جميل راتب: حر بدرجة مسافر

لقطة من فيلم «Un Nuage Dans Un Verre D'eau» - الصورة:  Avenue B Productions

ياسمين أكرم
نشر في 2018/06/20

بداية معرفتي بجميل راتب كانت عن طريق مسلسل «يوميات ونيس»، في شخصية «أبو الفضل»، الجد الطيب صاحب المبادئ والانفعالات الحادة التي كما يقولون: «بتنزل على مفيش». ثم عرفته في مسلسل «ضمير أبلة حكمت»، بطولة فاتن حمامة. «صلاح» العاشق القديم العائد من الماضي ليستغل حبيبته (حكمت)، ويضعها في اختبار أخلاقي ستنتصر فيه كما تفعل دائمًا.

ما زلت أتذكر المشهد المُتخيَّل للقاء حكمت وصلاح في الحلقة الأخيرة من المسلسل، إذ تتخيل حكمت عودة صلاح وندمه على حياته ونشاطاته السابقة وتوريطه لها، يقول: «غروري خلاني اتصور أني أنا اللي حطيتك في الامتحان، وفرضت عليكي الأسئلة والأجوبة، ده وهم. الامتحان الحقيقي انتِ اللي حطتيني فيه من 30 سنة، والأيام مرت، وأنا لسه مش عارف أجاوب. يا إما بجاوب غلط. مبروك يا حكمت، وخليكي فاكرة، اللي حصل ده مكانش صراع بين اتنين أعداء، ده صراع من طرف واحد، واحد حب أوي بس مقدرش يكون قد الإنسانة اللي بيحبها». ينتهي حديثه، ثم تلتفت حكمت، فلا تجده.

مشهد لا يُنسى، لكنه جعلني أنسى شيئًا آخر، وهو أن جميل راتب كان في الخامسة والستين عندما أدى هذا الدور. ربما لأن لقاء الأحبة يضغط الزمن، أو لأن جاذبية فاتن حمامة وجميل راتب لا تطالها تغيرات الوجه والجسد، فنسيت أن هناك ما يقارب ثلاثين عامًا من حياة راتب لا أعرف عنها شيئًا. ولسنواتٍ طويلة ظننت أنه واحد من العمالقة الذين بدأت مسيرتهم الفنية في سن متأخرة، لكني في ما بعد فوجئت بحياة فنية ثرية وملهِمة بدأت في منتصف الأربعينات، وما زالت مستمرة حتى وقتنا هذا.

التمرد على الثروة والجاه والخجل

«كنت إنسانًا خجولًا جدًّا ومنطويًا، ولا أشعر بكياني في هذا العالم»

هكذا بدأت حكاية جميل راتب الذي ولد عام 1926 لأسرة أرستقراطية محافظة. كان والده رجلًا وطنيًّا شارك في ثورة 1919، ووالدته تنحدر من أسرة عريقة، فعمتها هدى شعراوي، رائدة النهضة النسائية المصرية، والتي يفخر راتب بصلة قرابته لها في كل مناسبة.

أصر الأب على أن يلتحق ابنه بمدارس مصرية في الوقت الذي كان يلتحق فيه أبناء الطبقة الأرستقراطية بالمدارس الأجنبية، وأسهم ذلك في أن يكون لجميل راتب أساس قوي في اللغة العربية وقواعدها لم تمحه السنوات الطويلة التي عاشها في فرنسا، وساعده ذلك في ما بعد في أداء بعض الأدوار بالعربية الفصحى عند عودته إلى مصر، فكان أول دور له بالفصحى في مسرحية «عطيل» لشكسبير، من إخراج المخرج والممثل التونسي علي بن عياد.

سافر راتب إلى فرنسا لاستكمال دراسته لكن نفسه التي تعلقت بالفن لم تُطِق دراسة الحقوق فتركها رغم غضب والديه، وقطع المنحة عنه.

كرر راتب التجربة بعد عودته إلى مصر في مسلسل «الكعبة المشرفة»، فقد أدى دور إبليس لمدة 30 حلقة، وكان يتقمص في هذه الحلقات شخصية مختلفة.

بعد انتهائه من الدراسة الثانوية بمدرسة «الإبراهيمية» التحق بكلية الحقوق الفرنسية، وشارك عام 1956 في فيلمه الأول «أنا الشرق» مع الفنانة «كلود جودار» ونخبة من الممثلين المصريين أمثال: حسين رياض وتوفيق الدقن وجورج أبيض.

سافر راتب بعدها إلى فرنسا لاستكمال دراسته بكلية الحقوق، لكن نفسه التي تعلقت بالفن منذ الصغر لم تُطِق دراسة الحقوق الصارمة، فتركها رغم غضب والديه، وقطع المنحة عنه، ليعمل في عدد من الوظائف البسيطة: شيَّال ومترجم وجارسون.

أتاحت له هذه التجربة أن يتعرف على طبقات مختلفة من الشعب الفرنسي، فازداد تقديره واحترامه للطبقات الأقل حظًّا، وشعر بآلامها ومعاناتها.

بعد ذلك أدى راتب أدوارًا أساسية في بعض المسرحيات التي قدمتها فرق مسرحية مغمورة نسبيًّا، ثم أسس فرقته المسرحية مع بعض أصدقائه، فلفت الأنظار إليه. شارك بعدها في مسرحيات شكسبير وأوغست ستريندبرغ وألبير كامو وموليير، على أكبر مسارح فرنسا، أشهرها مسرح الـ«كوميدي فرانسيز»، وحقق نجاحًا باهرًا.

الطريق الأقل ارتيادًا

لقطة من فيلم «لورانس العرب» - الصورة: Horizon Pictures

عاد جميل راتب إلى مصر عام 1951 لفترة مؤقتة، وبترشيح من الفنان سليمان نجيب يشارك في مسرحية «الوريث» مع فرقته المسرحية، ثم عاد إلى فرنسا واستكمل مسيرته الإبداعية في المسرح والتلفزيون قبل أن تتاح له الفرصة ليُشارك في فيلم «Trapeze» عام 1956، إخراج «كارول ريد»، وبطولة «بيرت لانكستر» و«توني كيرتس» و«جينا لولو بريجيدا».

ثم قادته الصدفة إلى المشاركة في دور صغير في الفيلم العظيم «Lawrence of Arabia» (لورنس العرب) مع «بيتر أوتول» و«أنتوني كوين» وعمر الشريف.

كان هذا الفيلم بمثابة نقطة تحول في مسيرة عمر الشريف، لكن الأمر لم يكن مماثلًا بالنسبة إلى جميل راتب، فقد سعى الشريف إلى العالمية، وشارك بعدها في كثير من الأفلام الأمريكية، بينما لم تستهوِ راتب الثقافة الأمريكية، وظل متمسكًا بالثقافة الأوربية والفرنسية بخاصة.

يحلم كل فنان بالخروج من نطاق المحلية إلى العالمية، ويسعى إلى ذلك في حال تهيأت له الظروف. ولكن جميل راتب سار عكس التيار، أو بمعنى أدق لم يقاوم التيار الذي سحبه مجددًا إلى مصر عام 1974 بسبب بعض الظروف العائلية، ليُقابل الممثل والمخرج كرم مطاوع، ويشترك معه في مسرحية من تأليف محمود دياب، ثم يعرض عليه المخرج صلاح أبو سيف دورًا مهمًّا في فيلم «الكداب» لتنهمر عليه الأدوار السينمائية والتلفزيونية بعدها، ليحفر من خلالها وجهه واسمه في ذاكرتنا.

الشرير الأنيق، الظريف، الشعبي

مشهد من فيلم «الكيف»

كان «سليم البهظ» في فيلم «الكيف» واحد من أجرأ الأدوار التي قدمها راتب وأبعد ما تكون عن شخصيته، حيث يتفوه طوال الوقت بكلمات لا يفهمها هو نفسه.

عندما عاد جميل راتب إلى مصر كانت السينما المصرية في حاجة إلى «شرير» يستكمل مسيرة محمود المليجي وتوفيق الدقن اللذين تقدم بهما العمر، فوجدت ضالتها في جميل راتب، صاحب الملامح التي تصلح لأدوار الشر، فاستعان به كثير من المخرجين المصريين في تلك الأدوار.

يصفه الناقد السينمائي محمود قاسم، في كتابه «الوجه والقناع: أشرار السينما المصرية»، بأن طريقة جميل راتب في الحديث وصوته وهدوءه فرضوا على أدوار الشر التي أداها شكلًا مختلفًا. فهو يدبر الخطط، وينفذ الجرائم، لكنه لا يدخل في مغامرات، ولا يمكن لأحد أن يتشاجر معه، أو أن يوقعه أرضًا، إنه رجل ذو مهابة ملحوظة وكبرياء، إضافة إلى أناقته ووسامته، فهو الـ«جنتلمان» الخارج عن القانون.

من أشهر الأفلام التي جسَّد فيها جميل راتب شخصية الشرير، فيلم «حب في الزنزانة»، عام 1983، إخراج محمد فاضل، وفي فيلمين للمخرج شريف عرفة، هما: «الأقزام قادمون» 1987، و«الدرجة الثالثة» 1988. وفي «حالة تلبس» 1988 إخراج بركات.

وبالطبع «سليم البهظ» في فيلم «الكيف» 1985، وهو واحد من أجرأ الأدوار التي قدمها، إذ يجسد شخصية أبعد ما تكون عن طبيعته الشخصية، تتفوه طوال الوقت بكلمات وتعبيرات لا يفهمها جميل راتب نفسه.

وهناك أدوار الشرير الظريف في أفلام مثل «شعبان تحت الصفر» 1980، إخراج بركات، و«البداية» 1980، إخراج صلاح أبو سيف.

أخيرًا دور الشرير الشعبي الذي جسده في أفلام مثل: «بيت بلا حنان» 1976، إخراج علي عبد الخالق، و«دندش» إخراج يحيى العلمي.

جميل راتب: هل ظلمته السينما المصرية؟

مشهد من فيلم «حب في الزنزانة»

يلقي كثير من النقاد السينمائيين باللوم على عدد من المخرجين بسبب فرضهم الأداء الانفعالي الذي اشتهر به جميل راتب في كثير من الأفلام المصرية، سواء في أدوار الشر أو الكوميديا، بينما يختفي هذا الأداء في أفلامه الفرنسية والتونسية، وقلة من الأفلام المصرية، مثل فيلم: «لا عزاء للسيدات» إخراج هنري بركات، و«حكاية وراء كل باب» إخراج سعيد مرزوق، والذي ينقسم إلى ثلاث حكايات يظهر جميل في إحداها بعنوان «ضيف على العشاء»، وفيلم «خائفة من شيءٍ ما» الذي يجسد فيه دور وكيل نيابة يحقق في إحدى جرائم القتل، وشاركته البطولة نجوى إبراهيم وعماد حمدي ومديحة يسري. اعتمد راتب في هذه الأفلام على الانفعالات الداخلية أكثر من الخارجية.

بإمكاننا أن نلقي باللوم على السينما المصرية بسبب حصر راتب في أدوار الشر، لكنني أختلف مع اللائمين في هذه النقطة، فقد صرح جميل راتب في أكثر من لقاء تلفزيوني بأنه يميل إلى هذه الأدوار لأنها تتطلب كثيرًا من البحث والجهد والتحدي.

وما لا يعلمه كثيرون أن المسرح والسينما في فرنسا فرضا على راتب أدوار الشر للأسباب التي ذكرتها سابقًا. ويبدو أن ظهوره في هذه الأدوار كان اختيارًا شخصيًّا. بالضبط كاختيار الممثل الأمريكي العظيم «فينسنت برايس» الظهور في أفلام الرعب، وهو أيضًا ممثل عملاق له جاذبية وحضور طاغ يؤهلانه لأن يبرع في أدوار أخرى.

مصري فرنسي، أم فرنسي مصري؟

مشهد من فيلم «La Nuit Du Destin»

مر راتب بضائقة مادية في فرنسا فعرض «أنطوني كوين» عليه أن يكون مساعد مخرج في فيلم «زيارة السيدة العجوز»، وكان يهتم بتوجيهاته ويخشى منها.

كثيرًا ما يُسأل جميل راتب عن البلد الذي ينتمي نفسيًّا إليه: هل مصر أم فرنسا؟ وأيضًا عن البلد الذي ازدهرت موهبته فيه. سؤال يجيب عنه في كل مرة إجابة مختلفة. لكن عمله في المسرح الفرنسي هيَّأه للعمل في السينما المصرية، وعمله في السينما المصرية هيأه للعمل في السينما الفرنسية والتونسية.

تمتاز مصر عن فرنسا، بالنسبة إلى راتب، بدفء شعبها، وتمتاز فرنسا بالديمقراطية. وفي كل مرة كان يختار مصر في النهاية. وإضافة إلى أسبابه السابقة يتذكر موقفًا بسيطًا أثر فيه تأثيرًا بالغًا، ففي إحدى المرات، بعد عودته من فرنسا إلى مصر، استقل سيارة أجرة، وتبادل مع السائق حديثًا ودودًا عن أسرته وأولاده، فالتفت السائق إلى راتب وسأله: ماذا عنك؟ فأخبره راتب بأنه ليس لديه أولاد، فقال له السائق بود: «لا تقلق، كلنا أولادك». وبالرغم من بساطة الموقف، فإنه كان حاضرًا دائمًا في كلام جميل راتب إذا سأله أحدهم: لماذا تحب مصر؟

بسبب الحياة غير المستقرة التي عاشها جميل راتب، وترفُّعه عن الماديات، رفض أن يُنجِب أطفالًا قد يعجز عن توفير حياة صحية لهم، إما لغيابه الدائم وانشغاله بالفن، وإما لعدم قدرته على تلبية احتياجاتهم، فهو اليوم يعمل، ولكن لا يحالفه الحظ لشهور أخرى.

يذكر راتب أنه في أثناء إقامته في فرنسا مر بضائقة مادية، ولم يجد عملًا ينفق منه على نفسه، فلجأ إلى الممثل «أنطوني كوين» الذي توطدت صداقته معه بعد فيلم «Lawrence of Arabia»، فعرض عليه كوين أن يكون مساعد مخرج في فيلمه «زيارة السيدة العجوز»، وكان يهتم بتوجيهاته ويخشى منها أحيانًا.

غيمة في كوب ماء

مشهد من فيلم «Un Nuage Dans Un Verre D'eau»

في فيلم «غيمة في كوب ماء» يوثق خليل، تفاصيل حياة جده (جميل راتب). الذي يختفي فجأة، ولا يتبقى منه إلا بقعة دم على وسادته.

قدم جميل راتب، خلال مسيرته الفنية بين فرنسا ومصر وتونس، ما يقرب من 200 فيلم ومسلسل ومسرحية. أبرز المسلسلات المصرية: «الراية البيضا» في دور دكتور مفيد أبو الغار، و«يوميات ونيس»، و«زيزينيا» في دور زعيم المافيا «جيوفاني ديلورينزي»، و«ضمير أبلة حكمت» و«سنبل بعد المليون».

قدم راتب أيضًا ما يقرب من 15 فيلمًا فرنسيًّا، أشهرها فيلم «غيمة في كوب ماء» 2012، والذي يحكي عن السيد «نون»، المصور المصري الذي يعيش حياة وحيدة في فرنسا بعد وفاة زوجته، وتربطه علاقة صداقة بالفتاة الرومانية «آنا» جارته في البناية التي يعيش فيها. يشتركان في حب السباغيتي، ومشاهدة أفلام الـ«ويسترن» التي يؤدي «كلينت ستوود» أدوار البطولة فيها.

هناك أيضًا خليل، حفيد مستر نون، والذى يوثق تفاصيل حياة جده اليومية ليصنع عنه فيلمًا وثائقيًّا. يختفي الجد فجأة، ولا يتبقى منه إلا بقعة من الدم على وسادته.

يأخد الفيلم بعد هذا الحدث طابعًا مختلفًا، فينتقل من التوثيق إلى الفانتازيا عندما تستعين آنا، في البحث عن صديقها، بشبح رجل عجوز وسمكة.

تضاربت الآراء حول هذا الفيلم، فهناك من يُشيد بشاعريته وخياله وإيقاعه الفريد، وهناك من ينتقد الفيلم للأسباب ذاتها. ربما لأن مخرجه يبدو وكأنه يحاول أن يستخدم كل ما تعلمه من تقنيات السينما في فيلم واحد، لكن يظل الفيلم بمثابة احتفاء بالصداقة واللحظات الخاصة في حياة كلٍّ منا.

مواضيع مشابهة