في روايته «امتداح الخالة»، يحكي الكاتب البيروفي «ماريو بارغاس يوسا»، عن شخصية مثيرة للاهتمام. «دون ريغوبيرتو»، شخص شديد الاعتناء والاهتمام بذاته. يدخل الحمام وينتهد سعيدًا مغمورًا بإحساس عميق من الرضا والامتنان والراحة. فهنالك ساعة كاملة سيقضيها في وحدة خلَّاقة، يتحول فيها طقس شديد البساطة يمارسه كثيرون بروتينية، مثل تنظيف الأسنان والمضمضة، إلى عمل مهذب متقَن يجعله كائنًا كاملًا.
دون ريغوبيرتو لا يرى الاهتمام بنفسه فعلًا يتطلب مجهودًا ووقتًا، بل أشبه بلحظات تجلٍّ ينغمس فيها داخل نفسه بالكامل، ويُحوِّل قضاء وقته في الحمام من فعل روتيني إلى مُتعة ذاتية تهب له الكمال والتحقق. الأشياء التي نبحث عنها بشكل يومي.
تشمل الاعتبارات التي نضعها قبل الشروع في فعل أي شيء، عدة تساؤلات أساسية، منها: هل يخدمنا هذا الفعل بشكل مباشر؟ هل يجعلنا أكثر سعادة؟ أم سيُحقق رغبة؟
إذا كان الأمر كذلك، فما هي المتعة التي تأتي من القراءة أو الأكل أو اللعب؟ وهل تختلف جودة مصادر المتعة المختلفة؟ هل القراءة تختلف نوعيًّا عن الأكل؟ وماذا عن الكمية؟ كم من الوقت يجب أن نلعب أو نتسوق أو نقرأ كي نُحقق أقصى درجة من المتعة؟
عندما نختار بين الأشكال المتنوعة للمتعة، كيف يمكننا المقارنة بينها والاختيار وتفضيل فعل ما على آخر؟ هل يهم إذا كانت ملذاتنا روحية أو جسدية، عقلانية أو ساذجة، أم إن كل المُتع هي نفس الشيء؟
ترى فلسفة «النفعية» المتعة محورًا أساسيًّا لاهتمامها. فالأفعال الصحيحة هي التي تزيد من سعادة المرء وتقلل من معاناته، والأفعال الخطأ تتسبب في العكس.
مع ذلك، لم يستطع النفعيون أن يتفقوا حول ترتيب المتع من الأعلى إلى الأقل، أو من المهم إلى التافه، ليظهر التساؤل حول إن كانت المتع قابلة للتصنيف من الأساس.
ميز جون ستيوارت مِيل بين المتع العليا والدنيا. بالتمييز بين قدرات الإنسان الفريدة من نوعها، والقدرات التي نتشارك فيها مع الحيوانات.
كان الفيلسوف الإنجليزي «جيرمي بينثام»، يعتقد أن جميع مصادر المتعة متساوية في طبيعتها. وفي كتابه «سبب المكافأة» (The Rationale of Reward)، رأى أن للعب قيمة مساوية لقيمة الموسيقى والشعر. فكل ما يسعد المرء، ويتسبب في متعته، كان بالنسبة إلى بنثام فعلًا مبرَّرًا.
لكن الفيلسوف «جون ستيوارت مِيل» رأى أن القيم تختلف. وذكر في كتابه «النفعية» رأيه الشهير: الأفضل أن تكون إنسانًا غير راضٍ من أن تكون خنزيرًا مرتاحًا، والأفضل أن يكون المرء سُقراط مستاءً من أن يكون جاهلًا راضيًا.
وضع ميل تمييزًا بين المتع العليا والدنيا. اتبعت طريقته التمييز بين قدرات الإنسان الفريدة من نوعها، والقدرات التي نتشارك فيها مع الحيوانات.
فالمتع العليا تعتمد على القدرات البشرية المميزة، التي تحتوي على عنصر معرفي مُعقَّد وتتطلب قدرات، مثل التفكير العقلاني أو الوعي الذاتي أو استخدام اللغة. على النقيض من ذلك، تتطلب المتع الدنيا، مجرد القدرة على الإحساس. فالبشر والحيوان، حسبما رأى ميل، يتمتعون على حد سواء بالتشمس أو تناول الأطعمة اللذيذة أو ممارسة الجنس. لكن البشر وحدهم يمكن أن ينغمسوا في الفن والفلسفة، وما إلى ذلك.
لم يكن ستيوارت ميل أول من أشار إلى هذا التمييز. اعتقد أرسطو أن حواس اللمس والتذوق كانت «حقيرة وبوهمية»، ومتع الطعام، بما أن الحيوانات تُشاركنا بها، فهي أقل قيمةً من تلك المتع التي تتطلب استخدام عقل متفتح. ومع ذلك، فكثيرون يصرون على موافقة رأي بينثام، بحجة أننا في الواقع لسنا مثقفين أو أصحاب مبادئ صارمة مثل ميل أو أرسطو، وعلينا أن نقبل ذواتنا كما هي، بالرغبات والمشاعر الحيوانية التي نحن عليها، لأننا مخلوقون من الكيمياء الحيوية والغرائز الحيوانية.
صعوبة إيجاد حل لهذا الخلاف الدائر حول أنواع المتعة ودرجاتها، ليست بسبب أننا نسعى للاتفاق على الإجابة الصحيحة، بل بسبب أننا نطرح السؤال الخطأ. هذا ما يراه الفيلسوف «جوليان باجيني» في مقاله على موقع «Aeon».
يفترض الجدل القائم بأكمله وجود انقسام واضح بين ما هو فكري وما هو جسدي/مادي، بين الإنسان والحيوان، وهو الانقسام الذي لم يعد التمسك به ممكنًا.
لدينا أدلة علمية كثيرة تُثبت أهمية دور الكيمياء الحيوية والهرمونات في كل ما نفعله أو نفكر فيه. مع ذلك، ماذا سيحدث إن أخذنا على محمل الجد فكرة أن ما هو جسدي لا ينفصل عن ما هو فكري؟ ماذا تعني المتعة هنا؟
الحل ربما، كالعادة، يكمن في الطعام
رأى جين بريلات سافارين أن الحيوان يأكل والإنسان كذلك، لكن الإنسان المُفكر فقط هو من يعرف كيف يأكل.
طاولة الطعام مكان جيد للإجابة عن هذه الأسئلة. يقول باجيني إنه عادةً ما يرى الطعام متعة أقل جوهرية وأهمية. جميع الحيوانات تأكل، باستخدام حواس الشم والتذوق، لذا لا تتطلب هذه المتعة أي إدراك معقد لنستنتج أن شيئًا ما لذيذًا.
افترض كثير من الفلاسفة القدامى أن إيجاد متعة في تناول الطعام، لإشباع رغبة بدائية. على سبيل المثال، يعتقد أفلاطون أن الطهي لا يُمكن أن يكون شكلًا من الفن، لأنهم رأوا أن الطهي ليس سبب المتعة التي يُكرس الوقت لها، بل تذهب المتعة مباشرة إلى نهايته أو نتيجته: الطعام.
«جين بريلات سافارين» كان كاتبًا فرنسيًّا، اهتمامه الأساسي هو الطعام. لم يكن يعمل طاهيًا، بل محاميًا. في كتابه «فسيولوجيا التذوق»، رأى سافارين أن الحيوان يأكل والإنسان كذلك، لكن الإنسان المُفكر فقط هو من يعرف كيف يأكل.
نجح بريلات سافارين في التمييز بين طريقة أكل الحيوانات المجردة، وهو تناول الطعام كوقود للنشاط والإبقاء على الحياة، وتناول البشر للطعام، والذي يجب أن يكون عملية متجاوزة وتجربة روحانية. تحضر فيها أكثر من مجرد رغباتنا الجسدية الأساسية. فالأكل عملية معقدة في ذاتها.
تجميع مكونات الطعام يتطلب تفكيرًا، لأن ما نشتريه لا يلزمه التخطيط فحسب، بل يؤثر على رفاهية المزارعين والمنتجين والحيوانات والكوكب كله. يشمل الطهي معرفة المكونات وتطبيق المهارات وتحقيق التوازن بين النكهات المختلفة والقوام واعتبارات التغذية ورعاية ترتيب مكان الطبق على مدار اليوم. فالأكل، في أفضل حالاته، يَجمع كل هذه الأشياء، ويضيف تقديرًا جماليًّا للنتيجة النهائية.
قد يعجبك أيضًا: العناية بالذات ليست مجرد تدليل
توضح متعة الأكل كيف أن الفرق بين المتع العليا والدنيا لا يكمن في ما تستمتع به. لكن كيف يفعل المرء هذا؟ التهام الطعام مثل قط في طبق صغير، نوع أقل من المتعة، في حين أن تحضير الطعام وأكله بانتباه وتفكير، قوى لا يمتلكها سوى الإنسان، يحولها إلى متعة أعلى.
هذا الشكل من المتعة العليا ليس فكريًّا بالمعنى الأكاديمي، هكذا يوضح باجيني. فقد يحقق الطباخ المتمكن متعته بأن يحكم على التوازن بين النكهات والقوام بشكل بديهي، والطاهي في منزله قد يفكر ببساطة في ما قد يستمتع به أهل البيت. لكن، ما يجعل المتعة أعلى بالفعل أن يشتمل الطقس الميكانيكي الغرائزي هذا، على قدراتنا البشرية الأكثر تعقيدًا، وأن تعبِّر عن أكثر من مجرد الاحتياج البهيمي لإشباع الرغبة.
في كل متعة، ليس من الصعب أن نرى أن الكيفية هي أكثر أهمية من ماهية المتعة نفسها. إضافة إلى أن المتع العليا لا تستخدم قدراتنا البشرية المميَّزة فقط، بل تستخدمها من أجل نتيجة ذات قيمة.
ترتيب المتع لا يهم
من يذهب إلى حفل في الأوبرا، بهدف أن يرى الناس ملابسه الجديدة، لن يجرب المتع العليا للإنصات إلى الموسيقى، لكن سيغرق في متعة الغرور، وهي بالتأكيد متعة دنيا.
من يقرأ مجلات الأطفال، بانتباه وتمعن في اللغة والرسومات، يحصل على متعة أكبر من ذلك الذي يقرأ قصائد معقدة لـ«تي. إس. إليوت» بشكل ميكانيكي، ولا يفهم شيئًا مما يقرأ.
عندما نتعلم كيف نستمتع بأشياء جسدية، بطرق جديدة تُشرك قلوبنا وعقولنا وحواسنا، نعلم أننا لسنا مجرد أرواح محاصَرة في أجساد فانية.
حتى الجنس الذي ربما يكون أكثر متعة بدائية تُرضي الإنسان، يمكن تقديره بطرق أعلى وأدنى. وعلى غرار رأي الكاتب بريلات سافارين في الطعام، يكون الأمر ذاته في الجنس: الحيوانات تتضاجع، لكن البشر يمارسون الحب.
في ذروة اليقظة والنشوة الجنسية، قد لا يبدو أن قدراتنا البشرية المتطورة تبذل كثيرًا من الجهد. لكن الجنس متعلق بالسياق، بمعنى أن طبيعته تتغير اعتمادًا على ما إذا كان جزءًا حميمًا من علاقة حقيقية بين إنسانين، أم مجرد إشباع للرغبة.
قد يعجبك أيضًا: كيف يحرمنا الروتين من رؤية الحياة على حقيقتها؟
لذلك، كان الفيلسوف مِيل على حق في اعتقاده بأن المتع تأتي في أشكال عليا ودنيا. لكن من الخطأ الاعتقاد بأننا نستطيع تمييزهم على أساس ما نستمتع به نحن. ما يهم أكثر هو الكيفية التي نستمتع بها، ما يعني أن المتع العليا والدنيا ليستا فئتين منفصلتين، لكنهما يشكلان سلسلة متصلة.
يعتقد باجيني أن ثبات الشكل الزائف للتمييز بين المتع العليا والدنيا، نتيجة أن بعض الأشياء قابلة لأن يُقدِّرها الناس أكثر من أشياء أخرى. عادة ما نستمتع بالفن بطرق مرتبطة بالتفكير، لكننا نلتهم الطعام بطرق حيوانية، وهو أمر قادنا إلى أن نخطئ في ارتباطنا بهويتنا.
عندما نتعلم كيف نستمتع بأشياء جسدية، بطرق جديدة تُشرك قلوبنا وعقولنا وحواسنا الخمسة، نعلم أننا لسنا مجرد أرواح محاصَرة في أجساد فانية، ونتعلم كيف نكون بشرًا بالكامل. نحن لسنا ملائكة ترقى فوق المتع الجسدية ولا وحوشًا، بل كائنات جسمانية ونفسية، تستخدم قلوبها وعقولها وأرواحها في ما تفعله. يجب عليها أن تفعل ذلك.