أورويل كان يعرف: نشتري شاشات تستخدم ضدنا

الصورة: Getty - التصميم: منشور

عبد الوهاب سليمان
نشر في 2021/09/19

بعد وقوع أي حدث عالمي، اقتصاديًا كان أم سياسيًا أم غير ذلك، يعود إلى الأذهان عدد من الأعمال الروائية التي إما وثقت لوقائع مشابهة، كما حصل مع إعادة قراءة رواية الفرنسي ألبير كامو «الطاعون» مع بداية تفشي فيروس كورونا، أو روايات تنبأت بما سيكون عليه مستقبل البشرية، ومن تلك الروايات التي تعاد قراءتها وتتسبب في مقارنات بين النص والواقع رواية «1984» للإنجليزي جورج أورويل.

عاد إلى قراءة الرواية هنري كاولز، الأستاذ المساعد في قسم التاريخ بجامعة ميشيغان، والذي يعزو ارتفاع مبيعات الرواية الديستوبية مؤخرًا إلى حدثين رئيسيين: ففي أوائل عام 2017، وعلى إثر فكرة «الحقائق البديلة»، عادت إلى الأذهان شخصية وينستون سميث بطل رواية أورويل، الذي يعمل موظفًا في وزارة الحقيقة، ويحترف استبدال الحقائق وتزييفها.

أما في عام 2013، فقد قارن إدوارد سنودن التجاوزات التي كشفها، والمتعلقة ببرنامج المراقبة الحكومي واسع النطاق تحت إشراف وكالة الأمن القومي، بما تخيله أورويل قائلا: «جميع أنواع المراقبة المذكورة في الكتاب، الميكروفونات وكاميرات الفيديو وأجهزة التلفزيون، كلها لا تُذكر مقارنة بما لدينا اليوم».

شاشات المراقبة تحاصرنا في كل مكان

الصورة: المركز الثقافي العربي

يرى كاولز أن سنودن كان محقًا، ويكتب في مقاله أنه «عندما نعيد قراءة 1984 في عام 2018، سنُدهش من "التلفزيونات التي تراقبنا"، والتي أسماها أورويل شاشة الرصد، وهي أول الأجهزة التي نصادفها في الرواية».

يقتبس كاولز من الرواية مقطعًا يقول: «كان بمقدور وينستون تخفيض صوت هذا الجهاز والذي كان يسمى "شاشة الرصد"، ولكن لم يكن بوسعه إيقاف تشغيله بشكل تام». ويكتب موضحًا أن «شاشة الرصد موجودة في كل مكان، في كل غرفة خاصة، وفي كل مساحة عامة، وصولًا إلى نهاية الكتاب»، ثم يعود ليقتبس من الرواية: «كان الصوت الصادر من شاشة الرصد لا يزال يروي قصة الأسرى والغنائم والمذابح»، مستذكرًا اللحظة التي سلّم فيها وينستون بدور تلك الشاشة.

ما يراه كاولز ملفتًا في مسألة الوجود المطلق لشاشة الرصد هو «كيف كان أورويل محقًا ومخطئًا بشأن حاضرنا التقني، فالشاشات ليست مجرد جزء من حياتنا اليوم: إنها حياتنا فعلًا» ، مشيرًا إلى تفاعلنا مع بعضنا البعض بشكل رقمي وبعمق يجعل العديد منا يواجه صعوبة في تصور (أو تذكر) الحياة كما كانت في السابق.

تكمن الخطورة في رأي كاولز في ذلك التواصل: «في الوقت الحاضر، كل ذلك التفاعل عرضة للتسجيل». ويعتقد أن سنودن لم يكن أول من أشار إلى تجاوز الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي لما تخيله أورويل، الذي «لم يكن ليعلم مدى توقنا لانكماش شاشات الرصد الخاصة بنا، وحملها معنا في كل مكان نذهب إليه، أو كيف نبدي استعدادنا للتنازل عن البيانات التي نُدخلها لمصلحة الشركات التي تغذي حاجتنا للتواصل». ويطلق كاولز تحذيره من أننا أصبحنا فجأة «محاطين بشاشات الرصد، وعلى نحو يفوق ما تخيله أورويل لعالمنا».

ما هي السلطة التي تصادر حريتنا؟

الصورة: Getty

يتساءل الكاتب في فقرة جديدة: هل تخيل أورويل ذلك بالفعل؟ ثم يجيب: «منحنا أورويل إشارتين إلى مصدر شاشات الرصد، تشيران إلى أصل مفاجئ للدولة الشمولية التي تصفها رواية 1984. إن الأخذ بهاتين الإشارتين على محمل الجد يعني النظر في عالم الشركات بدلًا من حكوماتنا الحالية بوصفها مصدرًا لزوال الحرية. لو كان أورويل محقًا، فإن خيار المستهلك (أيديولوجيا الخيار في حد ذاتها) قد يكون مؤشر البداية على اضمحلال خياراتنا».

يقتبس كاولز الإشارة الأولى من الرواية التي تناولت الغياب التقني، حين يجد وينستون نفسه في غرفة تخلو من شاشات الرصد:

لم يستطع وينستون منع نفسه من أن يتمتم قائلا: «لا توجد هنا شاشة رصد!».

قال الرجل العجوز: «آه.. لم يسبق أن كان لديّ واحدة، إنها غالية جدًا، ولم أشعر أبدًا أنني بحاجة إلى واحدة».

ثم يعلق كاولز: «مع أننا نعلم أنه علينا أن ننظر إلى ما قاله الرجل العجوز بقليل من الشك، فإنه يبدو لبعض الناس في لحظة ما أن امتلاك شاشة رصد مسألة اختيار».

نهاية حياتنا الخاصة

الصورة: Getty

الإشارة الثانية التي يستعرضها كاولز هي الكتاب الذي تضمه الرواية: التاريخ المحظور عن صعود «الحزب»، والذي ألّفه أحد مؤسسيه الأوائل، وأصبح منذ إصداره للكتاب «عدوًا للشعب». يؤكد كاولز أن النص المكتوب داخل الرواية يصم التقنية بأنها «السبب في تدمير الخصوصية، ونلتقط هنا لمحة عن العالم الذي نعيشه». ويقتبس من الرواية: «ومع اختراع التلفزيون، وحصول ذلك التقدم التقني الذي جعل من الممكن الإرسال والاستقبال في آن واحد وعلى جهاز واحد، فإن ذلك كان إيذانًا بنهاية ما يسمى بالحياة الخاصة».

يتساءل كاولز عما يخبرنا به التاريخ المظلم لشاشات الرصد عن أسلوب الحياة التي نعيشها اليوم، مستعينًا بالتلميحات المتعلقة بنفور الرجل العجوز وسلطة التلفزيون التي أشارت إلى أن «التوسع في النظام الشمولي لا يبدأ من الأعلى في الضرورة، وليس بالطريقة التي نتخيلها». يعتقد كاولز أن النفاذ غير المقيّد إلى حياتنا الخاصة بوصفه خيارًا في البداية، قرار بتسجيل البيانات من أجل منتَج لأننا «نشعر أننا بحاجة إليه». ويوضح فكرته أكثر قائلًا: «عندما نتصرف في السوق وفق رغباتنا، فإن ذلك تسليم لبياناتنا لصالح الكيانات التجارية، ليتضح أن زوال الحق في الاختيار هو عاقبة الاختيار، أو على الأقل عاقبة الاحتفاء بالاختيار».

تخلينا عن خصوصيتنا في التاريخ الحديث

الصورة: Getty

يستعين كاولز بمؤرختين توصلتا إلى ذلك الاستنتاج بطريقتين مختلفتين. الأولى هي سارة آيجو من جامعة فاندربيلت في ولاية تينيسي، والتي تؤكد أن «مطالب الأمريكيين بالخصوصية تبدو متوافقة مع قراراتهم بالتضحية بخصوصيتهم على مدار القرن العشرين، وأن المواطنين حصّنوا وأذاعوا حياتهم الخاصة في آن واحد عبر الاستفتاءات ومواقع التواصل الاجتماعي، وصولًا إلى التقبل التدريجي بأن الحياة الحديثة تعني الإسهام في (وقطف ثمار) البيانات التي يزداد اعتمادنا عليها، وذلك على الرغم من أن تلك الأنشطة كانت نتيجة "اختيار" بصورة أسهل من غيرها». وينقل كاولز فكرة آيجو عن «كيف يبدو الاختيار مسألة هامشية عندما يتعلق الأمر بالبيانات الشخصية».

وينقل الكاتب رأي المؤرخة صوفيا روزينفيلد من جامعة بنسلفانيا، والتي تعتقد أن «الحرية نفسها قد تقلصت إلى خيار، وتحديدًا الاختيار ما بين مجموعة محدودة من الخيارات، وأدى ذلك التقليص في الخيارات إلى ثورة في السياسة والفكر. وحينما تغربل الخيارات إلى ما يمكننا الحصول عليه عبر الإنترنت، وهي غربلة تختبئ خلف مسمى "خيار"، نبدأ في الشعور بعواقب هذا التحول في حياتنا الخاصة».

يمكن للمرء، بحسب كاولز، أن يتخيل بسهولة شراء شاشة رصد، والتي يملكها العديد منا بالفعل، ويمكن له أيضًا تخيل حاجته إلى شاشة رصد، أو أن يجدها من السهولة بمكان لدرجة الشعور بإلزاميتها. يعتقد كاولز أن «الخطوة الكبرى هي جعل ما هو مريح وسهل إلزاميًا: عندما لا نستطيع تعبئة نموذج الضرائب واستكمال بيانات التعداد السكاني أو تقديم مطالبة مالية دون شاشة رصد».

يقتبس كاولز مقولة لرجل وصفه بـ«الحكيم»: «من قال إن "العميل دائمًا على حق"؟ إنه البائع، البائع لا سواه». ويرى أنه «لن يكون من المفاجئ أن تؤجج الشركات اندفاعنا على التواصل التقني لتحصد ما ننتجه من بيانات، ما هو مفاجئ أن تعامَل الشركات كمرافق عامة، وتعمل بجانب الحكومات لجعلنا في حالة اتصال. علينا هنا أن نتفاجأ، أو نتوخى الحذر على الأقل. حتى الآن، يبدو أن استخدام بريد جوجل أو فيسبوك لا يزال خيارًا، بيد أن لحظة تحول الخيار إلى إلزام قد تكون من الصعب ملاحظتها».

يختتم كاولز مقاله بأنه من الصعب علينا أن نلحظ «تحول الخيار إلى إلزام عندما نحتاج البطاقة الائتمانية لشراء القهوة، أو استخدام تطبيق هاتفي لتقديم شكوى. ولكن، عندما يصبح الهاتف الذكي أساسيًا لدى العمالة المهاجرة، ويصبح من اللازم الاتصال بالإنترنت لتعبئة استمارة التعداد السكاني، سنشهد حينها التحول».

كتب كاولز مقالته هذه تزامنًا مع بدء الاستعدادات لإطلاق التعداد السكاني للولايات المتحدة للمرة الأولى عبر الإنترنت في عام 2020، والتي رأى فيها مناسبة تدل على التحول من الخيار إلى الإلزام: «تطفو الأسئلة عن كيفية جمع البيانات وتخزينها، ونبدو على الأرجح أكثر قربًا إلى ذلك التحول مما كنا نظن».

مواضيع مشابهة