«مَن يريد المتعة، عليه الذهاب إلى السيرك». كان هذا تعقيب المدير الفني لفريق يوفنتوس الإيطالي، السيد «ماسيمو أليغري»، بعد الفوز أمام موناكو في بطولة دوري أبطال أوروبا عام 2015، في مباراة وصفها مشجعو فريقه بأنها مملة. حسنٌ، ما الفرق بين كرة القدم والسيرك؟
هدنة عيد الميلاد: مباراة على أرض المعركة
يُحكى أنه في أَوْجِ الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا في آخر أيام عام 1914، قرر الجنود الألمان أن يتخلوا عن أسلحتهم ويعقدوا هدنة مع جنود الحلفاء لمدة يوم واحد بعد شهور من الحرب، في ما عُرف باسم هدنة عيد الميلاد، فتصافح الجميع بالأيدي ودخنوا السجائر معًا، ولعبوا كرة القدم على أرض المعركة كذلك.
يقول المؤرخ «ستانلي واينتراوب»، مؤلف كتاب «الليلة الصامتة» الذي يحكي تلك القصة، إن الهدنة نبعت من صفوف الجنود، مُتجاهلين أوامر الضباط بعدم الاقتراب من عساكر العدو. وبعد أن تبادل الطرفان هتافات تحمل وعودًا بأن «كُفُّوا عنا نيرانكم، نكفُّ عنكم نيراننا»، صاروا ينشدون ترنيمة عيد الميلاد لبعضهم بعضًا، فيما خرج آخرون من الخنادق يتصافحون بالأيدي ويدخنون السجائر جنبًا إلى جنب.
اتفق كثيرون على أن يمددوا الهدنة حتى يوم عيد الميلاد، كي يتسنى لهم الالتقاء مجددًا ومن أجل أن يدفنوا قتلاهم. ساعد كل جانب الآخر في حفر القبور وإقامة مراسم التأبين، وتلا قِسٌّ إسكتلندي «المزمور 23» بلغتين، وتقاسم الجنود الطعام والهدايا المرسلة إليهم من بلدانهم، وتبادلوا أزرار بدلاتهم العسكرية بوصفها تذكارات تخلِّد الحدث، ولعبوا عدة مباريات كرة قدم.
ربما لا يتسنى لنا التأكد من صحة تلك الواقعة، لكنها تتضمن الجوهر الحقيقي لكرة القدم، المتعة التي تُمنح دون عناء وبأقل الإمكانيات، تلك اللعبة التي لا تحتاج إلى لغة أو عِرق أو مستوى اجتماعي كي تفهمها وتستمتع بها، بل وتمارسها.
قد يهمك أيضًا: هل تحارب كرة القدم العنصرية أم تدعمها؟
جوهر كرة القدم: متعة الانتصار
يؤمن اللاعبون بمهاراتهم ويصدقهم الجمهور، فلن تفوز في كرة القدم بالمال أو لون البشرة، أو حتى بالسلاح.
جوهر كرة القدم لم يكن أبدًا الفوز، وإنما المتعة والتصديق في غير الممكن في زمن أصبح الروتين علامته السائدة.
ظلت كرة القدم عبر تاريخها الطويل تتأرجح بين تأفُّف المثقفين ممَّن يرونها وسيله لإلهاء الشعوب، وعشق الممارسين لها والمُتيَّمين برؤيتها، كونها النشاط الإنساني الأبرز الذي رفض الخضوع لصرامة القواعد وثبات النتائج طبقًا للمعطيات، فكل شيء يتغير في كرة القدم بلمسة متقنة من لاعب، أو بتصدٍّ إعجازي بيد حارس.
هنا تكمُن المتعة، تعِجُّ الملاعب بالآلاف الذين يشقُّون حناجرهم ويلوِّحون بأعلام تتزين بشعارات أنديتهم، كي يبعثوا برسالة إلى 11 رجلًا مفادها أنهم «على ثقة بكم، أنتم تستطيعون الفوز».
الحديث هنا عن المتعة كجوهر كرة القدم لا يُقصد به أنها تُمارَس للتسلية فقط، بالطبع ليس الأمر كذلك، ولطالما كانت الرغبة في الانتصار محركًا أساسيًّا لاستمرار كرة القدم وتنقلها بين الشعوب، لكنه الانتصار النابع من الإيمان بأنني الأفضل والأكثر مهارة، هكذا يؤمن اللاعبون ويصدقهم آلاف الجماهير والمحبين. لن تستطيع أن تفوز في مباراة كرة القدم لأنك تملك المال أو لأنك ذو بشرة بيضاء، أو حتى لو كنت تملك السلاح، تمامًا مثلما حدث في «مباراة الموت».
مباراة الموت: اخسر.. تعيش
حدث ذلك عام 1942 بعد أن اجتاحت ألمانيا النازية أوكرانيا، إذ قررت ألمانيا إقامة مباراة كرة قدم بين فريق من جنود الجيش وآخر من لاعبي فريق «دينامو كييف» الأوكراني، في محاولة لإقناع الجماهير الأوكرانية بتقبل فكرة تفوق الألمان في كل شيء.
انتهى شوط المبارة الأول بتفوق الفريق الأوكراني بهدف، وبين الشوطين أُبلغ الأوكرانيون بأنهم قد يواجهون عقوبة الإعدام في حال فوزهم.
نزل لاعبو فريق كييف إلى أرض الملعب يرتجفون، لا يقدر أحدهم على الركض لمسافة مترين، لكنهم بمجرد أن سمعوا زئير الجمهور الأوكراني في أنحاء الملعب لم يستطيعوا أن يتخلصوا من رغبة الفوز، وانتهت المباراة بنتيجة خمسة أهداف مقابل هدف لصالح كييف.
لم يُعدم أحد، وأُعيدت المباراة مع منع لاعبي فريق كييف من التمرين وتقليل حصصهم الغذائية، وبعد خمسة أيام كانت النتيجة فوز كييف مجددًا على فريق ألماني آخر بستة أهداف مقابل لا شيء.
جُنَّ جنون الألمان وقرروا أن ينتدبوا فريقًا محترفًا من المجر، التابعة للنازية آنذاك، كي يعيدوا الأمور إلى نصابها. لعب ذلك الفريق مباراتين في غضون خمسة أيام، وكانت النتيجة فوز كييف 5-1 في المباراة الأولى و3-2 في المباراة الثانية. لم يجد الألمان بُدًّا من أن يستقدموا فريق «فالكيلف» الذي لا يُقهر. لم يُسمح للمواطنين الأوكرانيين بحضور المباراة، بل أُقيمت بجمهور من الجنود الألمان المسلحين، وكانت الرسالة واضحة لفريق كييف: «اربحوا وستموتون على أرض الملعب».
فاز كييف بثلاثة أهداف مقابل هدفين، وبعد المباراة أُخبر لاعبي الفريق بأن المباراة ستُعاد كفرصة أخيرة لهم. بعد خمسة أيام لم تتغير النتيجة، وتغلَّب كييف على فريق «روخ» بثمانية أهداف.
مهارة بيع الاستعراض
احتج اللاعبون على إقامة المباريات في منتصف النهار، لكنه كان الوقت المناسب للتليفزيون الأوروبي، فهل بيع الاستعراض أهم من اللعب؟
تحولت كرة القدم إلى صناعة ونشاط تجاري مربح تمامًا، أصبحت قمصان الفرق تعج بأسماء الرعاة، أصبحت مشاهدة كرة القدم تخضع لقوانين البث التي تُقسَّم طبقًا لمكان وجودك على خريطة العالم، أصبح الذهاب لمشاهدة المباريات يحتِّم عليك أن تتعرض للتصنيف طبقًا لقيمة التذكرة التي تحملها، وفي مقابل ذلك فقدت كرة القدم كثيرًا من جوهرها الحقيقي، المتعة، ليحل محله جوهر جديد هو الفوز، فالفوز يضمن استمرار الرعاة، ويضمن بالضرورة استمرار تدفق الأموال والإبقاء على تلك الصناعة الناجحة.
«في عام 1919، فازت البرازيل على أوروغواي وتُوِّجت بطلةً لأمريكا الجنوبية. اندفع الشعب إلى شوارع ريو دي جانيرو، وكانت على رأس الاحتفال، مرفوعةً كراية، فردة حذاء كرة قدم ملوثة بالوحل، ومعها لافتة تقول: قَدم فريدنريتش المجيدة. وفي اليوم التالي، انتهى المطاف بفردة الحذاء تلك التي حققت الفوز إلى واجهة محل مجوهرات في مركز المدينة».
«في كأس العالم 1986، احتج فالدانو ومارادونا ولاعبون آخرون لأن المباريات الرئيسية كانت تُجرى في منتصف النهار، تحت شمس تقلي كل ما تلمسه. لكن الظهيرة في المكسيك توافق ساعة الغروب في أوروبا، وهو التوقيت الذي يناسب التليفزيون هناك. وروى حارس المرمى الألماني ھارالد شوماخر ما كان يجري: أتعرَّق، تجف حنجرتي، أشعر بالعشب مثل البراز اليابس قاسيًا ومعاديًا وغريبًا. تسقط الشمس عموديةً على الملعب، وتنفجر فوق رؤوسنا. لا تتشكل لنا ظلال. يقولون إن هذا جيد من أجل التليفزيون، فهل بيع الاستعراض أهم من اللعب؟».
تستطيع من خلال قراءة النصين السابقين من كتاب «كرة القدم بين الشمس والظل»، الذي ألفه «إدواردو غاليانو»، أن تفهم ما تعرضت له كرة القدم من تغير بسبب تحولها إلى نشاط تجاري، لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فالكرة كانت أذكى من الجميع.
لا نملك سوى الموهبة
يمكنك أن تميزه بسهولة بين أقرانه، ورغم تشابه الأطفال في ذلك البلد الإفريقي الفقير، فإنك لن تحتاج سوى إلى أن تمر بعينيك سريعًا كي تتوقف عنده تلقائيًّا: ضئيل الحجم، بقدمين حافيتين، يرتدي قميصًا رياضيًّا وعلى ظهره اسم لاعبه المفضل، يعلم كل شيء عن فريقه عن طريق والده، الذي يؤكد له أنه سيصطحبه إلى النادي في العام المقبل ليريهم موهبته حتى لو اضطر إلى بيع كل ما يملك.
يدرك الولد الصغير أن موهبته ستمكنه يومًا من أن يغير كل العالم الذي يحيط به الآن. كرة القدم لا تعترف إلا بالموهبة، وهو لا يملك سوى تلك الموهبة. الجميع هنا يعرفونه ويشجعونه، فرغم الفقر والجوع الذي يضرب ذلك البلد والبلاد المجاورة، تجد كرة القدم لنفسها طريقًا لتمنح الفقراء المتعة دون مقابل.
تستطيع الآن أن تعيد ترتيب المشهد الفائت في ذهنك عشرات المرات بسيناريوهات مختلفة، فهذا الطفل ربما يكون إفريقيًّا أو آسيويًّا أو أوروبيًّا، ربما يكون فقيرًا أو معدمًا أو حتى في وضع اجتماعي جيد، كل ما يهم هنا هو إيمانه بالكرة.
سر متعة كرة القدم الحقيقية
لاعب الكرة مستقبله غير مضمون تمامًا، فبضربة قاسية تُوجَّه إلى إحدى قدميه تتلاشى كل قواه ومهاراته، وبحلول الثلاثين من عمره يصبح بدنيًّا أقل ممَّا اعتاده محبوه.
كرة القدم مهنة ليست كما يبدو عليها من المتعة، فمقابل كل ما يحظى به اللاعب من شهرة وأموال، يخضع لنظام قاسٍ في حياته للحفاظ على المهارة التي يمتلكها، ولذا كثيرًا ما نرى النبوغ في الكرة مرادفًا للفقر، فالفقراء وحدهم مَن يؤمنون بالكرة في هيئة «يسوع المخلِّص» من كل خطايا الفقر والتهميش.
لذلك بقيت كرة القدم تُمارَس في الشارع حتى وقتنا هذا، تُمارَس للمتعة وتُكسِب ممارسيها كل تلك المهارات الفطرية، مهارات التحكم في الكرة وإخضاعها، مهارات غير مألوفة يحتاجها المدربون لفك الحصار حول مرمى المنافسين.
حتى لو امتلأت الملاعب بملايين ممَّن يلعبون كرة القدم لإنجاحها كصناعة، فلن يكون هؤلاء أبدًا هم العرض، تمامًا مثل السيرك يا سيد أليجري، يحضر الناس إلى الملاعب لمشاهدة ما لا يستطيعون أن يفعلوه بأنفسهم، لمشاهدة هؤلاء الذين حباهم الله موهبة تحويل تلك الصناعة إلى متعة حقيقية بحركة واحدة.
«تاريخ كرة القدم عبارة عن رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب، فكلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة، يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب». إدواردو غاليانو – «كرة القدم بين الشمس والظل».