ما الذي يحدث حين نبلغ الأربعين؟ هل نصبح حينها أقرب إلى العجز منا إلى الشباب؟
كشخص أربعيني، لماذا يتوقع منك جميع الناس أن تُحسِن التصرف، فلا يعود ارتباكك طريفًا أو مسليًا؟ هل الأربعون البوابة التي ننفذ منها أخيرًا إلى الحياة، أم نافذة نطل منها على خط النهاية؟
في الثلاثين يتجاوز المرء الشباب إلى الرجولة أو الأنوثة. الثلاثون سن تَحقُّقٍ ما. لكن ماذا عن الأربعين؟ يقول الكوميديان الأمريكي «لوي سيه كيه» إن الأربعيني لم يصر عجوزًا بعد كي تتفاخر بأنك ساعدته في عبور الطريق مثلًا، لكنه في الوقت ذاته ليس شابًّا كي يفخر الآخرون بإنجازاته. أين مكان الأربعيني؟ وإلى أين يتجه؟
هذه الأسئلة وغيرها حيَّرت الكاتبة «باميلا دراكرمان» عندما بلغت الأربعين، فاستعرضت في مقال نشرته «النيويورك تايمز» أوجه ارتباكها كامرأة أربعينية تحاول الوصول إلى إجابات تُذهِب حيرتها.
تحول لا نستسيغه: من آنسة إلى مدام
أدركت الكاتبة أن شيئًا تغير عندما أصبحت جملة «صباح الخير يا آنسة»، من نصيب شابة ترتدي الميني جيب، بينما يناديها الجميع «مدام».
إذا أردت أن تعرف السن التي تبدو عليها بغض النظر عن سنك الحقيقية، فاذهب إلى كافيه فرنسي. الأمر هناك بمثابة استفتاء على عمرك كما تكشفه ملامحك.
تقول كاتبة المقال إنها عندما انتقلت إلى العيش في باريس أوائل ثلاثيناتها، كان الندلاء ينادونها «آنسة» لدى استقبالها أو عند تقديم الطلبات.
حين أتمت باميلا عامها الأربعين حدث تحول جمعي، إذ بدأ الندلاء ينادونها «مدام». كانوا حذرين في البداية، لكن اللقب الجديد سرعان ما التصق بها، فأصبحت تسمع «صباح الخير يا مدام» عند دخولها المقهى، و«شكرًا يا مدام» حين تدفع الفاتورة، و«مع السلامة يا مدام» لدى مغادرتها، وأحيانًا من مجموعة ندلاء في نفس واحد.
لا تخفي الكاتبة اندهاشها من هذا التحول، فتتساءل ساخرةً إن كانوا يجتمعون بعد العمل لتناول الغداء، ويعرضون أوجه الزبائن من النساء لتحديد أيهن ما زال يناسبها لقب «آنسة»، وأيهن تقدمت في العمر فلا يمكن إلا أن تكون «مدام»؟
المزعج بالنسبة إليها كان أن الرجال ينادَون «يا أستاذ» على اختلاف مراحل أعمارهم. والأسوأ أن العاملين في المطعم حسنو النية، فهم يرون اللقب يناسب عمرها ولا يمكن أن يجرحها.
تقول الكاتبة إنها تدرك أن شيئًا قد تغير إلى الأبد عندما تمر إلى جوار امرأة تتسول في الطريق. جملة «أعطني شيئًا يا آنسة» تكون من نصيب شابة ترتدي الميني جيب، بينما لا تتردد المتسولة في مناداة باميلا «مدام».
هذا التحول في الألقاب جاء أسرع من استيعاب الكاتبة التي ما زالت غير قادرة على ابتلاعه، فهي ما زالت ترتدي معظم الملابس التي كانت ترتديها لما كانت «آنسة».
الأربعون: نقطة وسط؟
العالم يصر على أن يخبرها بأنها دخلت مرحلة جديدة. عندما وقفت تتفحص وجهها في مرآة مصعد جيد الإضاءة، واجهتها ابنتها بالحقيقة: «أمي، أنتِ لستِ كبيرة، لكنك بكل تأكيد لستِ صغيرة».
ما صفة هذه السن «غير الصغيرة» بالضبط؟ توضح باميلا أنها تسمع شباب العشرينات يتحدثون عن الأربعينات باعتبارها عمرًا متأخرًا بعيدًا يداهمهم فيه الندم على ما تركوه وهم أصغر سنًّا. أما بالنسبة إلى الكبار، فالأربعينات هي المرحلة التي يتمنون العودة إليها.
«في الأربعين تصبح أنت. فإذا لم تعرف نفسك وقتها، فلن تعرفها أبدًا».
يتساءل «ستانلي براندس»، عالم الأنثروبولوجيا الذي ألف كتابًا في عام 1985 عن بلوغ الأربعين: «كيف تصورت نفسي كبيرًا عندما بلغت الأربعين؟ أنظر إلى الماضي وأفكر: لقد كنت محظوظًا، فأنا أرى الأربعين بداية الحياة، لا بداية النهاية».
لم تعد الأربعون حتى تمثل منتصف العمر، فالشخص الذي بلغ الأربعين من المحتمل بنسبة 50% أن يعيش حتى الخامسة والتسعين، وفق الاقتصادي «آندرو سكوت»، الذي اشترك في تأليف كتاب «The 100-Year Life» .
للرقم أربعين وقع رمزي، فقد صام المسيح 40 يومًا وفق المسيحية، وكان النبي محمد في الأربعين حين تلقى الوحي وحمل الرسالة، وعوقب اليهود بالتيه في الصحراء 40 سنة. ويؤكد براندس أن «أربعين» في بعض اللغات تعني «كثير».
يبدو عمر الأربعين محوريًّا. يقول كاتب بريطاني في السبعين من عمره: «في الأربعين تصبح أنت. فإذا لم تعرف نفسك وقتها، فلن تعرفها أبدًا».
الأربعون: خليط من الميزات والعيوب
باعتبارها حاصلة على لقب مدام، حتى وإن كانت مستجدَّة، تخضع باميلا لقواعد جديدة تبعًا لهذا التطور. فحين تحاول أن تلعب دور الساذجة لا تنجح في استدرار عطف الناس. على العكس، يرتبكون من سلوكها. لم يعد التظاهر بعدم الفهم متناسبًا مع وجهها، إذ يُنتظَر منها أن تقف في الطابور الصحيح في المطارات، وأن تأتي في الموعد المحدد في اللقاءات: إنها في الأربعين من عمرها.
رغم هذا، تُظهِر الأبحاث أن بعض المهام تصير أصعب، ففي المتوسط يسهل تشتيت الشخص الأربعيني مقارنةً بالأصغر سنًّا، إضافةً إلى أن القدرة على استيعاب المعلومات تقل، وكذلك القدرة على تذكر حقائق بعينها. تقول الكاتبة إنك تعرف أنك قد بلغت الأربعين بكل تأكيد إذا قضيت ليلتين كاملتين تحاول تذكر كلمة مثل «بواسير».
تعلن الأربعينات الانتقال من مرحلة «يكرهني الجميع» إلى مرحلة «لا يهتمون بأمري أصلًا».
هناك وجه مضيء للأربعين، فما نفقده من قدرة ذهنية تعوضه أمور مثل النضوج والخبرة والبصيرة. بلوغ الأربعين يجعلك أكثر قدرةً على النفاذ إلى جوهر المواقف، والسيطرة على المشاعر، وحل النزاعات. يتمتع الأربعينيون كذلك بمهارة أكبر في إدارة الأموال وتفسير الأمور. ليس هذا فقط، فهم أكثر تفهمًا لمشاعر الآخرين، وأقل عصبية، وهو أمر مهم لتحقيق السعادة.
يؤكد علماء الأعصاب والنفس ما قاله الفيلسوف «أرسطو» منذ أكثر من ألفي عام، حين وصف الرجال في «ذروتهم» بأنهم لا يتسمون «بشجاعة زائدة تؤدي إلى التهور أو بجبن زائد عن الحد، فلديهم الكمية الكافية من الاثنين: لا يثقون في الجميع، ولا يرتابون من الجميع، بل يحكمون على الناس بشكل صحيح».
تتفق الكاتبة مع أرسطو، ففي الأربعين نكون قد تعلمنا وكبرنا نوعًا ما، وصرنا ندرك ثمن الأشياء. توقف آباؤنا أخيرًا عن محاولة تغييرنا، وبتنا نميز الأشياء السخيفة، ونفهم كيف يفكر الآخرون. تعلن الأربعينات انتقالنا من مرحلة «يكرهني الجميع» إلى مرحلة «لا يهتمون بأمري أصلًا»، بحسب الكاتبة.
رغم هذه الميزات، ما زال عقد الأربعينات مربكًا، ففيه يمكننا فعلًا أن نفهم ديناميكيات العلاقات الشخصية، لكننا نفشل في تذكر الأرقام في الوقت نفسه. نكون قد وصلنا إلى قمة إيراداتنا في العمل، لكن فكرة الخضوع لعمليات النفخ والشد التجميلية تراودنا. وصلنا إلى قمة سلمنا الوظيفي، لكننا نلمح في الوقت نفسه درجة النهاية.
الأربعينات: عقد ممل دون تحولات؟
أغرب ما في الأربعين أننا نحضر مقابلات المعلمين بصفتنا آباءً هذه المرة، ونُعد الولائم في الأعياد بدلًا من أن نحل ضيوفًا عليها.
تخلو الأربعينات من نقاط التحول التي تحفل الطفولة والشباب بها، ففي المرحلتين الأخيرتين يزداد طولك، وتتقدم في المراحل الدراسية، وتستخرج رخصة القيادة، وتحصل على شهادة التخرج. وفي العشرينات والثلاثينات تبدأ المواعدات الغرامية، وتلتحق بعمل، وتبدأ في إعالة نفسك. قد تحصل على ترقيات، وتتزوج وتنجب أطفالًا. يعطيك اندفاع الأدرينالين في الدم رغبة في التقدم والمضي قدمًا وأنت تبني حياتك.
ربما نحصل على درجة علمية أو وظيفة أو منزل أو زوج، لكن هذه الأمور لا تثير نفس مشاعر الإعجاب السابقة. صار معلمونا وآباؤنا الذين كانوا يسعدون بإنجازاتنا مشغولين بهبوط منحنى حياتهم. إذا كان لنا أبناء، يُفترَض أن ننبهر بتطورهم هم.
تنقل الكاتبة ما ذكره لها مدير شركة إنتاج تلفزيوني عمره 44 عامًا: «قبل خمس سنوات، كان الناس ينبهرون قائلين: أنت المدير فعلًا؟ أما الآن، فلم يعد الأمر مبهرًا بعد أن تخطيت الأربعين».
الحياة تحدث الآن، لكن الموت شبح يتراءى
تتساءل الكاتبة: «ماذا أصبحنا بعد الأربعين؟».
هناك جديد: يصبح لدينا وعي بالموت لم يكن موجودًا من قبل. تبدو الاحتمالات أمامنا محدودة بشكل أكبر. اختيار أمر يأتي على حساب آخر. لم يعد مفيدًا ادِّعاء ما لسنا عليه. عند الأربعين نحن لا نُعد لحياة مستقبلية متخيَّلة، فحياتنا تحدث بالفعل دون جدال. لقد وصلنا إلى ما يسميه الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» «الشيء في ذاته».
أغرب ما في الأربعين أننا أصبحنا نحضر مقابلات المعلمين بصفتنا آباءً هذه المرة، ونُعد الولائم في الأعياد بدلًا من أن نحل ضيوفًا عليها، وفق الكاتبة. عندما تحدث مشكلة ويكون على أحد التصرف، تدرك الكاتبة، بكثير من الاستغراب، أن الشخص الذي عليه التصرف هو نفسها، ولا أحد غيرها.
التحول الذي تُحدثه سن الأربعين في حياتنا ليس سهلًا. توضح باميلا أنها طالما ارتاحت لفكرة أن هناك أناسًا بالغين أكبر سنًّا يعالجون السرطان، ويديرون المحاكم، ويقودون الطائرات، ويخترعون منتجات جديدة، وينقلون البث التلفزيوني. هؤلاء يعرفون الروايات التي تستحق القراءة، ويعرفون أي الأخبار تستحق أن تكون مانشيتات كبيرة. في الطوارئ، كانت دائمًا تثق في أن كبارًا سيظهرون من مكان ما لنجدتها.
تعترف الكاتبة صراحةً بأنها ليست متحمسة لكونها تبدو أكبر سنًّا. لكن أكثر ما يضايقها من الأربعينات هو الإيحاء الذي يعطيه بأنها أصبحت هي نفسها شخصًا بالغًا راشدًا. تشعر بأن سنها الحقيقية أكبر من كفاءتها في الحياة، وتتساءل: «من هم البالغون؟ هل هناك أشخاص كبار؟ لو كانوا موجودين، فما الذي يعرفونه بالضبط؟ هل سيتمكن عقلي من اللحاق بالسن التي تكشف عنها ملامح وجهي؟».