في زنزانة داخل سجن أوغسبورغ، جلس «ألبرت غورينغ» (50 عامًا) يفكر في ما آل إليه حاله. كان العام 1945، وبلاده على حافة الانهيار، ومعها ستسقط أسطورة الرايخ الثالث. «أنا أسف يا ألبرت، لأنك أنت من عليه المعاناة بسببي»، كلمات قالها له شقيقه في ساحة السجن، الرجل الذي كان قبل أيام فقط، أحد أقوى القادة الألمان، وأحد أهم مساعدي الفوهرر نفسه، أدولف هتلر، لم يعلم حينها ألبرت أنها ستكون الأخيرة بينهما.
معاناة. كم عانى ألبرت بسبب شقيقه بالفعل؟ ربما راودته ذكرياته وهو يجلس في صمت يليق بمأساته. كم كان اسم غورينغ لعنة طاردته فقط لأنه شقيق رجل يحمل الاسم نفسه، اختار أن يعتنق الفكر النازي، وأصبح من أشهر رموزه.
كانت نشأة الشقيقين غير طبيعية. فوالدهما «هنريخ» كان دبلوماسيًّا عمل في سفارة بلاده، في البلد الذي يُعرف الآن باسم ناميبيا، وكذلك هايتي. مع ابتعاده عن العائلة، ارتبطت زوجته «فاني»، بطبيب ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية يُدعى «هيرمان فون إبنشتاين». اعتنى بها، وكان في منزلة الأب الروحي لولديها، إذ حضر ولادتهما، فسُمي الأول على اسمه، وأثيرت أقاويل حول أن ألبرت الأصغر ابنه هو، وليس ابن «هنريخ».
روت أختهما «أولغا» أن الإشاعات كانت تتزايد كلما كبر ألبرت، إذ لاحظ الناس التشابهات الجسدية بينه وبين الطبيب المقرب لوالدته، ذي الجذور اليهودية، وبخاصة العينين البنيتين الغامقتين. في المقابل، كان شقيقه هيرمان يحمل ملامح آرية واضحة شبيهة لوالدته.
كان الفارق بين الشقيقين واضحًا أيضًا في شخصياتهما. فهيرمان كان متمردًا كثير إثارة المتاعب، حتى إنه تنقَّل بين المدارس الداخلية إلى أن طُرد من إحداها بعدما أفسد الأدوات الموسيقية في المدرسة، ليرسَل إلى المدرسة العسكرية، فيخطو أولى خطواته في التفوق أخيرًا، حين أثبت ذاته كطيار بارع في الحرب العالمية الأولى.
في المقابل، كان شقيقه الأصغر ألبرت ولدًا حزينًا، يحب القراءة والأماكن المغلقة. كان كل ما يربط بين الشقيقين، الاسم فقط. اسم لم يكن لينساه العالم قط، وسيُكتب في التاريخ بحسناته وسيئاته.
ألبرت وهيرمان غورينغ: افتراق الطرق
أغضب نشاط هيرمان السياسي شقيقه ألبرت، لتبدأ قطيعة استمرت بينهما لمدة 12 عامًا.
العام 1919، كان يُنظر إلى هيرمان كبطل في سلاح الطيران، بعد دوره في الحرب العالمية الأولى، بينما التحق ألبرت بجامعة ميونخ التقنية لدراسة الهندسة الميكانيكية، ولعبت الصدفة دورها حين وجد الشاب الصغير حينها نفسه زميلًا لشاب آخر، سيصبح بدوره أحد أهم الشخصيات النازية، «هاينريش هيملر».
كانت زمالته لهملر أول ما فتح عينيه على الأفكار النازية، تلك التي لم يستحسنها، ليظل هذا الشعور مصاحبًا له طوال حياته. ورغم أنه في ذلك الوقت لم يكن ناشطًا سياسيًّا، فإن المستقبل كان يحمل له أكثر مما كان يتخيل، وعلى كتفيه سيكون الحمل ثقيلًا.
رغم اعتباره بطلًا حربيًّا، لم يشعر هيرمان بالتقدير الكافي، وأصبح زبونًا دائمًا في قاعة البيرة في ميونخ، حيث قابل لأول مرة الشاب أدولف هتلر. مع الإعجاب بما طرحه هتلر من أفكار، كانت اللحظة الفاصلة في علاقة الشقيقين غورينغ حين شارك هيرمان مَن سيصبح الفوهرر الألماني في أولى محاولات الانقلاب على الحكومة الألمانية عام 1923، في ما عُرِفَ باسم «انقلاب بير هول»، وأصيب هيرمان خلال المحاولة برصاصتين. هرب من البلاد لمدة أربع سنوات، أصبح خلالها مدمنًا للمورفين، وكان قريبًا من الجنون حين أُدخِل إلى مصحة علاجية في السويد.
أغضب نشاط هيرمان السياسي شقيقه ألبرت، لتبدأ حينها قطيعة استمرت بينهما لمدة 12 عامًا، شهدت كثيرًا من التغيرات للشقيق الأكبر. فالسياسي الهارب عاد إلى ألمانيا، وانتُخب عن الحزب النازي عضوًا في البرلمان الألماني، وأسس جهاز «الغيستابو» (البوليس السري الألماني) الذي كان مجرد سماع اسمه يصيب المواطنين الألمان بالهلع. تقلد هيرمان منصب قائد سلاح الطيران الألماني «لوفتفافه»، ليصبح أحد أكثر الرجال نفوذًا في برلين، في ما اعتُبر الرجل الثاني في الدولة.
أما ألبرت، فعمل مهندسًا في فيينا، وتزوج مرتين، وأصبح شخصًا اجتماعيًّا يحظى بدائرة صداقات كبيرة مع اليهود، وأبرزهم المنتجان السينمائيان الأخوان «أوسكار وكيرت بليتزر».
خلاف الأشقاء
في 1938، أنهى الاتحاد بين ألمانيا والنمسا، حيث عاش ألبرت، القطيعة بين الشقيقين، حين تقابلا في منزل الأخ الأصغر بمدينة جرنزينج.
كان الشقيق الأصغر حينها ليس نفسه الشاب غير المهتم بالسياسة، فمع الظهور الأول للصليب المعقوف النازي في شوارع النمسا، كان ألبرت، شقيق الرجل الثاني في الرايخ الألماني، يتحرك سريعًا لإخراج أصدقائه اليهود من البلاد، واستطاع تأمين تأشيرات خروج لهم باهظة الثمن، إضافة إلى بعض المال، وأُلقي القبض عليه ذات مرة، بعدما لَكَمَ اثنين من ميليشيا الحزب النازي، أجبرا مسنة على ارتداء لافتة كُتب عليها: «أنا يهودية عفنة».
كان رفض الأفكار النازية واضحًا تمامًا بالنسبة إلى ألبرت، وكانت القطيعة بين الشقيقين قائمة على الخلاف السياسي في أساسه، وهو ما فسره هيرمان يومًا قائلًا: «لم نكن نتحدث معًا بسبب شعور ألبرت تجاه الحزب. لم نكن غاضبين من بعضنا، كان انفصالًا بسبب الوضع».
رغم أنه معارض لأخيه وحزبه وحكومته وكل ما يتعلق بالنازية، فإن ألبرت استفاد أحيانًا من أنه شقيق هيرمان، ويحمل اسم غورينغ، فاشتبك يومًا مع ضابط في قوات «SS» النازية، أجبر مسنات يهوديات على مسح الشارع زاحفات على ركبهن من باب الإهانة. وخوفًا من اسم غورينغ لم يتخذ الضابط أي إجراء مع الرجل، وسمح له وللسيدات بالرحيل.
رغم جرائم هيرمان، فإن المفاجأة التي اكتُشفت عقب سقوط ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، كانت حسه العائلي. فالرجل الذي حوكم كمجرم حرب، كان من أكثر المساعدين لشقيقه الذي حمل على عاتقه مهمة إنقاذ من يمكن إنقاذهم من اليهود والسياسيين في معسكرات الإبادة.
رغم الأثر الذي يمكن أن يتركه ذلك على سمعته السياسية، كان الخيار واضحًا بالنسبة إلى هيرمان: العائلة أولًا.
يوم لقائهما الأول بعد القطيعة، وعد هيرمان شقيقه وشقيقته، التي جلست معهما، بتحقيق طلب واحد لكل منهما، ليطالباه بإطلاق سراح الأرشيدوق «جوزيف فرديناند»، آخر أمراء توسكانا، الذي كان محتجزًا في معسكر الاعتقال «داخاو».
لم يتلق هيرمان الطلب بشكل جيد، و«شعر بالإحراج الشديد، لكن في اليوم التالي صار الأرشيدوق حرًّا»، هذا ما رواه ألبرت لصديقه «إرنست نيوباخ».
ربما كانت هذا الطلب الأول لألبرت من شقيقه صاحب السُلطة والنفوذ، إلا أنه لم يكن الأخير. تحكي نجلة هيرمان: «كان ألبرت يمكنه مساعدة المحتاجين ماديًّا بنفسه وبعلاقاته الشخصية. لكن في اللحظة التي يتطلب فيها الأمر تدخل سلطة أعلى أو مسؤول، كان عليه أن يحصل على مساندة والدي، وكان دائمًا ما يحصل عليها».
مع عدم الاستقرار في النمسا، انتقل ألبرت للعيش في إيطاليا، إذ بدأ في تمويل عمليات هروب اليهود واللاجئين الآخرين، ومن ضمن مساعداته لليهود كان إرساله أموالًا وطعامًا لصديق في معتقل «بوشنفالد»، وأبعد رجال «الغيستابو» عن طبيب يهودي بعدما ادَّعى أنه طبيبه الخاص، وعمل غورينغ الصغير على نقل معلومات عسكرية ألمانية إلى المقاومة، والتي استطاع الحصول عليها من ضباط وأفراد، كانوا يطمحون في التقرب من أحد أفراد عائلة غورينغ أملًا في الترقي. في عام 1939، انتقل ألبرت إلى العاصمة التشيكية براغ للعمل مديرًا بمصنع «سكودا»، والذي استخدمه غطاءً على أعمال مناهضة للنازية.
مع مرور الوقت، أصبح ألبرت زائرًا دائمًا لمكتب شقيقه في برلين، من أجل طلب خدمات لأصدقائه من اليهود والسياسيين المعتقلين، مستغلًّا حس هيرمان العائلي في تحقيق مراده. لكن تحركات ألبرت لم تكن غائبة عن أعين الجهاز الذي أسسه شقيقه، وقاده من بعده زميله السابق هملر.
قدم الغيستابو عددًا من التقارير عن نشاطات ألبرت المعادية للحزب الحاكم وممارساته، وذكر ضمنها كراهيته للتحية النازية (هايل هتلر)، ورفضه التفوه بها في وجوده. صدرت أربعة أوامر باعتقاله في أثناء الحرب العالمية الثانية، إلا أنها ألغيت بأمر شقيقه، فرغم الأثر الذي يمكن أن يتركه ذلك على سمعته السياسية، كان الخيار واضحًا بالنسبة إلى هيرمان: العائلة أولًا.
في 1944، صدر أمر مباشر بإعدام ألبرت غورينغ بمجرد رؤيته، ليهرب الشقيق الأصغر إلى العاصمة التشيكية براغ، حتى تدخَّل شقيقه الأكبر لإلغاء الأمر. أوضح ألبرت لاحقًا ما قاله له شقيقه حينها: «قال لي إن هذه هي المرة الأخيرة التي يمكنه فيها مساعدتي، وإن مركزه اهتز، واضطر إلى أن يرجو هملر شخصيًّا كي ينهي هذا الأمر».
محاكمة رغم كل شيء
مرت بضعة أشهر واهتز الحزب النازي وانقلبت الحرب على الألمان، وأصبح سقوط الرايخ الثالث وشيكًا حين اعتقلت قوات الحلفاء الأخوان غورينغ، وأودعتهما معًا سجن «أوغسبورغ» مؤقتًا. فقد كان هيرمان فريسة عظيمة بالنسبة إلى أعداء ألمانيا، أما ألبرت، فاعتقل فقط لأنه يحمل اسم غورينغ في بطاقة هويته.
حاول ألبرت، في أثناء فترة اعتقاله التي استمرت عامين، توضيح نشاطاته المعادية للنازية إلى الحلفاء، بينما خضع للمحاكمة ضمن محاكمات «نورنبيرغ» الشهيرة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن «ريتشارد سونينفيلدت»، أحد مترجمي الحلفاء، رأى أن ما أدلى به غورينغ الصغير «قصص خيالية»، لتؤكد التحقيقات أنه مذنب.
في أثناء المحاكمات، قدَّم ألبرت في التحقيقات قائمة بخط يده تحمل 34 اسمًا ادَّعى أنه ساعدهم في الهروب من النازيين، من بينهم الأخوان بيلتزر، إضافة إلى الدكتور «كورت شوشنيغ»، مستشار النمسا السابق، والأرشيدوق «جوزيف فيرديناند»، وروى كيف ساعده شقيقه في إطلاق سراح المعتقلين، لكن لم يصدقوا أيًّا من تلك الروايات، وبدا أن مصير غورينغ الصغير لن يختلف كثيرًا عن شقيقه الأكبر، الذي كان متهمًا بارتكاب جرائم حرب، ويواجه الحكم بالإعدام.
حدثان فقط حملا طوق النجاة لشقيق مساعد هتلر: حين أرسل «كيرت بيلتزر»، الذي ساعده ألبرت في الهرب إلى الولايات المتحدة، رسالة إلى المحققين في «نورنبيرغ» يوضح قضية صديقه، ثم لعبت الصدفة لعبتها، حين انضم المحقق الأمريكي «فيكتور باركر» إلى فريق المحققين، وكان في الأساس لاجئًا يهوديًّا تحمل عائلته اسم «باسكيس»، وتزوجت عمته «صوفي» من المؤلف الموسيقي «فرانز ليهار»، والمثير أن اسم عائلة «ليهار» كان رقم 15 في قائمة ألبرت التي قدمها للمحققين.
كان المحقق فيكتور باركر سمع سابقًا من عمته كيف ساعد شقيق هيرمان غورينغ (ألبرت) اليهود على الهرب من معسكرات الاعتقال والإبادة. وأخيرًا أكد أحد المحققين قصة ألبرت، لكن معاناة المهندس لم تكن انتهت بعد، فاسم غورينغ ما زال يطارده بصحبة شبح الموت، فقد كان لا يزال مطلوبًا في تشيكوسلوفاكيا لاتهامه بالتعاون مع النازي، لكن من تدخل هذه المرة لإنقاذه كان أعضاء المقاومة التشيكية الذي كانوا يعملون في مصنع سيارات «سكودا»، حيث تقلد ألبرت منصب المدير.
بعد عامين من الاعتقال، عادت الحرية إلى ألبرت أخيرًا عام 1947، وانتقل للعيش مع عائلته في سالزبورغ النمساوية، لكن حياته لم تعُد مع حريته، فلم يستطع الحصول على عمل، إذ ظلت السمعة السيئة لاسم عائلته تلازمه، وانتهت زيجاته الأربعة بالفشل، وأدمن الكحول، وظل يعيش على الطعام الذي يرسله إليه اليهود الذين ساعدهم على الهروب من الغيستابو.
في ديسمبر 1966، فارق ألبرت غورينغ الحياة بعد صراع مع مرض سرطان البنكرياس، فيما بقي اسمه منسيًّا كما كان دائمًا، يقبع في ظل أخيه الذي انتحر ليلة تنفيذ حكم إعدامه، بعدما لطخ اسم عائلته بجرائمه، ليتركه يتذكر كلماته الأخيرة له في السجن: «آسف لأنك أنت من عليه أن يعاني بسببي».
لكن هيرمان لم يمت قبل أن يدافع عن شقيقه في نورنبيرغ، حين قال للطبيب النفسي «ليون غولدستون»، الذي حاوره في أثناء محاكمته: «لقد كان دائمًا النقيض مني. لم يهتم بالسياسة أو العسكرية، وكنت أنا مهتمًّا. كان هادئًا وقاطعًا، وأحببت أنا التجمعات والصحبة. كان حزينًا ومتشائمًا، وكنت أنا متفائلًا. لكن ألبرت ليس سيئًا»، وهي الحقيقة التي عرفها العالم بعد سنوات طوال: ألبرت لم يكن سيئًا، بل كان حظه هو السيئ حين حمل اسم غورينغ.