بريق ما يمكن أن يكون: حنة آرندت و«الحب والقديس أوغسطين»

«حنة آرندت» - الصورة: Getty/ Fred Stein Archive

إسماعيل فايد
نشر في 2018/03/08

2013

كنت في زيارة لصديقة عزيزة في بروكسل، وكان ذلك في مرحلة أحاول فيها إيجاد مساحة لمعرفة أو إدراك ماذا يجب عليّ فعله في ظل حالة من المساءلة والحس العام بضرورة تحديد موقف أو التعبير عنه أو حتى اكتشاف تعبير أصدق عن النفس وعلاقتنا بالآخرين بعد عامين من الثورة.

كانت صديقتي هي الأخرى قد مرت بتجربة انتقالية من ناقدة ودرامتورج للرقص المعاصر إلى مخرجة ومؤدية تستخدم الصوت كمادة للتعبير بشكل أساسي (كتبت ذات مرة تشرح لي إدراكها أنها دائمًا ما تتردد الأفكار في مخليتها من دون أن تتخذ شكلًا حيويًّا مثل الكلام أو حتى الصوت، وقررت تغيير ذلك الوضع بالبدء في الإخراج والأداء).

في بروكسل دائمًا ما أشعر بمزيج غريب من الألفة بوجود جالية عربية حية ومرئية تمامًا (لا أكاد أتحدث إلا العربية في الحيز العام لتلك المدينة) وشعور آخر بتمازج عجيب للزمن، وكأنها مدينة اصطدمت مع الحداثة بشكل مفاجئ وغير متناسق، فبها جيوب باقية من القرون الوسطى مع مبان ما بعد حداثية من الزجاج والصلب، ومقرات الاتحاد الأوروبي وبيروقراطيته، فيصبح شعور الحنين إلى الماضي مع الاغتراب عن الحاضر المجرد سمة لصيقة بالمدينة.

أغنية «عن العشاق»

«أنا العربي الآتي من ثقافة تغنّت بالحب وتركزت مخيلتها الشعرية والرمزية على الحب».

في أثناء زيارتي دعتنا صديقة أخرى إلى العشاء، وهي أيضًا مؤدية ومخرجة، وتطرق الحديث إلى قدرتي على «قراءة» أوراق التاروت كأداة لسبر أغوار النفس (كما يقول يونغ)، وليس بالضرورة لـ«كشف الغيب».

بالفعل أتت صديقتي بحفنة من الأوراق  وخلطتها، ثم أعطتها لي، فسألتها: ماذا يدور في خلدك؟ فقالت: إني أسأل عن الحب.

حاولت قدر استطاعتي أن أجيبها من خلال ما كشفته لي الأوراق، وأن أكون حيادي، وأصف تلك الرمزية بشكل عقلاني-اجتماعي، ولكن صديقتي ظلت غير مقتنعة بإجابتي، وقالت فلننس الأوراق، أريد أن أعرف ماذا يعني الحب لك، أو بالأحرى ما يكشفه الحب لك عن نفسك والآخرين.

أثار سؤالها دهشتي لعلمي أنها لم تكن تسألني بغرض النميمة أو التسلية، ولكن لإيمانها الشديد بأن الحب محور أساسي في تفسير علاقتنا بالآخرين وتحديدها (لعلها تخلط ما هو شخصي بما هو عام بشكل متعمد)، وعجزت عن إجابتها، فلا أدري ماذا يمكن أن أقوله عما يكشفه الحب لي أو عن نفسي أو الآخرين.

لم أر الثورة محاولة لتقديم فكرة «الحب» كمحور لإعادة تخيل فكرة الاجتماع والمجتمع الذي نطمح أن نعيش فيه. وبشكل شخصي كشف لي الحب حقائق جلها أليم وثقيل على النفس (استحالة الحب في مجتمع مثل مجتمعنا، أو استحالة وجود مثل ذلك الشخص الذي يحتوينا بين الجدران الأربعة، كما تقول حنة آرندت).

سكت وعجزت عن الرد، وشعرت صديقتي بمزيج من الشفقة والصدمة: أنا العربي الآتي من ثقافة تغنّت بالحب وتركزت مخيلتها الشعرية والرمزية على الحب، لم يكن عندي أي رد أو إجابة شافية.

1924

جاءت حنة آرندت إلى ماربورغ لدراسة الفلسفة، وانضمت إلى محاضرات المدرس الشاب الذي لفت الأنظار إليه بشخصيته المختلفة وحضوره القوي في ذلك الوقت، «مارتن هايدغر» الذي قيل عنه إنه قرأ الفلسفة الإغريقية كما لم تُقرأ من قبل (وربما لن تقرأ مثل ما قرأها هو كما قالت آرندت لاحقًا).

وعلى مدار محاضرات عن رسالة السوفسطائي لأفلاطون وقعت آرندت في غرام هايدغر وبادلها نفس الشعور، وبعد أن دعاها إلى مكتبه ذات مرة أرسل إليها رسالة: «عزيزتي الآنسة آرندت، أريد أن أراكِ هذه الليلة لكي أتحدث إلى قلبك».

كان هايدغر في الـ35 من عمره زوجًا وأبًا لولدين، وكانت آرندت في الـ18 من عمرها، يهودية من أسرة علمانية غير متدينة. ولفتت نظر هايدغر تلك الفتاة شديدة الذكاء والفصاحة مع قدر لا بأس به من الشعرية (كانت آرندت تقول إنها تحفظ الكثير من الشعر الإغريقي، وأغلب الشعر الألماني عن ظهر قلب). وكانت تلك الشعرية هي التي جذبت كلا منهما إلى الآخر.

كان هايدغر يرى الفلسفة حادت عن طريق الاكتشاف والإدراك لأنها أخضعت التفكير لاعتبارات منطقية أو ميتافيزيقية، في حين أن الفلسفة الغربية في بدايتها، ما قبل سقراط، اعتمدت التدبر في الطبيعة كوسيلتها الأولية والأساسية لمحاولة فهم العالم والوجود دون تطوير نظريات شكلية، ولذلك اعتبرها هايدغر أقرب ما يكون إلى «الوجود الحق»، وأقرب ما يكون إلى الحالة التي يخلقها الشعر.

كتب هايدغر ذات مرة لـ«آرندت» بعد أن وقفا تحت المطر لبرهة من الوقت: «إنكِ أكثر جمالًا وروعة هكذا. كم أتمنى أن نهيم معًا هكذا ليالي دون نهاية».

2005

في مرحلة الملل والشعور باللاجدوى، تصبح الرغبة في التواصل مع من يعرفنا أو يدّعي أنه يفهم خبايا أنفسنا رغبة ملحة، وفي بعض الأحيان نوعًا من الهوس.

بعد التخرج كنت أعمل باحثًا مساعدًا براتب هزيل ونظرة بائسة إلى المستقبل (مصير كل من يدرس العلوم الاجتماعية أو الإنسانيات في ظل سياق الرأسمالية المتأخرة وتهميش المعرفة)، كنت قد تخرجت وحصلت على البكالوريوس، ولم أكن أدري ماذا يمكن أن أفعله في ظل طبيعة سوق العمل حينها. لم أجرؤ بالتفكير في أنني أريد أن أكتب عن الفن والتاريخ والأدب، أقرأ وأكتب بالفعل، ولكن بشكل طفولي وشخصي، وكانت فكرة الكتابة بشكل «احترافي» أو مهني بعيدة تمامًا في ظل سياق عائلي تقليدي ومحافظ نوعًا ما.

ولكن لم تكن الكتابة كفعل للإدراك أو الفهم بعيدة على الإطلاق. فكنت أكتب «رسائل» طويلة إلى الأصدقاء، وأتخيل أني أجمع شتات نفسي مثلما فعلت «وولف» أو «إليوت» أو «برونتي» كما كنّ يكتبن في مساحات خاصة وشخصية. بل حاولت الخروج من تلك المساحة الشخصية، فبدأت في كتابة مدونة (نعم، في فترة العصر الذهبي للمدونات)، ولم أكن أعرف الكتابة خارج هذا الإطار الشخصي-الخاص، كنت أسعد بالكتابة، ولكنها ظلت حبيسة داخل أفق معدوم، ومحاطة بكثير من الشك وعدم التمرس.

وفي نفس العام، في عشوائية الفراغ الافتراضي، أرسلت رسالة إلى حبيب سابق. كانت أخباره قد انقطعت منذ فترة، وترددت شائعات عدة حول اختفائه وابتعاده عن أوساطنا. ففي مرحلة الملل والشعور باللاجدوى تصبح الرغبة في التواصل مع من يعرفنا أو يدّعي أنه يفهم خبايا أنفسنا رغبة ملحة، وفي بعض الأحيان نوعًا من الهوس.

بعثت برسالة قصيرة إليه، وكنت أعلم أنه لن يرد، ولكني فعلت ذلك على أي حال كمحاولة للتماهي مع فكرة التمرد، أو كسر توقعات غيري (فلم تنته علاقتنا بشكل يسمح باستمرار الصداقة أو حتى المحافظة على التواصل التقليدي من باب الشكليات الاجتماعية). وكعادته خالف توقعاتي ورد برسالة، ثم تناوبنا كتابة رسائل قصيرة، مقتضبة، ملغزة، رفض أن يشرح لماذا وأين اختفى، حتى اتفقنا على أن نتقابل ويكشف لي «الحقيقة».

أغنية «Constant Craving» للانج

لا يمكنني أن أنكر أني أصبت بحالات متفاوتة من الإثارة والتطلع والقلق والأمل تجاه «كشف الحقيقة» هذا. وبقدر ما شعرت بالسذاجة والغباء، لكن ظللت أتخيل عددًا لانهائيًّا من السيناريوهات التي قد تجمعنا مرة أخرى، وفي كل مرة أنتشي من احتمال فكرة التلاقي، وأجزع من فكرة الفراق الحتمي، بالتناوب، حتى ظننت أن ذلك التضاد هو عين الذهان.

لم يكن «كشف الحقيقة» كما توقعت، ولم تكن الحقيقة مثيرة، أو حتى مسلية في فحواها. كانت نتيجة متوقعة من فتى برجوازي مدلل أصابته لوثة أسلمة الطبقات المتوسطة العليا في بدايات الألفينات. شيء يدعو إلى التثاؤب أكثر من التأمل.

لم تهتز مشاعري عندما وصف حالة السلام النفسي التي شعر بها عندما وجد «الطريق إلى الله»، لم أفرح بأنه تخلى عن عبثيته وعدميته البرجوازية وشرهه البوهيمي الذي طالما أثار حفيظتي وفضولي (فمن منا لم تبهره استهلاكية البرجوازية الشرهة؟)، ولم أمدح حصافة منطقه ورشده الذي توصل إليه مؤخرًا. على العكس من ذلك، احتقرت سذاجته وسقوطه في فخ الهوية وتسطيح الدين وفقر موجات تدين الطبقات المتوسطة بمختلف شرائحها الاجتماعية.

قلت له لطالما كنتَ متفردًا، أنانيًّا، ولكنك على الأقل كنت تعرف كيف يمكن أن يمضي الفرد بعضًا من الوقت في حالات شتى من المتعة، فاستقطاب اللذة له مزاياه على الأقل. ماذا تبقى منك الآن؟

قررت أن أكتب رسالة طويلة عن كل تلك الاحتمالات والحالات والإحالات التي يهدينا إليها الحب. وعكفت على هذا أسابيع طويلة، كأنني لن أستطيع أن أكتب أو أقرأ مرة ثانية.

هاله أني لم أسجد لله شكرًا لأنه عرف الصراط المستقيم، وقرر الرد بما كان يفعله دائمًا: التلاعب بشعوري الدائم بعدم الثقة، وقلقي الوجودي الدائم من مستقبل أي علاقة في ظل سياق مثل سياقنا الكئيب. وبالفعل شعرت لفترة قصيرة ببعض التردد لأنني حاولت أن أطعن في مصداقية تجربته الروحية. ولكن سرعان ما أصابني الغثيان من ذلك التدين الذي أبدل نموذجًا استهلاكيًّا بغيره: بدلًا من الملذات البوهيمية، أصبحت أعمال الخيرية و«الدعوة»، وبدلًا من نموذج محافظ ذكوري أبوي، كان آخر أشد أبوية ومعادٍ بشكل أكثر فجاجة للتقدمية والحرية.

قررت أني أريد، ولمرة أخيرة، أن أريه أن نموذج التدين الذي فرضته موجات الأسلمة على مصر منذ السبعينيات، نموذج فقير، تعيس، يصيب أي محاولة للتفكير في مقتل. فماذا يعرف الإسلاميون غير التسلط الأخلاقي، وشكلًا شديد السطحية لمفهوم طقسي-شمولي للدين؟

وقررت أن أكتب رسالة طويلة عن كل تلك الاحتمالات والحالات والإحالات التي يهدينا إليها الحب. وبدأت في الكتابة، كل ما خطر ببالي من أفكار وصور ومعان عن كل المشاهدات التي مررنا بها معًا، طفقت أجمع كل الموسيقى والشعر والأدب الذي يمكن أن أجمعه، وأن أكتب مقتطفات منه على أوراق صغيرة، مرقمة، تحت عناوين مختلفة، «الشوق»، «النسيان»، «الملتقى»، إلخ. وعكفت على هذا أسابيع طويلة، وحولت غرفة السفرة في منزل أهلي إلى صومعة بعشرات الكتب والدواوين، ملقاة هنا وهناك، أجمعها بهوس شديد وكأنني لن أستطيع أن أكتب أو أقرأ مرة ثانية.

وفي مزيج من محاولة تدوين ذلك التاريخ واستنطاقه لتلك الشعرية، أنهيت مشروعي بالكتابة عن ما فهمته وعرفته عن الحب حتى هذه اللحظة، وأدرك الآن أني كنت أحاول أن أثبت أنه يمكن للحب أن يُصدر ويخلق حالة من ذلك الوله والافتتان بكل هو ملهم وجميل، يعيد تشكيل علاقتنا بما حولنا حتى في ظل سياق لا يعترف بهذا الحب ولا يراه ولا يرضى أن يراه أو أن يقبله. كنت أعلم أني أريد أن أثبت لنفسي قبل أن أثبت له أنني على قناعة تامة بأن كل هذا الجمال، كل هذا العرفان، ليست نتيجة لخواطر خاطئة أو ملتبسة أو «ضالة» كما كان يحلو له أن يقول.

أم كلثوم تغني «هجرتك»

لكني نسيت ما كتبت، أو لم أعد أتذكر ما كُتِبَ، وما الذي كنت أحاول أن أقنعه به. كل ما أتذكره أنه قال لي بعد ذلك إنه لا يصح له أن يسمح لنفسه بأن يتأثر بأفكاري ومشاعري لأنه متزوج ولديه مسؤولية أخلاقية لا يمكن تجاهلها، ودعا لي بالهداية.

قد يهمك أيضًا: الحب غير المشروط: موجود فعلًا أم خرافة؟

401

وصل أوغسطين إلى روما عام 383 ميلادية في سعيه لإيجاد فرص أفضل للتدريس، وبالفعل عُيّن أستاذًا للبلاغة في ميلان، وهناك في محاولة لتحسين وضعه الاجتماعي، وتحت تأثير أمه القديسة مونيكا اضطر أوغسطين إلى أن ينهي علاقته بأم ابنه الوحيد التي لا نعرف اسمها حتى الآن، ولكن نعرف أنها كانت جارية أوغسطين وعشيقته، وظلت معه 13 عامًا، وعُرِفَت بكنية «السيدة المجهولة من شمال إفريقيا».

كانت أمه ترى أن تلك العلاقة خارج إطار الزواج مع شخص من طبقة اجتماعية غير مناسبة، يحول دون ترقي أوغسطين الاجتماعي، ويقلل من فرص معرفة طريقه إلى الإيمان الصحيح.

من المفارقة العجيبة أن يحاول أوغسطين أن يجعل مفهوم «الحب» متجذرًا في العقيدة المسيحية كما يراها هو، وفي نفس الوقت لا يذكر حبيبته إلا في بضعة أسطر ضمن مئات الرسائل والأعمال التي خلّفها (لسبب ما مجهول حُفِظَت جميع أعمال أوغسطين بشكل جيد. يجمع معظم المؤرخين والباحثين على أن أغلب أعماله الموجودة سليمة، كما أنها حقًّا من تأليفه).

هل كانت تلك التجربة هي المرجعية لفكرة «التشوق إلى ما هو فانٍ»؟ وهل كان إنهاء تلك العلاقة بداية تأصيل أوغسطين بأن كل شوق يسعى في أصله إلى التوحد مع المحبوب، وبما أن العالم المادي زائل، فيظل موضوع الحب بعيدًا عن سعادة الوصال الدائم؟

استقال أوغسطين من منصبه، وقبل عودته مع أمه إلى مسقط رأسه، طاغاست (سوق أهراس في الجزائر)، تحققت رؤية القديسة مونيكا (عندما بكت للقديس أمبروز في ميلان، فقال لها: «لن يهلك ابن تلك الدموع»). وفي مشهد يشبه معاناة المسيح في بستان جثسيماني يقرر أوغسطين التحول إلى المسيحية بعد تأمله في حديقة في ميلان، وسماعه صوت طفل صغير يقول له: «خذه واقرأ»، ويفتح أوغسطين الكتاب المقدس على «رسالة إلى أهل رومية»، 13:13-14 «لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ: لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ، لاَ بِالْمَضَاجعِ وَالْعَهَرِ، لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. 14 بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ».

وبالفعل عمّده القديس أمبروز في ميلان. وتتحقق نبوءة القديسة مونيكا لتموت بعدها بأشهر قليلة، وتُدفَن في شمال إيطاليا، ويرجع أوغسطين إلى طاغاست، وينشغل بتربية ابنه الوحيد إلى أن توفي ابنه، ويتم ترسيمه أسقف هيبو (أو عِنّابة كما تعرف اليوم) في 395، ليبدأ، على إثر تلك التجربة، كتابة أحد أهم أعماله «الاعترافات» الذي يعد أول سيرة ذاتية في التاريخ الغربي. أو محاولة رسم مسار مسيحي لحياة «النفس» منذ الولادة في عالم مادي تتحكم فيه الحواس، وحتى تتحول إلى خالقها ليتحقق الخلود في حقيقة الإيمان.

2016

لأنني لم أنصع لقيم الطبقة المتوسطة حول السلوك الاجتماعي المقبول أو المتوقع، أثار رد فعلي غضب أسرتي بأكملها.

توفي والدي في 14 إبريل، خارت قوى جهازه التنفسي، واستسملت رئتاه بعد ثلاث سنوات من الهزائم، وثمانية أيام قبل عيد ميلاده الـ67. كان مدخنًا شرهًا حتى ثمانية أعوام قبل وفاته، ورغم أنه كان طبيبًا، فإنه اتّبع أسلوب حياة «غير صحي» على الإطلاق، ولم ينسَ جسده ما فعله.

ولم أنسَ أنا مدى اضطراب علاقتي به. فكان قد قرر أن ينزوي عن العالم بكل ما فيه من كَبَد وعناء، والبقاء في غرفته سنين طويلة مثل أهل الكهف. وبالرغم من أن ذلك الصراع مع العالم، والذي خسر فيه والدي ذاته، كان صراعًا غير متكافئ وظالمًا (توفي والده وهو في الـ18، حرموه من درجة الدكتوراه خمس سنوات دون مبرر، اضطر إلى الرجوع إلى مصر رغم عمله في الخليج في وظيفة كان يحبها، إلخ)، فإنني لم أنسَ فقط، ولكني لم أسامحه على ذلك الانزواء والفراغ الذي خلفه.

وفي فترة مرضه لاح في الأفق سؤال: ما هو رد الفعل الطبيعي عند مرض من يفترض بنا أن نحبهم؟ وإذا كانت تلك العلاقة تخلو تمامًا من مفهوم «الحب»، ماذا يتبقى؟

ولأنني لم أنصع لقيم الطبقة المتوسطة حول السلوك الاجتماعي المقبول أو المتوقع، أثار رد فعلي غضب أسرتي بأكملها. كنت أصر على أن «الِبرّ» سابق على الحب، وأن الله وحده من يستطيع أن يتذكر ويعفو، أما البشر، فهم مبتلون بذاكرة تتشكل وتتلون بمعاملاتهم مع بعضهم، وهم مبتلون بتلك الرغبة الأبدية في رؤية ذواتهم عندما تتقابل مع الآخرين (ربما تكون هذا معنى آية «لتعارفوا»؟)، وكل ما تبقى في ذاكرتي هو ذلك الاختفاء أو الصمت الذي خيم على عقود من وجودنا، أنا ووالدي، في نفس الحيز المكاني.

استمر الصمت حتى عندما أصاب المرض والدي وكشف عن مدى هشاشة أجسادنا عندما تتهاوى، فتصبح شيئًا عاجزًا، مسكينًا، وصارت عملياته الحيوية اللحظية بكل تفاصيلها المعقدة هي كل ما نراه وكل ما يشغلنا، فلا نرى شخصًا، ولكن مئات الاحتمالات لفشل جسد عليل.

أغنية «زعلي طوِّل» لفيروز

حاولت ممارسة نوع من التحايل حول ذلك الصمت، وتلك المسافة التي حيدت قدرًا لا بأس به من المشاعر المضطربة، وقررت أن شعوري بالأسف لمرض شخص ما لا يعني بالضرورة اعترافي بأنني قد نسيت أو تجاوزت أخطاءه. نجحت في رؤيته عدة مرات قبل وفاته، ولكن في كل مرة كانت نفس المناظرات تحدث في مخيلتي، فأقنع نفسي بأنني لم أرضخ لضغط قيم ظالمة أو أتهاون في الآم الصمت والتجاهل.

وظللت أكرر لنفسي أن العفو لا يعني على الإطلاق إخلاء مسؤولية شخص ما من أفعاله، ولكن العكس تمامًا، العفو هو الاعتراف بخطيئة الشخص، وإيماننا جميعًا بأن ذلك الشخص من الممكن أن يكون واحدًا منا، أن خطيئته لا تُعرِّفه، وأننا نعترف بأنه من الممكن أن يدرك قدرته على عمل الصواب. أو على الأقل، فإن تلك الرغبة لعمل الصواب وما هو حق هي موضوع العفو، وليس التهاون في الخطأ أو تناسيه.

2018

أتحمس بشدة لقراءة رسالة الدكتوراه الخاصة بحنة آرندت، ويكاد شغفي يطغى على أي اعتبار آخر: الحقائق التاريخية، كتابات آرندت الأخرى، التناول الموضوعي للرسالة، إلخ.

تبدأ مخيلتي بنسج أساطير وأساطير عن لماذا كتبت ما كتبت، وكيف كان هذا مرتبطًا بعلاقتها بمارتن هايدغر. أنسج سردية خاصة بي، ومن خلالها أتصور أن آرندت بعد علاقاتها بهايدغر وإدراكها أنها لن تتمكن أبدًا من احتلال حيز التلميذة النجيبة، الذكية والمرغوبة، ولكن «الدخيلة»، فقررت أن تكتب رسالتها عن مفهوم الحب عند القديس أوغسطين، عماد اللاهوت المسيحي، وأحد مصادر هايدغر لفهم فكرة المستقبل ومصير الإنسان في عالم من صنعه، وكأنها تتبارى مع معلمها، وفي بعض المواضع تكسبه.

ولكن هذا إسقاط لخواطري عن علاقة آرندت بهايدغر، فأنا لم أعلم تاريخيًّا ما حدث في 1927 عندما بدأت آرندت في كتابة رسالتها، ما نعلمه أن رسالتها كانت تهدف إلى قراءة أهم من نظر للاهوت المسيحي من موضع «سابق للاهوت» كما شرحت هي. فحنة كانت تدرك بشكل واضح أنها لا تريد أن «تكتب» عن أوغسطين بشكل لاهوتي. فلماذا أوغسطين؟ ولماذا الحب؟

لم تكتب آرندت عن أوغسطين بعد رسالتها، ويكاد ينعدم ذكر بحثها الطويل والمفصل في أعمال أوغسطين من كتاباتها التالية، إلا باستثناءات قليلة. وفي تلك المرة التي قررت فيها نشر رسالتها ترجمتها بطريقة رديئة، بحسب تلاميذها، ولم تنشرها حتى وفاتها، إلى أن نشرها تلاميذها في 1995. ولكن دون أدنى شك هناك إشارات في نص حنة تفصح عن اهتماماتها التالية، وما حاولت الكتابة عنه برؤى وتحليلات مختلفة: الآخر وما يدفعنا إلى علاقتنا به.

قد يهمك أيضًا: ربما لم نُخلق لنحب مرة واحدة فقط

2016

«رغم علمي بالرحلة، وإلى أين ستقودني، فإنني أتقبلها، وأتوق إلى كل لحظة فيها». «لويز بانكس» (إيمي أدامز) في فيلم «Arrival».

لعبت إيمي في الفيلم واحدًا من أهم أدوارها، تفك شفرة لغة مجمعة من كائنات الفضائية «تصل» في بداية الفيلم لتكتشف أن لغتهم ليس بها تحديد للزمن، فلا يوجد مسار للوقت يمشي فيه بشكل خطي من بدايته إلى نهايته، ويصبح التمكن من التحدث بلغة تلك الكائنات بمثابة القدرة على إعادة تشكيل وعي الفرد لتجاوز خطية الزمن (في معالجة درامية لافتراضية سابر-وروف اللغوية).

«اللغة هي أول ما ينقذنا من وحشة الوجود». أوغسطين، «الاعترافات».

ورغم روعة مثل هذا الاكتشاف وتنامي وعي أي شخص بشكل يتجاوز الزمن، تدرك لويز أنها ستنجب بنتًا، وأن ابنتها ستصاب بمرض عضال وتموت. وفي لحظة «أوغسطينية» تقول لويز إنها بالفعل اختارت إنجاب ابنتها رغم علمها بحتمية وفاتها، لأن سعادتها بوجودها، ولو لفترة من الوقت، تتجاوز أي ألم أصابها عند وفاتها.

1940

«أستطيع أن أعيش فقط في الحب. ولذلك كنت خائفة جدًّا من أن أضيع ببساطة، فجعلت نفسي مستقلة. أما عن حب الآخرين الذين نعتوني بقسوة القلب، فلطالما كنت أفكر: لو تعلمون كم من الممكن أن يكون الحب خطيرًا لمثلي. وقابلتك بعد ذلك، وفجأة أصبحت غير خائفة. لا يزال الأمر مدهشًا بالنسبة إليّ أنني أستطيع أن أحوز كلا الأمرين: حب حياتي وتوحدي مع ذاتي. ولكن أنا حصلت على أحدهما فقط عندما حصلت على الآخر. وفي النهاية عرفت أيضًا ما هي السعادة». حنة آرندت لزوجها «هانيرش بلوش».

2018

جميع البشر يشتركون في نفس قصة الخلق أو الأصل، الخلق من عدم، ويصبح كل واحد منهم هو «البداية»، أو بدء العالم مرة أخرى.

رسالة آرندت عن أوغسطين بها الكثير عن «المحبة» (أو Caritas «كاريتاس»، وهو الأصل اللاتيني لكلمة «Charity»، أو «Charite» بمعنى عمل خيري، في تطور أقرب إلى المعنى المسيحي وأبعد عن المعنى اللغوي المباشر)، وقليل عن الحب.

فبينما حاول أوغسطين إبداع بناء أخلاقي مسيحي مبني على فكرة الحب، فإنه كمرحلة وسيطة بين فلسفة العالم القديم وصعود الفكر المسيحي كان متأثرًا بالأفلاطونية الحديثة وروافدها، ووجد أن فكرة «العلم» أو «المعرفة» لا تقود إلى السعادة الكاملة كما بشّر الأفلاطونيون والرواقيون، لأننا مخلوقات من عدم، ولذلك، فهي لا تستطيع إدراك وجود الله من خلال «العلم» أو «المعرفة» لتترقى في معرفتها كما حاول أن يُنظر لهؤلاء الأفلاطونيين.

ومن خلال قراءة انتقائية وغير تقليدية لأوغسطين تحاول آرندت أن تشكل أفكاره هذه كإطار مفاهيمي يمكن استخدامه لفهم نشأة الإنسان وانخراطه في هذا العالم، ولكن عن طريق «المحبة».

ولتحقيق ذلك تتبع آرندت ثلاث مسارات في كتابات أوغسطين عن النفس البشرية:

  1. «الخلق من العدم»، أو النشأة المشتركة وفكرة «البداية» 
  2. «حب الجار/الآخر»، وذلك من خلال الموعظة العظيمة، و«تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، ومِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». (إنجيل لوقا 27:10).
  3. مسار المحبة، أو «كاريتاس»، والمحرك الذي يحرك النفس البشرية نحو العودة إلى الأصل: الخلود

يقول أوغسطين إن الإنسان خُلق من عدم، فهو ليس تجليًا لإحدى إشراقات الوجود الأوحد (مصطلح استخدمه الأفلاطونيون لتعريف الوجود الكامل. ولقراء العربية، فإن له أصداءً في كتابات الصوفية بشكل كبير). ولأن الإنسان خُلِقَ من عدم، فلم يكن هناك شيء قبله ليصبح خلق الإنسان هو «البداية»، ويصبح الخلق والقدرة على بدء شيء صفة لصيقة بالإنسان، وتصبح تلك اللحظة هي لحظة الخلود الذي لم يكن، والخلود الذي يمكن أن يكون (بحتمية موت الإنسان)، وما بينهما هو الحاضر الأبدي الذي يسعى الإنسان فيه، من خلال ذاكرته، إلى إدراك ما لم يكن، والشوق، وتصور ما يمكن أن يكون، إلى خلق عالمه الفاني ليصل إلى الخلود.

جميع البشر مشتركون في نفس قصة الخلق أو الأصل، الخلق من عدم، ويصبح كل واحد منهم هو «البداية»، أو بدء العالم مرة أخرى. ويصبحون، بشكل جمعي، مجبورين على الفناء في حالة الشوق الأبدي إلى العودة لذلك الأصل، لحظة تجاوز ذلك الفناء.

وبخلاف الفلسفة القديمة يعيد أوغسطين صياغة فكرة حب الآخر من خلال الموعظة العظيمة لندرك بذلك أننا متساوون في النشأة، وفي الخاتمة، وفي ذلك نتساوى عند الله. وعند إدراكنا ذلك نصبح جديرين بذلك الحب، ويصبح ذلك النقص البشري الذي طالما يسعى إلى ما هو كامل، هو محركنا في اتجاه المحبة الحقة، أي محبة الله، من خلال العالم البشري الذي نصنعه، وهنا تضيف آرندت: من خلال «محبتنا» للآخرين.

الحاضر اللامتناهي، أو: ما يمكن أن يكون

وعينا بأننا أسارى ذلك العالم الفاني، ننتظر لطف الرب، ونتذكر التصورات المثالية عن السعادة، ونتحرك نحو ما نحب، يتطلب العرفان لتلك الحياة وذلك الوجود.

ظلت فكرة الذاكرة التي استاعرتها آرندت من أوغسطين كمسار فكري يعاود الظهور مرة بعد الأخرى في كتاباتها. إن الإنسان يستطيع أن يتذكر ما كان، وما حدث، وأن يتوقع أو يتطلع إلى المستقبل الذي لم يحدث بعد، كتلك المساحة التي يستطيع فيها الإنسان تحقيق إرادته.

أطلقت آرندت عبارة ذلك المسار اللازمني بين مسارات الزمن العادي. ففي قراءتها لأوغسطين رأت حنة أن تتجاوز محدودية مصطلحات أستاذها وحبيبها السابق هايدغر، في تعريف الوجود كذلك الشيء المحاط بالموت على جانبيه، وأرادت أن تنقذ «الوجود» من ذلك العدم الذي أحاده به هايدغر لتقول إن الحب أو الرغبة ما هما إلا ذلك السعي الدائم نحو المستقبل الذي لم يكن، في حالة متواصلة من التطلع لتلك الإمكانية أو الحصول على موضوع تلك الرغبة أو ذلك الحب، وفي ذلك السعي يتساوى الجميع.

تذكرنا آرندت بفكرة «المجتمع»، فيشترك الجميع في «أحقيتهم» بالحب، ويصبح ذلك السعي نحو موضوع الحب (بعيدًا عن تنظيرات أوغسطين اللاهوتية) هو القاسم المشترك الذي ترى آرندت أنه ينقذنا من فردانية الخوف من الموت أو عدمية إدراكه.

وعينا بأننا جميعًا أسارى ذلك العالم الفاني، ننتظر لطف الرب، ونتذكر كل تلك التصورات المثالية عن السعادة ونتحرك نحو ما نحب، يتطلب العرفان لتلك الحياة وذلك الوجود، وحتى إن كان يتخلله كثير من الأسى والكرب، فالحاضر دائمًا ما يتلألأ ببريق ما يمكن أن يكون.

مواضيع مشابهة