قد تكون قراءة رواية «فرانكنشتاين» أول مرة تجربة مدهشة وتختلف كثيرًا عن مشاهدة الأفلام المقتبَسة من القصة، لأن التناول السينمائي غالبًا ما يتجاهل التطور الفلسفي والعلمي في الرواية، مسلطًا الضوء على قصة الوحش الهجين الذي يعيث في الأرض فسادًا.
كانت «ماري شيللي» في سن صغيرة عندما كتبت المسودة الأولى لقصتها عن طبيب يخلق وحشًا من أجزاء مختلفة انتزعها من جثث سرقها. يلصق الطبيب هذه الأجزاء ليصنع رجلًا خارقًا، ثم يُعرِّضه لصاعقة كهربائية تبث فيه الحياة.
- اكتشاف أنه من الممكن إنعاش الغرقى
- مجال «الفيزيولوجيا الكهربائية» الناشئ حديثًا، وهو علم اهتم ببحث تأثير الكهرباء في الأنسجة الحيوانية
تأسس علم البيولوجيا الكهربائية على يد العالم الإيطالي لويجي غالفاني، الذي اكتشف أن للعضلات كهربيّتها الخاصة.
مثَّل هذا الاكتشاف ثورة في عالم الأحياء، لكنه كذلك امتد إلى الخيال الشعبي الذي تعامل مع الكهرباء باعتبارها أعجوبة من نوع خاص، قادرة على فعل أشياء لا تعد ولا تحصى.
آلام شخصية
في عام 1795، وقبل عامين من ميلاد ماري شيللي، حاولت أمها الفيلسوفة «ماري ولستونكرافت» الانتحار. ألقت بنفسها من على جسر فوق نهر «التايمز» في لندن، بعد نوبة اكتئاب شديدة.
تركت ماري رسالة تطلب فيها أن لا يعيدها أحد من أحضان الموت إذا عثروا عليها. هذا التعبير الذي يبدو غريبًا الآن، يرتكز على حقيقة أنه في النصف الأخير من القرن العشرين أدرك الأطباء أن فقدان الوعي نتيجة الغرق لا يعني موتًا نهائيًّا، وإنما حالة يمكن فيها إنقاذ الغرقى إذا سُحِبوا من الماء سريعًا وأُجريت لهم عملية إنعاش قلبي رئوي.
في تلك الفترة، لم تكن آليات الإنعاش مفهومة كما هي الآن. إلا أن بعض الإجراءات البسيطة، مثل التنفس الصناعي أو الضغط اليدوي المتكرر على منطقة قلب المصاب، قد تساعد في إنعاش بعض الأشخاص.
كانت ماري ولستونكرافت أحد الذين جرى إنقاذهم من الموت. فقد سُحِبَت من الماء في الوقت المناسب وأعيد إحياؤها. قالت عن تلك التجربة بعد ذلك إنها «بعدما قبِلت الموت ورضيت بقسوته ووجدت فيه الخلاص، أعيدت إلى الحياة والبؤس».
ماتت ماري بعدها بعامين من حمى النفاس، بعد عشرة أيام تقريبًا من ولادة ابنتها ماري شيللي.
قصة إنعاش ماري على عكس رغبتها من الموت، وهذا اليأس الذي شعرت به بعدما عادت إلى الحياة، ينعكس بصورة كبيرة في رواية فرانكنشتاين، إذ تسير المعاناة جنبًا إلى جنب مع المحاولات المستميتة لخلق الحياة من الموت.
كتبت ماري شيللي رواية «فرانكنشتاين» في الثامنة عشرة من عمرها، بعد عامين من وفاة طفلها الأول الذي لم تُطلِق عليه اسمًا.
كتبت شيللي في مذكراتها أنها كانت ترعى الطفل وتقرأ، يومًا بعد يوم، حتى اليوم الثامن عندما استيقظت في الليل لتُرضعه، فوجدته نائمًا بكل هدوء، فلم تشأ أن توقظه. في الصباح، وجدت طفلها ميتًا، وكتبت لاحقًا عن شعورها: «أحلم أحيانًا بأن طفلي يعود من الموت، بأنه كان يشعر فقط بلسعة برد، لكنها تزول عندما نضعه أمام المدفأة، ويعيش. إلا أنني حين أستيقظ لا أجد طفلي».
لم تعط شيلي اسمًا للوحش الذي كتبت عنه، وعدم تسمية ما يصعب تسميته ليس أمرًا جديدًا عليها.
ترك «فيكتور فرانكنشتاين» المخلوق المسكين دون اسم. «أنا، البائس المهجور، جهيض»، يقولها المخلوق واصفًا نفسه في المشهد الأخير.
هي نفسها لم يكن لها اسم خاص بها، مثل الوحش الذي جرى تجميعه بأجزاء من جثث مختلفة على يد الطبيب «فيكتور فرانكنشتاين». اسمها أيضًا كان عبارة عن مجموعة من الأجزاء: اسم والدتها النسوية ماري ولستونكرافت، واسم والدها الفيلسوف «ويليام غودوين»، وأخيرًا اسم زوجها الشاعر «بيرسي شيلي»، لتكون «ماري ولستونكرافت غودوين شيلي».
يقول فيكتور فرانكنشتاين: «كان ذلك في ليلة قاتمة من نوفمبر، عندما رأيت ما صنعت. المطر ينزل فوق زجاج النافذة، وضوء يأتي من شمعة تموت. كنت أنظر إلى شيء لا حياة له قابعًا عند قدمي، يأتي إلى الحياة. رأيت عين المخلوق الصفراء القاتمة تُفتَح بينما يتنفس بقوة ويتحرك في تشنُّج. بعد كل ما بذلته من أجل هذه اللحظة وجلب هذا المخلوق إلى الحياة، وجدتني متقززًا مشمئزًّا، غير قادر على تحمُّل ما قد خلقت».
يهرب فرانكنشتاين من هذا المخلوق الذي صنعه بيديه، تاركًا المسكين دون اسم. «أنا، البائس المهجور، جهيض»، يقولها المخلوق واصفًا نفسه في المشهد الأخير.
إلهام التجارب العلمية
في 17 يناير 1803، أُعدِم شنقًا شاب يُدعى «جورج فورستر» بتهمة القتل، في سجن «نيوغايت» في لندن. بعد إعدامه، كما كان يحدث في أحيان كثيرة، نُقِل جثمانه في احتفال إلى كلية الجراحين الملكية، حيث يجري تشريحه علنًا. لكن ما حدث بالفعل صادم أكثر من التشريح، لأنه كان يتعرض للصعق بالكهرباء.
أجرى التجارب الفيلسوف الإيطالي «جيوفاني آلديني»، ابن شقيق الطبيب «لويجي غلفاني» الذي نفَّذ أولى التجارب في علم «الكهرباء الحيوية» عام 1780.
وضع فورستر على الطاولة، ليبدأ آلديني ومساعدوه إجراء التجربة. ذكرت صحيفة «Times» التجربة كما يلي: «في أول تطبيق للتجربة على وجه فورستر، بدأ فكُّه في الارتجاف، ثم بدأت العضلات المجاورة في الالتواء، وجرى فتح إحدى عينيه. في المرحلة الأخرى من التجربة، أمكن رفْع يده اليمنى والتحكم بها، والساقان في وضع الاستعداد للحركة». بدا الأمر لبعض المشاهدين كما لو أن الرجل البائس الذي شهدوا إعدامه يعود إلى الحياة شيئًا فشيئًا.
كان آلديني يختبر فكرة وجود علاقة بين الكهرباء والعمليات الحيوية، إلا أن هذه الفكرة نشأت منذ أكثر من قرن مضى. تكهَّن «إسحاق نيوتن» بوجود علاقة بينهما في أوائل القرن الثامن عشر. في 1730، شرح عالم الفلك الإنجليزي «ستيفن غراي» مبادئ التوصيل الكهربي، بعد تجربة «الفتى الطائر».
في فرنسا عام 1746، أراد «جان أنطوان نوليت» تسلية الملك عن طريق صعق 140 رجلًا من رجال الحرس الملكي ليقفزوا في آنٍ واحد، عندما مرت الشحنة الكهربية من «قارورة ليدن»، وهي جهاز تخزين كهربي، عبر أجسامهم.
أراد آلديني إجراء تلك التجربة للدفاع عن نظريات عمِّه ضد هجمات المعارضين، مثل «آليساندرو فولتا».
زعم فولتا أن الكهربائية الحيوية تنتج عن طريق الاتصال بالمعادن فقط، لكنها لا توجد في الأنسجة الحية. غير أن كثيرًا من الفلاسفة الآخرين دعموا أفكار غالفاني بحماس. فقد اختبر «ألكسندر فون هومبولت» البطاريات المصنوعة بالكامل من الأنسجة الحيوانية، وأجرى «يوهانس ريتر» تجارب على نفسه ليستكشف تأثير الكهرباء في الإحساس.
فكرة أن الكهرباء مادة للحياة يمكن استخدامها لإحياء الموتى، كانت منتشرة في الدوائر التي تحركت فيها ماري شيلي. كان الشاعر الإنجليزي وصديق عائلة شيلي «صمويل تايلور كولريدج» مفتونًا بالصلة بين الكهرباء والحياة. وعند كتابته لصديقه الكيميائي «همفري ديفي»، بعد أن سمع أنه يُلقي محاضرات في المعهد الملكي بلندن، أخبره بأن «عضلاتي ارتعشت وتقلصت عند سماعي هذه الأخبار، كما لو كانت أليافي من الزنك والأخبار من الكهرباء». بيرسي شيلي هو الآخر، والذي سيُصبح زوج الكاتبة، كان متحمسًا جدًّا لهذه الفكرة.
جذبت تجارب آلديني مع الموتى اهتمامًا كبيرًا. سخر بعضهم من فكرة أن الكهرباء قد تعيد الموتى إلى الحياة، وأخذ آخرون الفكرة بجدية. فقد كتب المُحاضر «تشارلز ويلكينسون» الذي ساعد آلديني في تجاربه، أن «الغلفانية مبدأ تنشيطي يُشكِّل الخط الفاصل بين المادة والروح، مسهمًا في السلسلة الكبرى للخليقة».
في عام 1814، قدَّم الجراح الإنجليزي «جون أبرنتي» ادعاءً مشابهًا في محاضرة بكلية الجراحين الملكية، حيث أثارت ادعاءاته جدلًا حادًّا مع زميله الجراح «ويليام لورانس». ادَّعى أبرنتي أن الكهرباء قوة حيوية، في حين أنكر لورانس ذلك، معللًا بأنه لا حاجة لذكر هذا لتفسير العمليات الحيوية. تابعت ماري وبيرسي شيلي هذا النقاش لأن لورانس كان طبيبهما.
في الوقت الذي نُشرت فيه رواية «فرانكنشتاين» عام 1818، كان القراء على دراية بفكرة أن الحياة يمكن استعادتها بالكهرباء.
اهتمت ماري شيلي بكل تجارب غالفاني وفولتا وألديني. وكان همفري ديفي وويليام نيكلسون، أبرز الباحثين الكهربائيين حينها، أصدقاء والدها.
في 1816، عندما كانت ماري في التاسعة عشرة من عمرها، قضت الصيف في جنيف بسويسرا مع «اللورد بايرون» وزوجها المستقبلي بيرسي شيلي. قضوا عددًا من الأمسيات حول النار، يقرأون قصص الأشباح الألمانية، ويناقشون إمكانية إعادة الجثث إلى الحياة عن طريق الكهرباء.
في الوقت الذي نُشرت فيه رواية «فرانكنشتاين» عام 1818، كان القراء على دراية بفكرة أن الحياة يمكن استعادتها بالكهرباء. بعد بضعة أشهر فقط من نشر الكتاب، أجرى الكيميائي الأسكتلندي «أندرو أور» تجاربه الكهربائية الخاصة على جثة «ماثيو كليديسديل»، الذي أُعدِم بتهمة القتل.
كتب أور عن تجربته أن «حركة عضلات وجهه كانت مليئة بالخوف، الغضب، الرعب، اليأس، والابتسامات المريبة. كل هذه التعبيرات تحددت في وجه القاتل». وأفاد أور بأن التجارب كانت مروِّعة إلى درجة اضطرار بعض المشاهدين إلى المغادرة، وفقدان أحدهم وعيه.
يبدو أن أور كان متأثرًا برواية ماري شيلي عند إجرائه التجربة، ومن الواضح أن استنتاجاته كانت مكتوبة بشكل روائي متعمَّد ليُبرِز عناصرها المثيرة.
بالنسبة إلينا الآن يبدو «فرانكنشتاين» مجرد قصة خيالية لمؤلفة ذات خيال واسع، إلا إنها في الواقع كانت قصة ذات صلة قوية بواقعها. بواقع الكاتبة الشخصي المباشر، وكذلك بالمساحات التي تعرضت لها، ودويِّ الاكتشافات العلمية وطريقة التعامل معها. مثلما يكتب كُتَّاب الخيال العلمي الآن عن الذكاء الصناعي، كتبت ماري شيلي عن الكهرباء وما وعدت به البشرية.