في السادس من أغسطس عام 1945، كان العالم على وشك أن يتغير دون رجعة ليدخل عصرًا جديدًا من الرعب والدمار الشامل، عصر يمكن أن تنمحي فيه مدن كاملة من على الخريطة في غضون ثوانٍ معدودة، عصر كانت بدايته قنبلة حملت اسم امرأة جلست في منزلها، لا علاقة لها بكل ما يدور من معارك على أرض أوروبا وآسيا وإفريقيا، في حرب ستُعرف تاريخيًّا بالحرب العالمية الثانية، سوى أنها كانت والدة للطيار الذي قاد طائرته ليكتب التاريخ بإطلاق أول قنبلة ذرية عرفتها البشرية على مدينة هيروشيما اليابانية، «إينولا غاي».
أسئلة كثيرة قد تدور في مخيلتنا، حين نشاهد صور ضحايا القنبلتين الذريتين اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، خلال السادس والتاسع من أغسطس 1945، لإرغامها على الاستسلام والخروج من الحرب العالمية، راح ضحية القنبلتين قرابة مئتي ألف إنسان.
أسئلة حول مشاعر هؤلاء الذين نفذوا العملية وألقوا القنبلتين الذريتين: هل كانوا على علم بما يفعلون؟ هل كانوا يدركون حجم الضحايا الذين سيسقطون في لحظات؟ هل انتابهم لحظات من الندم على تنفيذ هذه العملية التي تبقى إحدى أكثر العمليات العسكرية وحشية في التاريخ؟ أسئلة دارت في أذهان البشر منذ ذلك اليوم الذي ألقيت فيه القنبلة الأولى، وأجاب عنها بعض هؤلاء الذين شاركوا في هذه العملية.
لن أعتذر أبدًا
لم يتمكن الطيار المساعد من طرد إحساسه بالذنب، فكتب في مذكراته: «إذا عشت مئة عام لن يمكنني أن أخرج هذه اللحظات من عقلي».
«كانت سياسة الولايات المتحدة في هذا الوقت قهر دولة اليابان، وكنت على استعداد لفعل أي شيء للمساعدة في ذلك»، روي «ثيدور فان كيرك»، أحد أعضاء طاقم الطائرة التي أسقطت القنبلة الأولى «إينولا غاي» على مدينة هيروشيما، «ربما لو كنت أعيش في هيروشيما، ذلك الوقت، لما كنت سأستطيع مسامحتي، لأن هؤلاء الناس عانوا كثيرًا، لكن سواء قبلوا بذلك أو لا، فإلقاء القنبلة الذرية أنقذ حياتهم وحياتنا».
قناعة الرجل الذي توفي عن عمر يناهز 93 عامًا في 2014، كانت نابعة من إيمانه بدموية الخطة البديلة، «إذا غزونا حينها اليابان، لكان عدد الضحايا اليابانيين أعلى بكثير».
وبالنسبة إليه كان البديل يتمثل في حلين آخرين غير إلقاء القنبلة الذرية: «الأول أن نحاصر اليابان، ونجعل الشعب يجوع حتى الموت. لكن كيف تٌجوِّع شعبًا حتى الموت وهو في الأصل يعيش على ألف سعر حراري فقط؟ لا يمكنك ذلك. أما الثاني، فوضع خطة كاملة لغزو اليابان».
كشف فان كيرك، في حديث عام 2005 للراديو الوطني العام، أنه «لم يعانِ أيٌّ من منفذي العملية نفسيًّا، ولم يصبنا الجنون، ولم نذهب إلى الأديرة أو مكان آخر مما ردد عدد من الناس أننا ذهبنا إليه»، مؤكدًا أنه ليس نادمًا على ما فعله: «لم أعتذر قط عما فعلته في هيروشيما، ولن أعتذر أبدًا». فيما أوضح أن ندمه الوحيد يكمن في أن العملية كان يجب القيام بها من الأساس.
«أنا نادم على كل عملية قمت بها في أوروبا. نفذت كثيرًا من العمليات، وأسقطت كثيرًا من القنابل لقتل الناس، وعلى الأغلب قتلت مدنيين، لكن هل أنا نادم على العملية النووية؟ أنا نادم على أننا اضطررنا للقيام بها، لكنني أعتقد أنه كان علينا القيام بذلك لتقليل عدد الضحايا في هذه الحرب».
الندم، إحساس ربما لم يتمكن من «فان كيرك»، إلا أن الطيار المساعد لنفس الطائرة، الكابتن «روبيرت لويس»، قد لا يكون استطاع طرده نهائيًّا، فكتب في مذكراته عن مشاعره تجاه ما قام به مع زملائه في هيروشيما: «كم قتلنا من اليابانيين؟ أبحث عن الكلمات لأفسر هذا، وإلا يمكن أن أقول: يا إلهي، ماذا فعلنا؟».
أضاف في المذكرات، التي كتب منها سبع نسخ بخط يده له ولزوجته وأبنائه الخمسة، وعُرِضَت إحدى هذه النسخ للبيع في مارس الماضي: «إذا عشت مئة عام، لن يمكنني أبدًا أن أُخرِجَ هذه اللحظات من عقلي».
أما قلب الفيزيائي «هارولد أجنو»، زميلهما في طاقم الطائرة، فلم يراوده أي شعور بالندم نهائيًّا، ليس للحظة واحدة: «إحساسي الصادق حينها كان أنهم يستحقونها، وهذا هو إحساسي حتى هذه اللحظة»، روى «أجنو» في حديث لهيئة الإذاعة البريطانية عام 2005، مُرجِعًا إحساسه هذا إلى أن الناس لا تنظر إلى أسباب استخدام القنبلة الذرية، حسب تعبيره، معربًا عن اعتقاده بأنه لا يوجد مدنيون أبرياء في أي حرب، «الجميع يفعل شيئًا، يسهم في مجهودات الحرب، ويصنع القنابل، ما فعلناه أننا أنقذنا حياة كثيرين على المدى البعيد، وأنا فخور بأنني جزء من العملية».
لا يختلف الحال بالنسبة إلى الطيار «بول تيبيتس»، الذي أطلق اسم والدته على القنبلة الذرية الأولى، واسترجع لقاءه بالرئيس الأمريكي «هاري ترومان»، بعد عودته من مهمته، في حديث مع صحيفة «الغارديان» البريطانية عام 2002: «جلس أمامي صامتًا لمدة عشر ثوانٍ، قبل أن يقطع صمته قائلًا: ما رأيك؟ قلت: سيدي الرئيس، أعتقد أنني قمت بما أُمِرت به. خبط بيده على الطاولة، وقال: أنت محق، لقد فعلت، وأنا الرجل الذي أرسلك، إذا لامَك أي شخص بسبب هذا الأمر، أرسله إلي».
وعن ما إذا كان انتابه الشك حول ما قام به، رد الطيار في الحوار نفسه مؤكدًا أن ذلك لم يحدث نهائيًّا: «لم يكن لدي أي مشكلة مع الأمر، أعلم أننا فعلنا الشيء الصحيح لأنني حين علمت بأننا سنقوم بذلك (إلقاء القنبلة الذرية)، فكرت في أننا سنقتل كثيرًا من الناس، لكن بحق الله، نحن سننقذ عددًا من الأرواح، لن يكون علينا أن نغزو اليابان».
لم تكن هذه هي الزيارة الأخيرة لـ«تيبيتس» إلى اليابان، فبعد أيام قليلة حمل أغراضه مصطحبًا «تشارلز ألبري»، مساعد الطيار الذي شهد إلقاء القنبلة الثانية على ناغازاكي، لنَقْل أطباء. القصة التي رواها «ألبري» لمجلة «تايم» الأمريكية عام 2005 تقول: «بعد ما يقرب من أسبوع أو 10 أيام، ذهبنا أنا وتيبيتس إلى ناغازاكي لنقل بعض الأطباء ومدنيين آخرين إلى هناك، رأيت أناسًا ينظرون إلينا من النوافذ، رأيت الكراهية في أعينهم، لكنني كنت أرى أيضًا أنهم ممتنون لفكرة أن الحرب قد انتهت».
داخل المستشفى، حيث اصطحب الأطباء، كان ما سيراه سيحرك مشاعره: «رأيت ظلًّا على الحائط. بالتأكيد كان هناك رجل يمشي بجانب هذا الحائط حين انفجرت القنبلة، حتى تلك اللحظة لم أكن أتخيل أن هذه القنبلة يمكنها فعل شيء كهذا، كل ما كان يمكنني التفكير فيه أنني أتمنى ألا نضطر أبدًا، في أي وقت آخر، لاستخدام واحدة من تلك القنابل مجددًا».
قال مهندس الطائرة التي حملت «إينولا غاي»: «إذا لم نلقِ القنبلة، لكان كلفنا ذلك آلاف الأرواح من الجنود الأمريكيين عند الغزو البحري لليابان».
رجل آخر عاد إلى ناغازاكي بعد أيام من ضربها بالقنبلة النووية، كان الطيار الذي حمل على طائرته «بوكستار» القنبلة الثانية، الرائد «تشارلز سويني»، الذي كتب في مذكراته عن مشاعره حين وطئت قدماه المدينة التي دمرها بقنبلته: «لم أشعر بالفخر والسعادة حينها، ولا أشعر بهما الآن. في وحشية الحرب، سواء تلك التي يعاني منها شعبي أو شعوب أخرى، كل روح لها قيمتها، لكنني لم أشعر بأي ندم أو ذنب لأنني ألقيت القنبلة على المدينة التي أقف على أرضها».
أضاف: «الشعور الحقيقي بالندم والذنب ينتمي إلى دولة اليابانية التي يمكنها، وعليها، أن تطلب للمحاسبة قادة الحرب الذين قدموا شعبهم بإرادتهم لتحقيق رؤيتهم للعظمة».
كشف الملازم «جاكوب باسير»، الشخص الوحيد الذي شارك في طاقمي الطائرتين اللتين ألقيتا القنبلتين، في حديث لصحيفة «واشنطن بوست» عام 1985، عن وجود خطة لغزو اليابان: «لا أشعر بالندم أو تأنيب ضمير تجاه الأمر، فدولتنا كانت تحارب منذ ثلاثة سنوات، وعلى أعتاب الرابعة، وكانت هناك خطة أُعِدَّت بالفعل لغزو اليابان في نوفمبر 1945، كان ثلاثة ملايين رجل سيُرسلون إلى اليابان، وقرابة ثلاثة ملايين من اليابانيين يستعدون للدفاع عن بلدهم، وكان من المتوقَّع أن يصل عدد الضحايا إلى مليون شخص، كل هذا تفاديناه».
أما مهندس الطائرة التي حملت «إينولا غاي»، الرقيب «ويات دوزنبيري»، فكشف عن مشاعره، في حديث عام 1985، لصحيفة «لانسينغ ستايت»، قال فيه إنه لم يشعر بالذنب بسبب العملية، لكنه أيضًا لم يشعر بإحساس جيد تجاه قتل مئة ألف شخص، وكان قد قال سابقًا: «بشكل شخصي، أشعر بأننا إذا لم نلقِ القنبلة، ولم يلق الطاقم الآخر القنبلة الثانية على ناغازاكي، لكان كلفنا ذلك آلاف الأرواح من الجنود الأمريكيين عند الغزو البحري لليابان».
لم يكونوا مضطرين؟
تكشف ملفات الأمن القومي الأمريكية السرية، التي نُشِرَت عام 2005، بعد نحو 60 عامًا من العملية، عن وجود تحفظات لدى الجنرال «دوايت أيزنهاور» الذي سيصبح الرئيس الأمريكي التالي لـ«ترومان»، على استخدام القنبلة الذرية.
وفي إحدى الحفلات التقى بنائب وزير الحرب حينها، «جون ماكلوي»، ودار بينهما حديث عن القنبلة الذرية، قال «أيزنهاور» إنه كان يتمنى أن تنتهي الحرب «دون أن نضطر لاستخدام القنبلة الذرية»، وهو ما ذكره في مذكراته أيضًا حين استرجع حديثًا دار بينه وبين وزير الخارجية الأمريكي السابق «هنري ستيمسون»، عام 1948، قال فيه: «عبرت عن أملي ألا نضطر لاستخدام شيء كهذا ضد أعدائنا لأنني لم أعجب برؤية الولايات المتحدة تأخذ الريادة في تقديم شيء بشع ومدمر في الحرب كما وُصِفَ هذا السلاح الجديد».
تبقى قصة المشاركين في عملية إسقاط القنبلتين ومشاعرهم المتناقضة تكتب فصلًا بين فصول كثيرة كان فيها الإنسان تائهًا داخل أركان قلبه.
التحفظ ذاته كان لدى رئيس الأركان الأمريكي حينها، الجنرال «جورج مارشال» الذي سجلت تقارير الأمن القومي الأمريكية السرية، أنه لم ير ضرورة لاستخدام القوة النووية في حين يمكن تنفيذ عملية إنزال بحرية عملاقة، واضعًا الحل النووي كحل بديل في حالة لم تأت هذه الخطة بالنتيجة المرجوة، موضحًا أنه حتى في هذه الحالة تُستَهدف المناطق الصناعية، لكن ليس قبل تحذير سكان تلك المناطق أولًا. وأوضحت التقارير أن غزو اليابان كان قد جرى التخطيط له، وكان سيحدث في الأول من نوفمبر 1945، لولا استخدام القنبلة الذرية، وهو الرأي الذي كان يوافقه فيه «ستيمسون».
وصف بروفيسور التاريخ الشهير «بارتون برينستن» هذه الحالة من التضارب في المشاعر الذي انتاب بعض كبار رجال الدولة الأمريكية، قائلًا: «لقد كانوا محتارين بين الأخلاق القديمة التي عارضت القتل العمد لغير المقاتلين، وتلك التي تشدد على الحرب الشاملة».
تبقى قصة هؤلاء المشاركين في عملية إسقاط القنبلتين الذريتين على اليابان وقياداتهم الأعلى، ومشاعرهم وأحاسيسهم المتناقضة أحيانًا بين الواجب والإنسانية والصحيح والخطأ والضرورة والمبررات، تكتب فصلًا بين فصول كثيرة كان فيها الإنسان تائهًا داخل أركان قلبه، يتساءل من داخله حول صحة قرار دفع ثمنه مئات الآلاف من البشر أرواحهم، لكن من يعلم ومن يدرك ومن يحكم؟ ربما يرى بعضهم أنها جريمة في حق البشرية، ويرى آخرون أنها ضرورة تبيح المحظورات، لكن ما اتفق عليه منفذو العملية قبل رحيلهم جمعيًا عن الدنيا، كان أمرًا واحدًا لا يأبه بآراء أيٍّ من المُنظرين، هم غير نادمين على إسقاط القنابل الذرية على اليابان. غير نادمين على الإطلاق.