذكر في صغري جيراننا من المذهب السني، يشاركوننا إقامة العزاء وتوزيع البركات، بناتهن يحرصن على تذكيرنا بغياب يومي السابع والعاشر عن المدرسة، وإذا ما استُجوبوا من قبل إدارة المدرسة عن سبب غيابهم قالوا نشارك أخواتنا حزنهن.
قبل يومين انتبهنا لوجود امرأة غريبة عن الحي، تجلس إلى بوابة المجلس برفقة ابنتيها، لا تتحدث مع أيًا كان، تأخذ بركتها بكل هدوء وترحل، عرفنا بعدها أنها من المذهب السني، تأتي كل سنة، لا تزاحم النساء، تبكي سيد الشهداء وترحل، لا تأتي في الأيام المزدحمة لأنها تقول أنتم أولى، فالحسين للجميع، الحزن عليه للكل، ومشاركة العزاء متاحة، هذا سبط نبي الأمة.
هذا الموسم جزء من الموروث الثقافي الشيعي الذي لا أظن أبدًا أنه سيندثر، من يحرص على جلب أطفاله معه إلى هذا المجلس كل سنة توشم في روحه ولا يستطيع مغادرتها، يحن إليها ويشتاقها، تتعاظم في روحه وتصبح العادة طقسًا روحيًا يتكرر، أنا سليلة هذه الثقافة وأعرف تمامًا وقعها في قلبي، وأعرف تمامًا بحثي عنها في كل بقعة تأخذني إليها قدمي.
أتذكر سنواتي الأولى في الغربة وحزني المفرط في محرم لعدم التزامي بهذه العادة، وكيف فاجأتُ نفسي بأنني الفتاة التي طالما رافقتها الشكوك وثقتها المتزايدة بأنها إن ابتعدت عن المجتمع لن تعود وتتذكره، صُدمَت بأنها تشاركهم الإيمان ذاته، العقيدة العميقة، والعادة الموخوزة في صدرها منذ الصغر. حاولتُ في غربتي البحث عن المآتم الحسينية كالباحث عن الإيقاع الذي يحرك حواسي بداية كل سنة، لا يمكنني الإفلات من هذا السحر الذي يربطني بالمجلس، وكأن أمي قمطتني بالعمامة والمسابيح وخضبتني بالتجلي بالألم.
حُرمت من هذه الطقوس سنوات، تخدرت بها روحي ولا أعني هذا مجازًا، لا استطيع وصف الحالة الروحية التي كنت أعيشها بعيدًا، هذا الفراغ الذي حاولت ملأه بحضور المجالس عن طريق يوتيوب أو التسجيلات المنتشرة التي تزودني بها بعض الصديقات، لكن الحضور الجسدي لا يفوقه شيء.
عدت الآن للحي الذي كبرت فيه، ولم تكن الخطة أبدًا أن أكون موجودة هذا الموسم، لكن كما تقول عجائزنا: «الحسين ناداج تحضرينه وتلبين.. أمَا من ناصرٍ ينصرنا»، وأرد وأكرر: «لبيك أبا عبد الله».
لن أخوض في التقارب والارتباط بين التلبيات وعاشوراء، والارتباط الوجداني الذي أعيشه مع تلبيات الحسين «لبيك يا ربي عن جوارك أنا مطرود»، لأن كلامي هنا عن ارتباطي الشخصي بعاشوراء وليس الحديث عنها بشكل ثقافي أو مذهبي، وأيضًا حديثي لا يمثل تديني وارتباطي المذهبي من عدمه، أتحدث هنا بشكل اجتماعي.
أعود هذا السنة بطلب من الحسين كما قيل لي، هذه السنة بالذات، السنة التي تتلو كورونا وإقفال أماكن التجمعات، السنة التي تفتح فيها الحسينيات أبوابها، ليس على مصراعيها تمامًا لكنها تفتح، بحذر نعم لكنها تفتح، يتلهف العاشق الولهان ويطرق الباب بيديه: حسين. وطالما أن وجودي هنا وحضوري كان صدفة، شاءت الأقدار أيضًا أن تكون هي السنة الأولى لي خادمة للحسين، بداية من رفع المناديل عن الأرض، لتوزيع المياه، لتنظيم خروج النسوة بالشكل الذي يحفظ سلامتهن.
لم أتردد لحظة، ولم يستشرني أحد، أختي خادمة للحسين منذ زمن، أعطتني نظرة فقمت، كنت أظنها ليوم واحد فقط، لكن اليوم التالي أصبحت باقي الخادمات يعطينني الأوامر، ويتركن لي الراحة في اختيار ما أرغب في أدائه. نتبادل المهام، تساعد إحدانا الأخرى، نقف في رطوبة الليل تحت السماء مباشرة لتنادي إحداهن: «بنات؛ ماي؟».
تمر علينا ذات النسوة يوميًا، نتشارك التحايا بشكل عابر، لكننا نعرفهن ويعرفننا، نفتقد الغائبة، ونسأل الشفاء للمريضة، ونحيي التي تتردد على المجلس ذاته عصرًا وليلًا كأنها أم.
تمد الواحدة يديها بالبركة للنساء لتسمع سيل الدعاء الجارف، إذا كان ماء: «تشربينه من كف الزهرا»، وإذا كان طعامًا: «تعودونه وتزودونه كل سنة»، أما الدعاء الذي أُحب ويطرب له قلبي: «إن شاء الله السنة الجاية؛ مشاية».
«أمي ما تطمح تسافر لا ولا تروح وترد
بس إذا تطري الزيارة تحس قلبها ينمرد
ومن يحن قلب أمي نشتَم شوقها ريحة ورد
ويمتزج عطر الولاية بالدمع في الأربعين»
في المجالس الحسينية تتهافت النسوة على الخدمة، فهو وسام شرف أن يطلَق عليهن لقب خادمات الحسين.
لم أحب اللقب لأنني ببساطة لا أرى أنني أستحقه، أنا مساعدة في أفضل الأحوال. لكنني أرتدي اللقب بخجل، أرتديه وأنا لا أستحقه، أشعر بثوبه فضفاضًا عليّ، كبيرًا، اختارني لم أختره، لكنني أتأقلم.
أحيانًا يكون دوري الوقوف لساعات تحت حرارة الشمس أو في رطوبة المساء، تجلس معي النسوة في الساحة الخارجية، نتشارك تقطيع بواقي صناديق الماء لقطَع أكبر من حجم الكف بقليل، مراوح يدوية بصناعة محلية، نلوح بها طلبًا لنسمة هواء، نلوح بأحزاننا بعيدًا، ننفض عنا غبار الكآبة. أشعر بالعرق يتصبب على امتداد ظهري، لكن «الله يبرد عليج دنيا وآخرة»، و«الله يغيثنا من حر جهنم»، تبرد قلبي وتجعلني أنتشي واستشعر هواء غير موجود، نسمة باردة؛ لربما الجنات تفتحت لتثلج صدور خدام سيد شباب أهلها.
هذا الفضاء الرحب، ورفقة خادمات الحسين اللاتي أصبحن أخوات، كان بمثابة الحضن الدافئ بعيدًا عن قلق وجودي، واضطراب، ومشاكل شخصية كانت تثقل كاهلي في الآونة الأخيرة. ثقب أسود يبتلع كل أصوات التوتر النفسي التي شارفت على الظهور على سطح جلدي. نجتمع نهاية كل مجلس لنتشارك البركة، كوب شاي وضحكة صغيرة، نخطط لمجلس اليوم التالي، نوزع المهام، لنعود في اليوم التالي نتشارك جميع المهام، واحدتنا ترفع الأخرى عند تعبها.
كل ما أستطيع قوله: إنني ممتنة لهذه الفرصة، مملوءة بالامتنان لدرجة القداسة. ربما تبدو لكم هذه المراسم في منتهى العادية، معجونة بتقاليد بالية، وربما يصفها البعض بشكل أبشع، لكنها في عيني والله كبيرة. ولا تزيد قيمة الأشياء إلا بالامتنان.
قرأت في تويتر قبل فترة أن المحب يجيب مرتين لنداء واحد، ناداني الحسين مرة فأجبته بمثلها، متى تكون الإجابة الثانية؟ الله وحده العالم.