تتجوّل في مدينة لا تعرف لغتها، تشعر بالجوع، تحاول الوصول إلى أقرب مطعم. كيف تسأل عن الطريق وأنت لا تعرف أصلًا كيف تنطق جملة واحدة من هذه اللغة؟
عادة يكون الحل أن توقف أحد المارة وتشير إلى فمك وتمثل حركة المضغ. ما فعلته هو جوهر لغة الإشارة، لغة عالمية تتجاوز الكلمات.
في ربيع عام 1528 وصل المستكشف الإسباني «ألفار نونييث كابيثا دي فاكا» إلى يابسة ساحل خليج فلوريدا، وخلال السنوات الثمانية التالية، قطع مع مجموعة صغيرة من الجنود آلاف الأميال، ووجدوا أنفسهم محاطين بعالم لغوي جديد، ينتقلون من لغة غريبة إلى أخرى أكثر غرابة.
في لقاءات دي فاكا ومجموعته بالشعوب الأصلية في القارة الجديدة، لم تنفعهم لغتهم الأم (الإسبانية)، لكن أياديهم خدمتهم جيدًا. يقول المستكشف إن من يشاهد المحادثات التي دارت بين ومجموعته مع السكان الأصليين «كان سيظن أننا نتحدث لغتهم وهم يتحدثون لغتنا عن طريق طرح الأسئلة وتلقي الإجابات بالإشارات».
«كينسي كوبريدير» عالم معرفي بقسم علم النفس في جامعة شيكاغو الأمريكية، يدرس كيف يتواصل البشر ويفكرون، وينصبُّ تركيزه الأساسي على أشكال التواصل المرئية، بما في ذلك الحركات التي يصنعها المتحدثون دون التحدث أو خلاله.
يتتبع كوبريدير في مقال نشره على موقع «Aeon» هذه الحركات، متسائلًا عن عالميتها ومدى قابليتها لتجاوز الفوارق الثقافية المختلفة: هل كل المجتمعات تستخدم الحركات ذاتها لتعبِّر عن الشيء نفسه؟ كيف تشكلت حركات أيدينا ورؤوسنا وصمدت لتشكل «لغة عالمية»؟
غرباء في بلاد غريبة
دي فاكا ليس المستكشف الأول أو الأخير الذي يدَّعي أنه جرَّب تواصلًا ناجحًا مع الشعوب الأصلية باستخدام حركات الجسد وتعابير الوجه، فهناك تقارير مماثلة كثيرة تشير إلى الأمر نفسه.
على جزيرتي القيامة وتاسمانيا، وعلى شواطئ كندا وباتاغونيا، استخدم الدخلاء الأوروبيون والشعوب الأصلية الإشارة والتمثيل الصامت لملء الثغرات الثقافية بينهم. وكانت الرسائل المنقولة بينهم متطورة بشكل مدهش، إذ دارت بينهم محادثات على درجة من التعقيد مثل: «إذا بقيتَ حتى الصباح، سنُطعمك»، و«في هذا الاتجاه، هناك ماعز وخنازير من جميع الأحجام»، و«الناس في هذا الاتجاه يأكلون اللحم البشري».
أصحاب هذه المحاورات لم يدركوا حينها أنهم يأخذون بنصيحة «جوزيف ماري ديغراندو»، الفيلسوف الفرنسي المهتم بالأنثروبولوجيا.
في عام 1800، كتب ديغراندو أطروحة تقدم نصائح عملية للمستكشفين المستقبليين والمسافرين الفلاسفة، فأوصاهم بالعودة إلى الإشارات الأقرب للطبيعة لتوطيد أول تواصل مع أي مجموعة من السكان الأصليين لأراضٍ غير مألوفة. بعبارة أخرى: فأوصاهم باستخدم «لغة الإشارة».
كان اقتراحه يتوافق مع الفكر الغربي بشكل كبير، لأن فكرة الحركة كطريقة للتعبير تتخطى ابتكارات الثقافة قديمة جدًّا.
في عام 95 من الميلاد، كتب الخطيب الروماني «كينتيليان» أنه بالرغم من أن شعوب الأرض تتحدث لغاتٍ متعددة، فإنهم يتشاركون لغة الأيادي العالمية. ولقرون عديدة بعد كينتيليان، حافظت فكرة «الحركة كلغة عالمية» على بريقها، وظهرت في أشكال مختلفة. فيذكرها بعضهم عند التفكير في أصول تطور اللغة، ويطرحها آخرون عند تقديم مقترحات للغة مشتركة أساسها الإيماء.
لكن في وسط هذه التحليلات، كان الدعم الحقيقي للغة الإشارة غائبًا بوضوح، فلم تكن هناك عمليات رصد دقيقة حول كيف يستخدم البشر أيديهم وأجسادهم للتواصل في دول العالم المختلفة. لم يصل أحد المبهورين بعالمية لغة الإشارة إلى كل مناطق العالم المأهولة بالسكان، ولم تتوفر أي صور أو مقاطع فيديو أو وثائق بصرية أخرى لمراجعتها.
لم يبدأ التجميع الممنهَج لبيانات التواصل الجسدي بجدية حتى منتصف القرن التاسع عشر، حين أقنع «تشارلز داروين»، خلال العمل على كتابه «التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان»، مجموعة من المراسلين في ماليزيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية وأماكن أخرى بالإبلاغ عن تفاصيل كيفية استخدام السكان الأصليين لوجوههم ورؤوسهم وأيديهم في التواصل.
لكن هذه الملاحظات المكتوبة في رسائل عما إذا كان الناس في مواقع مختلفة من العالم يهزون رؤوسهم أو أكتافهم، إشارةً إلى عدم الاهتمام أو المعرفة، لا ترقى إلى المعايير العلمية الحديثة. إنها بالكاد تبلغ ما يسمى «Anecdata»، أي المعلومات أو الأدلة المبنية على تجربة شخصية أو رصد وليس لها أساس علمي، لكنها تؤخذ كحقيقة.
نحن قادرون على أن نتواصل دون تحريك أيدينا، لكننا نميل لاستخدامها في الحديث.
كثير من الأمور تغيَّرت في الخمسين عامًا الأخيرة من القرن العشرين: تلاشت القيود التقنية، وصارت وسائل تسجيل الفيديو رخيصة ومتنقلة وسهلة الاستخدام، ويمكن تخزين مئات التسجيلات بسهولة وتبديلها ونشرها على الإنترنت، وانتشر علماء الأنثروبولوجيا (الإنسانيات) واللغويون وغيرهم من الباحثين في كل أنحاء العالم، يوثقون طرق التواصل في مئات الثقافات، وأثمرت هذه الجهود ثروةً من الملاحظات التي يمكننا عن طريقها أن نفهم.
الآن، ولأول مرة في التاريخ، يجد الباحثون أنفسهم في مكانة تسمح لهم بتقييم الفكرة القديمة بأن «لغة الإشارة» عالمية. لكن كيف صمدت على مدار كل هذه السنين؟
لماذا استمرت لغة الإشارة؟
ليُجيب الباحثون هذا السؤال، يجب أخذ نقطتين في الاعتبار:
- لغة الإشارة عالمية، ففي كل التجارب التي أجريت كان الناس يحركون أيديهم، وبالتأكيد نحن قادرون على أن نتواصل من دونها، لكن أيدينا تميل إلى الحركة خلال الحديث
- ليست كل الحركات عالمية، فمعظم المجتمعات البشرية، وربما كلها، لديها مخزن لحركات ذات معانٍ ثابتة، تسمى غالبًا «الرموز»
من أمثلة هذه الرموز حركة «شششش» أو «صَه»، وهي وضع السبابة رأسيًّا على الفم، التي يمكن فهمها في أي مكان بمعنى «اصمت»، بينما علامة «مضبوط» الأمريكية، التي تُصنَع بتشكيل حلقة بإصبعي الإبهام والسبابة، تصير مستفزة في مكان آخر.
«نعم» و«لا» من أكثر المعاني المستخدمة في عالم لغة الإشارة والإيماء. لدى جميع المجتمعات البشرية وسائل حركية للتعبير عن نعم ولا. في العالم الناطق بالإنجليزية، وفي أجزاء كثيرة من أوروبا، يحدث ذلك بتحريك الرأس من جانب إلى آخر للتعبير عن «لا»، والإيماء بالرأس لأعلى وأسفل لـ«نعم». هذا النمط واسع الانتشار إلى أبعد من أوروبا، فقد أشار إليه مراسلو داروين في سريلانكا وغينيا والصين. هذا الانتشار الواسع يوضح أن هذا النمط ابتُكر بشكل مستقل في مجتمعات مختلفة، وليس عشوائيًّا.
لكن هذا النمط غير ثابت، فقد عثر الباحثون على نظامين آخرين:
- في اليونان وأجزاء من إيطاليا ومناطق أخرى من البحر الأبيض المتوسط، يُستخدم تحريك الرأس إلى الخلف للتعبير عن «لا»
- في بلغاريا، الإيماء إلى أعلى وأسفل يعني «لا»، وتحريك الرأس من جانب إلى آخر معناه «نعم»
كيف لهذه الحركات أن تكون متطابقة في أماكن عدة، ومعكوسة في أماكن أخرى؟
الإجابة تكمن في الجذور الأولية لهذه الإشارات في مرحلة نشأتها. لاحظ داروين أنه يمكن أن تكون حركة الرأس المألوفة لـ«لا» نشأت بسبب أن أحدهم حرك رأسه جانبيًّا رافضًا الطعام، فتحولت هذه الحركة منذئذ إلى النمط الذي نألفه نحن اليوم. هناك تفسير مشابه يصلح للنظامين الآخرين، إذ إن حركة الرأس إلى الخلف ما هي إلا طريقة أخرى للتعبير عن رفض الجسم لمصدر غذائي. الأمر يمكن إرجاعه للطفولة إذًا، وإلى الطريقة التي نقبل أو نرفض بها الطعام.
لكثير من الثقافات إشارات جسدية أخرى لنعم ولا. الناطقون بالإنجليزية مثلًا يُعبِّرون عن «لا» أحيانًا بتحريك إصبع السبابة جانبيًّا، وهو ما يمكن أن يكون محاكاة يدوية لحركة الرأس. وعند مجموعة اليُنبو، السكان الأصليين للمناطق الداخلية في بابوا غينيا الجديدة حيث عمل الباحث «كوبيديري» ميدانيًّا، تُستخدم حركة الرأس والإيماء كإشارات أولية إلى «لا» و«نعم»، لكنهم أيضًا يَثنون شفاههم ويُبرزونها للنفي، ويرفعون حواجبهم للتأكيد.
بتقييم هذه الملاحظات نجد دقةًَ ملحوظة، فليست فقط جميع الثقافات لديها إشارات حركية لنعم ولا، بل إن كل الثقافات تُنتِج ترجمتها الأساسية لهذه الإشارات بحركات الرأس.
عندما نُكبِّر الصورة نرى أن الإشارة أبعد ما تكون عن سلوك مترابط. في بعض الأماكن، من المحظور الإشارة باليد اليسرى، وفي أماكن أخرى الإشارة إلى أقواس قزح من المحرمات. في حال وجودك بين سكان أستراليا الأصليين سترى أن الإشارة بالسبابة تُستخدم لأغراض مُميَّزة. على سبيل المثال، إشارة السبابة تدل على اتجاه عام للسفر، وليس للإشارة إلى الأشخاص.
عندما نتمعن في فكرة الإشارة عبر الثقافات، نجد ظاهرة متغيرة وملتوية، لكنها رغم ذلك محدودة. نرى أنماطًا واسعة وتفاصيل غريبة. كلنا نستخدم الإشارات، لكن لا يوجد مكان يُفضل فيه الناس الإشارة بكوعهم أو بإصبع قدمهم الكبير تقريبًا. يعني هذا أن البشر اختاروا مجموعة من أعضاء الجسم، واعتبروها أساس التواصل بينهم.
عند إنشاء نظام تواصل بين بشر لا يعرفون لغة أحدهم الآخر، تتغلب الحركة على الصوت بسهولة.
بعد تحريك الرأس والإيماء والإشارة، هناك فئة رئيسية أخرى من الحركات التي تصف.
يستخدم الناس أيديهم لمحاكاة الأفعال، مثل السَّحب أو اللكم، ولوصف شكل الحيوانات أو المحاصيل وأحجامها. عندما أراد السكان الأصليون لجزيرة نيو بريتن، التي تقع قبالة ساحل بابوا غينيا الجديدة، أن يُعبِّروا عن أن لديهم خنازير وماعز من مختلف الأحجام، قلدوا أصوات الحيوانات، ثم أظهروا أيديهم على ارتفاعات مختلفة عن الأرض.
ينقل المقال أن مجموعة من الباحثين كانوا يحاولون التواصل مع أشخاص دون استخدام أي لغة تقليدية، بحيث ينقلون إليهم مجموعة من المفاهيم التي تتعلق بمشاعر مثل الجوع، وأفعال مثل الهروب، وأشياء مثل الفاكهة.
كانت التجربة تشبه الألغاز، وبناءً على نوع المهمة التي عُيِّنت للمشاركين، كان عليهم التواصل بالحركات فقط، أو الأصوات فقط، أو مزيج من الاثنين.
النتائج كانت قطعية وواضحة: المجموعة التي استخدمت الحركات فقط تواصلت بشكل أكثر فعالية من المجموعة التي استخدمت الأصوات وحدها، والسماح باستخدام الأصوات مع الحركات لم يساعد المجموعة الخاسرة. استنتج القائمون على التجربة أنه عند إنشاء نظام تواصل من الصفر، تتغلب الحركة على الصوت بسهولة.
ما الذي يفسر هذه الميزة الحركية؟ الإجابة في أنواع الإشارات التي يمكن أن يصنعها البشر، وفي مدى سهولة إنشائها في وسائط تعبيرية مختلفة. عندما نرغب في أن نشير إلى شيء ما، فلدينا ثلاثة خيارات أساسية:
- الإشارة إلى الشيء مباشرة
- الإشارة إلى شيء يرتبط به
- محاولة وصف شكله
يمكننا بالطبع استخدام اتفاق معينة بيننا، اتفاق على أنه «عندما أُشكِّل يدي بهذه الطريقة أو أنطق هذا التسلسل المعين من الأصوات، ستفهم أنت ما أعنيه». وبالطبع، إن كنت مُستكشفًا من القرن السادس عشر يُجري الاتصال الأول بسكان «العالم الجديد»، أو كنت متحدثًا بالإنجليزية في تجربة الألغاز التي سبق ذكرها، فإن الاتفاقيات المتفَق عليها ستكون اختيارًا غير مطروح. أمامك فقط إما أن تؤشر، وإما أن تصوِّر. وهاتان الاستراتيجيتان سهلتان نسبيًّا في التنفيذ بيديك، لكن ليس بصوتك.
الحركة لغة عالمية، هذه فكرة قديمة وبديهية وليست خطأً كليًّا. صحيح أن كثيرًا من الحركات المعينة مخصصة لكل ثقافة، لكن من الصحيح أيضًا أن كثيرًا من الأنماط الحركية تتشابه على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.
مهما تكن المزايا، من غير المرجح أبدًا أن تتلاشى فكرة الإشارة كلغة عالمية. إنها عالقة في صراع ساحق بين مفهومين: الفكرة العالمية القائلة بأن البشر في كل مكان هم الشيء نفسه في جوهرهم، والإصرار على أن كل ثقافة مثل جزيرة غامضة تختلف عن غيرها تمامًا. للفكرتين جمال خاص، لكن كليهما ليس صحيحًا تمامًا وحده، وكلاهما صحيح بنفس الدرجة على ما يبدو.