أنا أغرد إذًا أنا أغير: كيف ينجح الحراك الاجتماعي للنساء؟

الصورة: Getty - التصميم: منشور

نورا الدعيجاني
نشر في 2021/09/26

منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك نظرة ريبة للحسابات التي لا تحمل اسم صاحبها وصورته الحقيقية. في الآونة الأخيرة بدأنا نلاحظ تقليل الناشطات الكويتيات من شأن المداخلات والتعليقات الصادرة من نساء، خصوصًا بدون و/أو بدويات، اخترن أو اضطررن لإخفاء جزء من معلوماتهن الشخصية كالاسم والصورة. بل وصلت المطالبات لحد الإصرار على أن تمد تلك النسوة أنشطتهن خارج السوشيال ميديا، و«وتشجيع النسويات بدل نقدهن»، إذ أن التطوع «لن يأحذ من وقتج شي»، في اتهام مباشر بأن مشاركات النساء عبر السوشيال ميديا (سواء من البدون أم غيرهن) أقل أهمية من النساء اللاتي تخولهن امتيازاتهن التحرك بحرية أكبر.

لكن هل حقًا لا ينتج نفع حقيقي من مشاركات حسابات غير معروفة بالكامل عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟ أم أن تعريفات المشاركة والتحرك السياسي الاجتماعي بحاجة لإعادة تعريف لتكون أكثر شمولًا لفئات المجتمع المهمشة؟

فضاء آمن للنساء

الصورة: Getty

التقليل من شأن المشاركة في مواقع التواصل الاجتماعي هي جهل بالدور الذي تؤديه هذه المواقع لخلق فضاء آمن للنساء، إذ يمكن من خلالها تخطي القيود المجتمعية المقيدة لحركاتهن ومشاركة أفكارهن، واختراق الفضاء العام الحصري للذكور وأصحاب الامتيازات.

لم يبدأ تداول فكرة ضرورة الفضاء الآمن للنساء مؤخرًا، فمنذ مطلع القرن العشرين لاحظت النساء إقصاء متعمدًا لأصواتهن، حتى ضمن الحركات التحريرية، وتهميش قضاياهن الشخصية بحجة أنها ليست أولوية. شكلت النسوة تلك الفضاءات بهدف التحاور وتعزيز الثقة في مكانتهن ودورهن الحيوي (المغيّب) في المجتمع المدني، ومناقشة سبل تحدي القيود المفروضة عليهن.

نتج عن هذه الفضاءات خطاب معاكس، أهم مضامينه أن الأمور الشخصية هي في أساسها سياسية. إذ أن الهموم السياسية والأمور الشخصية يجمعهما سبب مشترك، ألا وهو وجود قوة تراتبية، جندرية كانت أم عرقية أم دينية أم طبقية. ولن ينتج عن تهميش الأمور الخاصة سوى توسيع الفجوة بين الفضاء العام والخاص، بما يخول تلك القوى بالتغلغل في الحياة اليومية وأبسط القرارات التي تتخذها المرأة.

الفضاءات الخاصة تتيح للنساء مركزة همومهن في النقاش، وممارسة مراجعة نقدية لهوياتهن الفردية كنساء، والكيفية التي تمكنهن من أن يصبحن أفرادًا مستقلين ذوي فعالية سياسية. وبحسب نظرية الوعي النقدي للمفكر البرازيلي باولو فيريري، فإن التفكير/المراجعة النقدية هي الخطوة الأولى الممهدة لتحرك مجتمعي.

الوعي النقدي وتشكيل الهوية

الصورة: Getty

تناول باولو فيريري في كتابه «التعليم من أجل وعي نقدي» عام 1973 الكيفية التي يؤثر بها القمع المستمر على نظرة الفئات المضطهدة لأنفسهم وللعالم. ويطرح فيريري أهمية التعليم كأداة تحريرية للفئات المضطهدة من خلال تكريس مهارة الوعي النقدي.

ينقسم الوعي النقدي بحسب فيريري إلى ثلاث مراحل متداخلة تؤثر كل منها على الأخرى، إلا أنها غير مشروطة. أولى المراحل هي التفكير/المراجعة النقدية، والتي تنطوي على تحليل الوضع القائم ووضع تفاصيله في سياق أكبر له علاقة بثقافة المجتمع وقوانين الدولة. المرحلة الثانية هي التحفيز النقدي، أي تأكيد إمكانية الأفراد في مجابهة الظلم وغياب العدالة، التي جرى التوصل لجذرها خلال مرحلة المراجعة النقدية. أما المرحلة الأخيرة فهي التحرك الموجه، وهو الأنشطة التحريرية الساعية لتغيير الواقع غير العادل.

وفيما تخوض الفئات المضطهَدة عراك الوعي النقدي مع المجتمع، سيصاحب ذلك بالضرورة رحلة من تشكيل وإعادة تشكيل الهوية الفردية والمجتمعية، التي هي أيضًا بدورها متغيرة وتمر بمراحل متعددة.

يقترح الباحثان أورساتي وريمير نموذجًا تعدديًا لخلق الهوية، يقوم على تقسيم طرق تشكيل الهوية إلى ثلاث أساليب: تشكيلها بطريقة متعمدة، يختار فيها الفرد الطريقة التي يريد أن يقدم بها نفسه للعالم، وتكون متسقة يمختلف المواقف. أو تشكيل الهوية بطريقة سردية، من خلال فهم قصتنا بالعلاقة مع الخبرة المشتركة مع أفراد آخرين وتوقعات المجتمع. أو تشكيل الهوية بطريقة نشطة، وهي الممارسات العفوية اليومية والأنشطة التي تسهم في تشكيل هويتنا.

وعلى الرغم من كون العمليتان، الوعي النقدي وتشكيل الهوية، تعتمدان على التفكير النقدي، فإنه غالبًا ما تُهمَل الأخيرة في الجهود المجتمعية لتغيير الواقع، وتُعتبَر الهوية ناتجًا لا عاملًا مسهمًا، بينما الواقع أنهما الاثنان معًا. وهذا الإهمال متوقع لكون تغيير الهوية نتيجة مؤجلة، بخلاف النتائج السريعة نسبيًا كسن قانون أو إسقاط شخص مسؤول من منصبه.

في هذا المقال محاولة لطرح تساؤل: هل يجب أن يركز الناشطون جهودهم على ما يحث عملية زيادة الوعي النقدي؟ وكيف يمكن اعتبار إعادة تشكيل الهوية نتيجة كافية على نجاعة أي حراك ساع لتغيير الوضع القائم؟

في محاولة للوصول إلى إجابة عن هذه التساؤلات، سأسلط الضوء على عينة من جهود السيدات البدون عبر تويتر، واستخدامهن لهوياتهن بصورة تؤدي إلى زيادة الوعي النقدي بين نساء البدون خاصة، ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بشكل عام.

تويتر بوابة الوعي

الصورة: Bilal AlFadhli

بفضل الإنترنت، أصبح للنساء متسع لتحدي ظروفهن المجتمعية التي تقيد حركتهن. ويؤكد باحثون أن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت لكثير من الفئات المهمشة أن تكوّن لها مجتمعًا يتواصل أعضاؤه في ما بينهم، ويجتمعون حول قضايا تلامسهم، ويتفاعلون حول أمور حياتهم. وكلما كان التفاعل حول أمور توحدهم كشبكة أفراد، نمى الشعور بالانتماء المجتمعي بين هؤلاء الأفراد. ولكن كيف لتويتر أن يصل بمجموعة من مستخدميه إلى تلك الدرجة من الانتماء المجتمعي؟

أولًا، يتيح تويتر ما تسميه الباحثة ستايسي يونغ بالنشاط المجتمعي عبر الخطابة، وهو النشاط الذي يهدف لخلق تغيير من خلال تفكيك الخطاب السائد واقتراح خطاب بديل، مع التركيز على المسلمات المجتمعية. وهو الأمر الذي كان مقتصرًا على مثقفي المجتمعات والأفراد الذين لهم صلة بالدوائر الفكرية. ذلك ينبئنا بأن تويتر أداة فعالة للمراجعة النقدية (التفكيك) والتحرك الموجه (استهداف خطاب وتغييره)، والتي هي بدورها ركائز الوعي النقدي التي نادى بها باولو فيريري.

أهمية هذا الأمر للفئات المهمشة تكمن في منحهم القوة لاقتراح خطاب مضاد والتحكم في السردية حول كل المسائل المتصلة بهوياتهم وتجاربهم الشخصية، بعد أن كانت تحت سلطة الفئة المسيطرة. وهذا الأمر من شأنه أن يتيح لأفراد الفئات المهمشة التوعية بالقناعات السائدة في ما بينهم وتغييرها، متجاوزين بذلك أي قيود جغرافية وإدارية تحول دون اتصالهم المباشر مع بعضهم البعض.

قبل فترة وجيزة انتشرت سلسلة تغريدات مؤلفتها ضحى سالم من النساء البدون، تناقش فيها المظلومية التي تتعرض لها النساء البدون؛ من ندرة الفرص الوظيفية والتعليمية، وتفرقة الأهل بينها وبين إخوتها الأولاد، والتفرقة والتمييز الذي تتعرض له في العمل بسبب وضعها القانوني، واختيارات الملبس، والعنف المنزلي من الأهل أو الزوج.

ربطت ضحى بين تلك المشاكل والاضطهاد والعنف المؤسسي الذي يتعرض له البدون من قبل الدولة، بالإضافة إلى البيئة المحافظة المتشددة. وتُحمل ضحى الحركة النسوية الكويتية جزءًا من مسؤولية استمرارية المعاناة، من خلال تجاهل خصوصية النسوة البدون في تحركاتهن ونشاطاتهن المجتمعية، وعدم توفير فضاء آمن يعمل ويتحرك فيه النسوة البدون مع نظيراتهن حاملات الجنسية الكويتية لتغيير وضعهن إلى الأفضل.

لماذا لا نرى النجاح في كون السلسلة دفعت نساء البدون إلى المشاركة بقصصهن الشخصية ومشاعرهن حول المظلومية المضاعفة التي تحدث لكونهن نساء بدون؟

تراوح التفاعل مع السلسلة إلى قسمين، قسم يتعاطف ويؤكد أهمية الاستماع للمرأة البدون وتسليط مزيد من الضوء على خصوصية معاناتها كونها امرأة بدون، وقسم آخر اختار التركيز على دعوى ضحى بتهميش الجمعيات النسائية لهموم نساء البدون، بين مؤيد لها ومشدد على أن النسوية الكويتية طبقية، وبين من يراه اتهام باطل.

تجربة ضحى الشخصية كفرد معايش لضروب المعاناة التي تعانيها النسوة البدون خولها لكتابة سلسلة تضع هذه المعاناة في سياقها الاجتماعي والسياسي والإداري، لكن بشخصنة هذا السياق للتعريف، كيف أن امتداد السياق يشمل مظلومية مضاعفة لنساء البدون. وبذلك تكون ضحى استخدمت تويتر كأداة لنشر التفكير النقدي الذي ينوّه بخطورة التقليل من شأن شخصانية المسائل السياسية، وكيف يؤدي ذلك إلى تهميش أصوات النساء من حركة البدون الساعية لتحقيق عدالة ورفع المظلومية.

إذًا، ما الذي يمنع من اعتبار ما فعلته ضحى تحركًا موجهًا؟ هل يحق لنا تهميش أهمية السلسلة فقط لأنها لم تؤدِ إلى تحريك الجماهير للنزول في الميادين العامة؟ أو لأنها لم تحرك نائبًا لطرح اقتراح بقانون يكفل حقوقها؟ لماذا لا نقدّر نجاحها في تحريك النقاش حول العلاقة الشائكة بين الجمعيات النسائية الكويتية ونساء البدون، وما ينتج عنه من تفكيك لطبقية الحركة النسوية وغياب التقاطعية، وتشجيع مستخدمي تويتر على التنديد بإقصاء نساء البدون من الخطاب العام حول المرأة؟ لماذا لا نرى النجاح في كون السلسلة دفعت نساء البدون إلى المشاركة بقصصهن الشخصية ومشاعرهن حول المظلومية المضاعفة التي تحدث لكونهن نساء بدون؟

هدية العونان، أيضًا من نساء البدون، استجابت لانتشار سلسلة ضحى وكتبت سلسلة تحتوي قصصًا واقعية تعرضت لها نساء البدون كنتيجة للقمع المؤسسي والاجتماعي. وصلت القصص إلى هدية من خلال الرسائل الخاصة على تويتر أو من خلال موقع tellonym.me، لضمان خصوصية أكبر للراغبات في حفظ حتى هوياتهن المستعارة. العامل المشترك بين جميع القصص هو الشعور بانعدام جدوى الحياة، في ظل القلق والخوف المستمر من أن حياتهن تُهدر أمام أعينهن من غير حول لهن ولاقوة. من غير المستغرب أن تكون ردود فعل نساء البدون (أغلبيتهن بأسماء مستعارة) تأكيدية لواقعية كل ما احتوته السلسلة وأنها تنطبق على حياتهن.

في لقاء أجريته مع هدية، أخبرتني أن المحرك الأساسي لنهجها في شخصنة معاناة البدون وتركيزها على المرأة لم يبدأ من سلسلة ضحى. وإنما اتّقد اهتمامها وخاضت رحلتها من التفكير النقدي بعد أن قرأت منشورًا على إنستغرام لامراة بدون، تحكي فيه عن الظلم الذي تتعرض لها كونها امرأة بدون. هذا المنشور، وقصص مشابهة له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نبه هدية إلى أن معاناتها كبدون تختلف عن معاناة أخيها وأبناء عمومتها.

وبالتالي من الممكن اعتبار وجهة نظر هدية حول المرأة البدون نتاج التأثر بعملية الوعي النقدي، خصوصًا التحرك الموجه الذي تنفذه نساء البدون عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أثر ذلك على سرديتها لهويتها كامرأة ضمن مجتمع البدون وتبعات الأمر من مظلومية مضاعفة، وخلق هوية متعمدة ذات مواقف ووجهات نظر متسقة حيال مسائل متعددة: امرأة بدون مؤمنة بقدرة نساء البدون على إحداث تغيير.

أصبحت هدية الآن جزءًا من عملية الوعي النقدي للمجتمع، ولنساء البدون بشكل خاص كفئة مهمشة، ومجموعة المقالات والسلاسل التي تكتبها هدية هي التحرك الموجة الذي تنفذه في ظل ظروفها المقيدة.

ماذا عن النسوة البدون اللاتي لا يتوسعن في كتاباتهن ولا يشاركن في العملية التفكيكية للخطاب السائد وإقصاء النساء البدون من حركة البدون؟

المغردة ربما ريما نموذج من النسوة اللاتي تتفاعل مع المحتوى الذي تنشره نساء البدون، والناشطين البدون بشكل عام، وتشارك معاناتها الشخصية كامرأة بدون. وما ينتج عن هذا التفاعل لا يقل قيمة عما تفعله المغردتان هدية وضحى، فريما تشابه حالات كثير من النساء البدون اللاتي منحهن تويتر فضاء للتعبير عن همومهن، مما يسهم في تكوين مجتمع افتراضي يشد به النساء أزر بعضهن ويدعمن قراراتهن الشخصية حتى خارج المساحة الافتراضية لتويتر.

ريما مثلًا الوحيدة من أفراد أسرتها التي ترفض تجديد بطافتها، باعتبار المسألة تطبيعًا مع سياسات الاضطهاد التي ينتهجها الجهاز المركزي بحق البدون. كما أن مشاعرها تجاه وصف «امرأة بدون» أصبح مدعاة للفخر، بعد أن كانت تراه إهانة واستصغارًا لها، وهو أمر في غاية الأهمية، إذ يعكس التغير الذي طرأ على هويتها ونظرتها لذاتها.

أوان إعادة تعريف الحراك

النقاش الذي تحركه النساء البدون، بأسمائهن الحقيقية أو المستعارة، هو تحرر من القيود الإدارية والمجتمعية مكّنهن من تحريك المياه الراكدة، وإعادة توجيه الخطاب حول قضية البدون ليكون لقضايا المرأة البدون حضور أكبر. كما أن النقاش أتاح لنساء البدون ذاتهن مساحة افتراضية في موقعها، لكنها حقيقية في مشاعرها وأثرها، مكنتهن من إعادة تشكيل الوعي الخاص بوضعهن كنساء بدون، وهوياتهن كنسوة بدون يعانين من اضطهاد مضاعف على يد الدولة والمجتمع القبلي.

التواصل الذي يحدث على تويتر يتجاوز إشباع الحاجة الوجدانية للفئات المهمشة إلى التواصل مع من يشبهها، فمن خلال متابعة حسابات النساء البدون نرى أن التفاعل مع من يشبه همومنا يولد وعيًا نقديًا، ينشئ حلقة متصلة بين المحتوى الذي نتعرض له والمحتوى الذي ننتجه. هذه العملية المستمرة من التعرض وصنع المحتوى لها أبعاد اجتماعية متصلة بتشكيل هوية نساء البدون كأفراد ومجتمعات، ولها تأثير على الكيفية التي يرين بها العالم وأنفسهن وسط هذا العالم، وكيفية التعامل مع الظلم والقمع الذي يتعرضن له.

حتى لو لم تتمكن نساء البدون من أن يكونوا ضمن فريق يطرح مقترحًا أو قانونًا، ويقابل نوابًا ووزراء وسفراء، فإن تهميش نشاطهن عبر تويتر هو جهل تام بعملية الوعي النقدي التي تقودها فتيات البدون في ما يخص هموم المرأة. فلقد وضعن خطة طريق واضحة لكيف يكون الصراع ضد القمع شاملًا ومرحبًا بالفئات المهمشة، وتمكّنّ من خلق فضاء آمن لجميع النساء، ووضعن همومهن في سياق مجتمعي وسياسي يمكنهن من تتبع جذور همومهن الشخصية وتفكيكها ومقاومتها. جهود النساء البدون على تويتر منحتهن الثقة في أصواتهن، وفي فعالية تويتر في اختراق الفضاء العام ووضع همومهن الشخصية على أجندة النقاش حول قضية البدون وقضايا النساء بالكويت.

مواضيع مشابهة