أن يتذمر طالب من الذهاب إلى مدرسته فهذا أمر وارد، أما أن يحرض زملاءه على مقاطعة المدرسة فهنا يكون قد دخل في المحظور. لكن ثمة طريقة لترفض الحضور وتحرض على الغياب، ثم تترشح لجائزة نوبل.
من طالبة إلى بطلة الكوكب
«غريتا تونبرغ»، طالبة سويدية عمرها 15 عامًا. لكنها بدلًا من أن تذهب إلى المدرسة، قررت ذات صباح أن تقف أمام البرلمان السويدي احتجاجًا على تهاون بلادها في التعامل مع قضية المناخ، التي تزداد سوءًا مع كل لحظة تمر على هذا الكوكب.
قلق غريتا حول سلامة الأرض دفعها إلى التحرك خارج أسوار المدرسة، إذ ارتأت أن جلوسها اليومي داخل الفصل لن يساعدها في خطة إنقاذ كوكبها، وتلقيها للدروس من قِبل معلميها لن يحل أزمة الاحترار العالمي، وحفظها لبعض المعلومات من أجل الاختبار لن يقلل نسبة الانقراض اليومي لفصائل الحيوانات والأسماك والحشرات، فضلًا عن الكوارث الطبيعية والوفيات البشرية وانحسار الموارد الغذائية التي تتسبب فيها الانبعاثات الكربونية المرتفعة.
وعليه، فقد اتخذت غريتا قرارها الفردي بالغياب عن المدرسة، والتوجه إلى حيث يجتمع السياسيون وأصحاب القرار والسلطة، لتقف أمامهم وحيدة صامتة، لا يرافقها إلا ورق مقوى كتبت عليه بخط اليد: «إضراب مدرسي من أجل المناخ».
كيف تتعامل المدرسة مع إضراب الطلاب؟
يبدو أن النظام التعليمي قد صُمم بطريقة تمنعك من الخروج عن إطاره، حتى لو كنت في مهمة عاجلة في سبيل إنقاذ كوكب الأرض مثلًا. أو أقلها، لن يسهل عليك غيابك يومًا، ولو بحجة تخليص البشرية من بعض الشرور.
رغم كل ذلك، خالفت غريتا رغبة المحيطين بها، بما فيهم والديها في البداية، عازمة على مواصلة مهمة الإنقاذ مهما كانت الأضرار الشخصية التي ستلحق بها دراسيًا إن استمرت في ذلك الطريق، مما اضطرها في النهاية إلى إيقاف قيدها المدرسي حتى إشعار آخر.
لم تكن ردود الأفعال مشجعة بالضرورة إزاء انقطاع غريتا عن مدرستها، فالمعلمون طلبوا منها أن تتوقف عن الإضراب وتعود إلى مقاعد الدراسة، وبعض أقرانها الطلاب آثروا الالتزام بالحضور المدرسي اليومي وعدم تلبية دعوتها إلى الاعتصام، خوفًا من تهديدات أطلقها قياديون في السلك التعليمي مفادها أن غياب الطالب عن المدرسة، ولو من أجل المناخ، سيكلفه عقوبات قانونية وتأديبية تطول كذلك معلمه الذي سمح له.
أما غريتا فقد اعتادت تلقي الإهانات وكلمات السخرية من المارة على مدار أيام الإضراب، مع بعض الصراخ الموجه إليها من هنا وهناك بأن تعود إلى المدرسة، حالًا.
تلقت ذات مرة تعليقًا يخفي تهديدًا مبطنًا بالقتل من أحد المعلمين، الذي كتب ردًا على دعوتها لحضور إضراب مدرسي: «لو كنت أملك بندقية قنص..».
هل نجحت غريتا في إنقاذ العالم؟
بعد عام واحد من إضراب الفتاة السويدية ابنة الصف التاسع، ماذا استطاعت أن تفعل بعيدًا عن مقاعد الدراسة؟
قادت غريتا تونبرغ أضخم إضراب مناخي مسجل عبر التاريخ، إذ تُقدر أعداد المعتصمين معها بأربعة ملايين شخص من 161 دولة. وقد اختارتها مجلة التايم ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة على مستوى العالم، ثم أطَّرت صورتها موضوعًا لغلاف المجلة باعتبارها شخصية عام 2019. وعندما رُشح اسمها لجائزة نوبل، صارت أصغر مرشحة لهذه الجائزة على الإطلاق.
على إثر ذلك النشاط البيئي، استضيفت الفتاة كمتحدثة رئيسية في مقر الأمم المتحدة أمام قادة دول العالم، حيث ألقت خطابًا قويًا وبَّخت فيه الزعماء الجالسين أمامها، واتهمتهم بالتخاذل عن دورهم في رسم خطة شاملة وطارئة لتصفير نسب الانبعاثات الكربونية.
هنا ذاعت لها صورة أيقونية تداولها الناس بشكل واسع، حين التقطتها العدسات وهي ترمق بنظرتها الحادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تراجع عن جميع الالتزامات التي وقعتها بلاده بشأن المناخ.
هناك الكثير من الاستحقاقات التي كسبتها غريتا خلال عام واحد فقط من الإضراب المدرسي، ولعل أكثرها مفارقة حصولها على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بلجيكية في ذات الفترة التي توقفت فيها عن الدراسة.
في مسألة النجاة، الأمور غير قابلة للنقاش
كطالب، ماذا تفعل حين تبدأ بتوعية مجتمعك حول انهيار وشيك لنظامهم البيئي، وأزمة مناخية تنذر بنكبة على مستوى أمنهم الغذائي، وموجة انقراض جماعي تهدد مستقبلهم البشري، ثم تسمع منهم ردًا مبرمجًا بشكل آلي: «ولكنك لست في المدرسة»؟
تخيل، حين تخرج لإطفاء غابة تشتعل ويتمدد حريقها كل يوم، والناس منشغلة عنها بالسؤال عنك: «لماذا لست في المدرسة؟».
أسئلة غريتا حول النظام التعليمي
حول ذلك وقُبَيله، تفتقت أسئلة غريتا عن جدوى النظام التعليمي التقليدي المعمول به، إذ كان صارمًا بما فيه الكفاية ليشكل عائقًا يشل حركتها ويكبل نشاطها في المبادرة التي تقودها لإنقاذ الكوكب.
تتساءل غريتا:
«يطلبون مني أن أرجع إلى الدراسة كي أصبح عالمة مناخ وأقدم حلًا للمشكلة، لكن الحلول موجودة، ما ينقصنا فقط هو الاستيقاظ والخروج للعمل والتغيير».
«يقولون لي إنني يجب أن أبقى في المدرسة. ولماذا أدرس لمستقبل لن يكون له وجود؟».
«وما فائدة حفظ الحقائق المقررة في النظام المدرسي، إن كنا لا نلتفت للحقيقة التي يقررها العلم اليوم؟».
المسألة أشبه بالمفاصلة إذًا: إما أن تنصهر في النظام، أو تخرج منه تمامًا. ليس ثمة صيغة مدرسية تتفهم الميول الفردية للطالب، أو تحفل باهتماماته المبكرة مع مشكلات يومه، بل وتشجعه على أن يتفاعل وينشط ويتأثر، وتمنحه حقه بأن يخاف ويقلق ويفتر، كأي علاقة حيوية بين الإنسان والواقع.
وهذا من سوء حظ الطلبة الناشطين في أي مجال وقضية، أن معظم المدارس الحالية لا تقيم وزنًا لأي جهد يُبذل، مهما عظُم، لو لم يكن ضمن المطلوبات المذكورة سلفًا في كتاب المقرر الدراسي.
قياسًا على حالة غريتا، فإن عشرات الخطابات التي تكتبها وتلقيها لتوعية الملايين في دول العالم لن تُحسب ضمن تقييمك في مادة اللغة الإنجليزية، بما أنك لم تحل أسئلة الكتاب طبعًا. ومئات الفسائل والشجيرات التي غرستها بيدك لإنقاذ البيئة لن تسعفك في رفع درجة اختبار العلوم، لأنك لم تجب سؤالًا عن المكونات الاصطلاحية الدقيقة لأجزاء النبات.
إن لم تكن الأنظمة المدرسية اليوم تستوعب طالبة كغريتا تونبرغ ولا قضية مثل إنقاذ العالم، فهل يُتوقع منها أن تكترث بما هو أدنى؟