أعادت أزمة وباء كورونا تعريف علاقتنا بالمنزل، إذ أجلسنا حظر التجول في منازلنا، فقبعنا في غرف نومنا التي استحالت صوامع. وفي فراغنا البرزخي، ولضبابية المستقبل، أصبح الزمن ساكنًا.
في هذا السكون بدأت الأعين تلاحظ أدق تفاصيل بيئتها المباشرة، من إطار النافذة إلى مقابض الأبواب وتلك التشققات في الأسقف والجدران، التي تهب المنزل روحًا إنسانية وتبث فيه الحياة، فيتماهى كل منا مع بيئته، في عالمه الصغير، ويتحول البيت إلى شرنقة؛ فكلنا سنتحول تحت هذه الأزمة لا محالة ودون رجعة.
أما علاقتنا بغرفة النوم، والتي يقضي أغلبنا جل وقته فيها، فقد أصبحت أكثر حميمية وعمقًا، وانقلبت غايتها فلم تعد مكانًا للنوم والراحة فحسب، بل أصبحت مكتبًا لأداء الأعمال، وهاهي تعيد تشكيل نفسها من جديد إلى مكتبة ذات مقعد قراءة مريح له اسم آخر هو السرير.
تتحول غرفة النوم إلى دار سينما وناد رياضي في آن واحد، فتفتح لنا هذه العلاقة الجديدة أبواب التساؤل عن مدى حاجتنا الحقيقية للتنقل المستمر لإشباع مختلف حاجاتنا ورغباتنا، وتعيد تشكيل الفراغ المكاني وما يمكننا عمله في تلك التجويفات التي أسميناها غرفًا. وهذا سيعيد تعريف علاقتنا بالعالم الخارجي بأكمله في مستقبل ما بعد الأزمة دون شك، وأعتقد أن الكثير منا سيتجه نحو مزيد من الأنشطة داخل قوقعته المنزلية المريحة جدًا.
حتى الحاجة للتحاور مع الآخر ورؤيته أصبحت ممكنة رقميًا بالصوت والصورة، فنحن في عصر التخاطر الإلكتروني، وإن كان قضاء الوقت وجهًا لوجه أكثر دفئًا وإشباعًا.
كل هذه التحولات ستؤدي إلى نشوء أناس أكثر استقلالية، وبذلك قد تتغير احتياجاتهم المكانية. فلربما تصبح المساحات الداخلية أكبر، وتشمل وظائف أكثر تعددًا، كغرفة للرياضة وغرفة المكتب للعمل وغيرها، وهو ما نجده أصلاً في الدول الخليجية بسبب قسوة طقسها وطبيعتها الاجتماعية المحافظة. أو لربما يجد البعض نوعًا من الحميمية العملية في الغرفة الواحدة متعددة الأغراض، حيث يكون كل شيء في متناول اليد.
سواءً أكان التوجه إلى الزيادة أو الاقتصاد في المساحات الداخلية، فقد تدعم الشركات والحكومات هذا التوجه للحفاظ على السلامة، وذلك عن طريق توفير مختلف الخدمات «أونلاين»، وكذلك السماح بالعمل من المنزل، ما لم تكن هنالك حاجة للزيارات الميدانية. ناهيك بخدمات التوصيل التي تقينا شر الازدحام وسوء خلق البعض وعناء البحث عن الغرض المنشود، فكل ما يتطلبه الأمر هو إشارة بإصبعك (حرفيًا) وقليل من الصبر كي تحصل على كل ما تريد، وإن كان ذلك يأخذ وقتًا أكثر من المعتاد بسبب الضغط على هذه الشركات وعدم توافر بعض الأصناف بسبب الجوع الشرائي الذي أصاب الكثيرين.
مصير المساحات الخارجية
هنا نتساءل: ماذا سيحدث في المساحات العامة والخارجية المهمَلة منذ عدة أشهر؟ هل سيرتادها الناس بكثافة بعد إزالة الحظر أم سيجتنبوها خوفًا من المرض؟ هل سترتفع أسعار العقارات أم تنخفض؟
أعتقد أن هذه الأزمة خلقت اكتفاءً ذاتيًا تامًا لدى البعض، ونوعًا من الصدمة النفسية قتلت الرغبة في الخروج والتخالط مع الآخرين حتى بعد رفع الحظر.
يذكرني ذلك كثيرًا بالطيور المحبوسة في الأقفاص، التي تصل إلى مرحلة عدم الاكتراث عند إبقاء باب سجونها مفتوحًا، فحتى مع وجود فرصة للرحيل، قد ضمرت مهارتها في الطيران والبحث عن الطعام.
ولربما قد أصاب البشر شيء مشابه، وهو ما يُعرف بمتلازمة الكوخ (Cabin Fever)، فالعديد من الأصدقاء يشكو نسيانه القدرة على تبادل أطراف الحديث مع غيره، وشعوره بنوع من الوحشة في عالم لا بشر فيه. هنا يبدو لي ضمور بعض المهارات الإنسانية مقابل تطور خصال أخرى تحت ظل هذه الأزمة.
لكن في الوقت ذاته، أصبحت الشوارع مزدحمة تمامًا بعد رفع الحظر الكلي والذي دام 20 يومًا في الكويت، وحتى في أيام الحظر الجزئي، فإن الجمعيات والشوارع لا زالت مكتظة. يدلني ذلك على أن المساحات الخارجية والمباني التجارية ستبقى حية في المجتمع الكويتي المحب للحياة.
في مقابل وجود أناس اكتفوا بعالمهم الخاص خلف جدران المنزل، وجد كثيرون أن الجدران ذاتها خانقة لا تطاق، واستعجلوا العودة لسير الحياة المنبسط القديم (Extroverted)، مما قد يعيد إحياء الأسواق ومختلف المرافق قبل أوانها.
العلاقات الأسرية والاستقلال المساحي
كوننا نقضي أسابيع وشهورًا بأكملها داخل صوامعنا المنزلية تحت الحظر، فلا بد أن تكون مريحة مسالمة خالية من الشد والجذب، إذ لا مكان للهرب أو أخذ وقت لإعادة ترتيب الأفكار في حال حدوث أي سوء تفاهم. هنا تتغير علاقتنا بالقريب الذي يشاطرنا المنزل، كما تغيرت علاقتنا بالبعيد.
هناك العديد من العائلات السعيدة المنسجمة بالطبع، ولكن في المقابل يبدو أن عدد العائلات التي تعاني من النشاز ما بين علاقاتها كثرة، لا سيما تحت ضيق المسافة الحالي. المسافة عامل مهم في نجاح أي علاقة إنسانية، ووجود توتر سابق ما قبل الأزمة قد يزداد مع انعدام تلك المسافة، مؤديًا إلى حالة من الصراع الدائم لدى البعض أو تنسُّك الآخرين ولجوئهم الدائم إلى غرفهم.
مرة أخرى، تؤثر الظروف الخارجية على علاقتنا التفاعلية بمساحاتنا المبنية، فهنالك من تكيف بقضاء جل وقته في حجرته، بينما يوجد العديد ممن لا قدرة لهم على هذا النوع من التقوقع الدائم.
نجد جيل الشباب يغبط المتزوجين ممن يملكون عائلتهم الصغيرة وعالمهم الخاص المستقل تمامًا، فالزواج هو الخلاص الوحيد من بيت العائلة في الكويت والعديد من الدول العربية ذات البِنى التقليدية. فعند انعدام الشفافية بين الجيل السابق والحالي، واختزال الحوار إلى أوامر ووعظ من الوالدين والإخوة الكبار إلى الأبناء، يصبح العيش تحت سقف واحد غاية في الصعوبة.
هنا تُطرح من جديد إمكانية العيش المستقل ما قبل الزواج، والذي تضع أغلب العائلات عليه شروطًا تعجيزية. وتظهر المزيد من التساؤلات، فقد يصمت كثير من الشباب ويعيشون قانعين (أو متظاهرين بالقناعة) بالحياة مهمشين داخل بيت العائلة، خصوصًا إذا كانوا ذوي توجه فكري مختلف، وذلك بسبب الصعوبة المادية والاجتماعية للعيش المستقل في الكويت.
على الرغم من ذلك، هنالك أقلية تسكن بشكل مستقل، وتواجه هذه المجموعة تحديات مختلفة عن تلك التي يواجهها قاطنو بيت العائلة الكبير.
بالطبع، فإن ميزة وجود مساحة خاصة بنا تعني إمكانية تشكيلها كما نريد لتصبح منزلًا بمعنى الكلمة، ومرآة لشخصية قاطنها واهتماماته. بالإضافة إلى أن وجود مساحة يتوجب العناية بها ونظافتها يخلق علاقة تفاعلية حميمة بين الشخص ومسكنه، فلا يعود المسكن جمادًا فحسب، بل فرصة للنضج وتحمل مسؤوليات عملية قلما تتوافر في بيت العائلة الممتد. وقد يكون العيش المستقل الخيار الأفضل صحيًا للوقاية من الوباء، لكن يتطلب ذلك قدرة كبيرة على الاستمتاع بالوقت وحيدًا، إذ أن فرص التواصل مع الآخرين اجتماعيًا تكاد تكون شبه معدومة في الظروف الحالية، مقابل قضاء أفراد العائلة الوقت معًا تحت سقف واحد.
البيت الخليجي ومساحات عملاقة
قد تقضي الجائحة على هوس المساحات ذاك، والذي ابتلع كل قيمة جمالية للبناء تاركًا المنزل أشبه بصندوق أصم. ولربما تقل الحاجة للعمالة المنزلية، التي أضحت ضرورة لتنظيف تلك المساحات الهائلة، مقابل منزل أصغر ذي أبعاد إنسانية دافئة.
وتحت ضوء إشكالية العيش المستقل السابق ذكرها، قد تتحول المبالغة في المساحة من المفاخرة الاجتماعية إلى نوع من الحلول الوسطى لمشكلة صامتة تفاقمت في السنوات الأخيرة، إذ يمكن لكل فرد أن يعيش باستقلالية نسبية.
هنا نطرح سؤالًا: ما تأثير الوباء على حجم البيت الخليجي وهيئته؟
الأرجح أن المنزل الخليجي في طريقه إلى التقلص، وذلك لعدة اعتبارات: منها الدمار الاقتصادي الذي سببه الوباء، وتأثيره الاجتماعي الذي قلل الزيارات وحرر كثيرين من الأعباء الاجتماعية، ناهيك بتقلص حجم العائلة الحديثة أو اختيار الكثير لعدم الإنجاب أو الزواج أصلًا.
فما تأثير بقائنا في المنزل لمدة طويلة على إعادة تشكيله؟ ربما سنضحي بجزء من الخصوصية المحبذة في المجتمع المحافظ مقابل نوافذ أكبر تعطي تواصلًا إضافيًا مع العالم الخارجي، أو زيادة مساحة الحدائق المنزلية كنوع من الترفيه الداخلي وتوفير بعض الخضروات والأعشاب الأساسية للمأكل. على أي حال، لا بد بهذه التغييرات الكبرى من بناء وهدم أن تنتظر، فأغلب مكاتب المقاولات مغلقة الآن.
انتشار الوباء أدى إلى العديد من التغييرات الجذرية، ومنها الطريقة التي نتعاطى بها مع بيئتنا المبنية المباشرة. أرى العديد من الاحتمالات التي لم تُجرب بعد خليجيًا، كالعيش المجتمعي (Communal Living)، وهو عبارة عن مجموعة أفراد مستقلين عن عوائلهم يعيشون معًا مكونين مجتمعهم المتكاتف الخاص، إذ أن الحاجة للانسجام في العلاقات تحت السقف الواحد أصبحت ملحة أكثر من أي وقت مضى.
كذلك، فإن تأثير العمل والتسوق من المنزل على تقليص حجم وقيمة المباني العقارية والتجارية في المستقبل أمر يستحق التأمل. بالإضافة إلى مساحة رقيقة للتعبير عن ذواتنا داخل غرفنا وبيوتنا، عن طريق ملاحظة تفاصيلها المعبأة بالذكريات أو إعادة تصميمها بما يناسبنا، وإعادة رسم حدود الخصوصية من زيادة ونقصان تحت سياقات مختلفة. إنها فترة زمنية مدهشة بالفعل.