أسباب الكذب كثيرة. نلجأ إليه عندما لا يروقنا موقف وُضِعنا فيه، أو عندما نريد الحصول على شيء ما، أو حماية شيء نملكه. نكذب لأننا نرغب في أن نظهر بشكل أفضل مما نظن أنفسنا عليه. نكذب للحصول على أصدقاء، نكذب طيلة الوقت، بل وكثيرًا ما نكذب على أنفسنا مثلما نفعل مع الآخرين.
نحن نحتفظ بقائمة ذهنية بأكاذيبنا في اللاوعي، وهذه المساحة من المخ المخصصة للأكاذيب تُضعف قدرتنا على التركيز، وتنخر في رصيد سعادتنا. أفضل علاج لهذه المسألة هو التوقف عن الكذب، ولكن هذا بالطبع ليس أمرًا سهلًا. لكنه على الأقل يمكن التفكير فيه، ومحاولة البحث عن طريقة للتعامل معه.
يستعرض مقال نُشِر على موقع «Medium» خمسةً من أكثر أنواع الكذب شيوعًا.
عالم من الأكاذيب
يقول كاتب المقال إنه عكف في يوم من الأيام على كتابة قائمة بالأكاذيب التي قالها للآخرين. تمكن سريعًا من ملء خمس صفحات، حتى أنه لشدة عجبه توقَّف وشعر بالخجل من نفسه. حين قرر أن يكتب قائمة أخرى بالأكاذيب التي يقولها لنفسه ازداد الأمر سوءًا، فلم تكن تسعفه سرعة يده في اللحاق بسيل الأكاذيب الذي انهمر من ذاكرته. بل إن آخر كذبة قالها للتَّو حين قال للنادل إن «البرغر» الذي قدَّمه له طيب رغم أنه لم يكن ساخنًا. كلما فكر الكاتب في الأمر شعر بمزيد من الضيق، فهذه الأكاذيب تشكِّل العالم الذي يعيش فيه.
يعطي الكاتب مثلًا، فيقول: تصوَّر أن صديقًا لك ألّف كتابًا لم تحبه. بالطبع لن تخبره بحقيقة رأيك كي لا تجرح مشاعره، فأنت تعرف أنه يحب كتابه، وتعرف أن تأليف الكتاب استغرق سنين من العمل الدؤوب، فما الذي يجعلك تقول له إنك لم تقوَ حتى على قراءة صفحتين منه؟ بالطبع ستمتنع عن إبداء رأيك من أجل الحفاظ على سلامة علاقتكما.
اضطرارك إلى إخفاء رأيك الحقيقي بالكتاب الذي ألَّفه صديقك سيجعلك أكثر تمسكًا برأيك، وفي نفس الوقت ستتأثر علاقتكما سلبًا، إذ إنك لن تتمكن من مصارحته بشأن ما تعتقده، وستظل تمنع نفسك عن البوح برأيك كلما جاء ذكر الكتاب، أو سألك إن كنت تتحمس لإصدار جزء ثان منه. ورغم أن موضوع الكتاب قد يمثل شرخًا بسيطًا في علاقتنا، فإنه يضعف أساساتها. والأصعب أنه سيتعين عليك تذكُّر أنك لم تقل رأيك الحقيقي في ما كتب لسنوات.
علينا أن نتذكر أكاذيب كثيرة، فكلنا لدينا آراء احتفظنا بها لأنفسنا وصرَّحنا بعكسها كي لا نضايق أحدهم، أو كي نتجنب التعرض لموقف سخيف. ربما تكون كثير من هذه الكذبات بريئة، ولكنها تظل تتراكم لتصبح في نهاية الأمر غيمة كبيرة تحجب أشعة الشمس.
قد يهمك أيضًا: لماذا ينبغي الاحتفاء بالطفل الذي يكذب مبكرًا؟
خمس كذبات نفضلها
عندما تقول لنفسك إنك من أذكى 10% في العالم، فمن الممكن جدًّا أنك تكذب على نفسك، وتضخِّم قدراتك.
يتساءل الكاتب: «تُرى ما هي الأشياء التي يظنها فينا الآخرون ولا يصرحون بها؟» فإذا كنا نحن نخفي أشياء عن غيرنا، فإنهم لا بد يفعلون الشيء نفسه. لدينا ولديهم بالمثل مخزون من الأكاذيب التي نسعى إلى ألا تنكشف.
هذه فقط خمسة أوجه للكذب نمارسها كثيرًا:
1. الكذب البحت:
هذا النوع يسهل كشفه، وعادة ما نتوقف عن ممارسته في الطفولة، فالبالغون أكثر براعة في ممارسة الكذب، وأقدر على التغطية على كذباتهم. ومثال هذا الطفل الذي يدَّعي أنه لم يأكل قالب الشوكولاته وفمه ملطخ بها.
2. الكذب عن طريق الإسقاط:
يقول الكاتب إنه يتذكر أنه سمع «دكتور فيل» يتحدث عن الطرق المتعددة التي يكذب بها الأزواج على بعضهم. كان ضيف دكتور فيل في الحلقة يقول إنه لم يكذب على زوجته بشأن علاقة أقامها مع امرأة أخرى، فكل ما فعله هو أنه ببساطة لم يخبرها بالعلاقة. وهذه مغالطة في رأي الكاتب، فامتناعك عن البوح بموضوع ما وكأنه لم يحدث، ربما تجنبًا للمواجهة وسوء المنقلب هو شكل من أشكال الكذب.
3. الكذب عن طريق المبالغة:
عندما تقول لنفسك إنك من أذكى 10% في العالم، فمن الممكن جدًّا أنك تكذب على نفسك، وتضخِّم قدراتك ما لم تكن خضت اختبارات أثبتت تلك المقدرة الذهنية.
في مثال آخر على هذا الشكل من الكذب، تخيل أن لك زميلة في العمل طلقها زوجها، وأصبحت منذ ذلك الحين تأتي إلى العمل متأخرة، غير راغبة في الإنجاز بصورة شبه يومية، حتى تكاثرت الأعباء عليك، هل ستستجمع قواك وتخبرها بأن عليها الالتزام بالمواعيد، والإنجاز، وفصل الظروف الشخصية عن العمل؟
غالبًا لا، فعلى الأرجح أنك ستتجنب الحديث معها، وتخبر نفسك بأن الوضع ليس بهذا السوء، وأن المسألة مسألة وقت، ثم تعود زميلتك بعدها إلى العمل بكامل طاقتها. ربما يكون هذا هو الحاصل بالفعل، وربما لا. في النهاية، علينا التسليم بأننا كائنات لامنطقية، وأننا نستخدم الكذب لرتق هذه المساحات الكبيرة من عدم الاتساق.
أحيانًا تمتلئ سيرنا الذاتية التي نرسلها إلى أماكن العمل طمعًا في وظيفة بالأكاذيب. فربما تقول إنك تجيد التحدث بالفرنسية مثلًا، رغم أن معرفتك بها لا تتعدى أساسيات النحو التي درستها في المدرسة الابتدائية، وبضع كلمات التقطتها من الأفلام، وربما تؤكد أنك تجيد العمل تحت الضغط لأن هذا يبدو «مهمًّا»، بينما لم تجرب ذلك قط.
أكبر كذبة نقولها لأنفسنا هي أننا لا نكذب. فالحقيقة أننا جميعًا نمارس الكذب، وإن كان بطرق ملتوية، أو غير مباشرة.
4. الكذب عن طريق التحريف:
تكون كاذبًا على والديك إذا ادَّعيت أن زيارتك لمكتب مدير المدرسة كانت لتهنئتك على أدائك المشرف في فريق كرة القدم المدرسي، بينما الحقيقة أنك استُدعيت إلى المدير لتتلقى تحذيرًا شديدًا من العنف ضد زملائك.
يكذب الزوج على زوجته إذا ادَّعى أنه استغرق الساعات الثلاثة التي غابها عن المنزل في إصلاح سيارته، بينما الحقيقة أنه ذهب إلى الورشة حقًّا، ولكنه أصلحها في ساعة واحدة، وأمضى الساعتين المتبقيتين مع أصدقائه في المقهى.
5. الكذب لأسباب اجتماعية:
هذه هي الكذبات الأكثر شيوعًا، وهي شكل منمَّق من الكذب الصريح يفضله البالغون، نسميه أحيانًا كذبًا أبيض لأن الهدف منه قد يكون تحقيق التناغم الاجتماعي.
مثلًا، إذا تلقيت دعوة لحضور زفاف زميل لك في العمل لا تستلطفه، سيكون الاعتذار من نوعية «آسف جدًّا، فلن أتمكن من الحضور، سأكون مسافرًا يوم العرس» أول ما يتبادر إلى ذهنك، رغم أنك في الحقيقة ستكون مستلقيًا على الأريكة تشاهد مباراة فريق الكرة المفضل.
أما تلك الفتاة التي ظلت تُثني على جمال العروس، حالفة بأنها «كالبدر في ليلة تمامه»، فربما تمارس الكذب أيضًا، وربما لا تراها جميلة على الإطلاق، وإنما أقرب إلى شكل المهرج من كثرة الماكياج الذي غيَّر خلقتها.
ولعل أكبر كذبة نقولها لأنفسنا هي أننا لا نكذب. فالحقيقة أننا جميعًا نمارس الكذب، وإن كان بطرق ملتوية، أو غير مباشرة. الأفضل التخلص منها، أو من كثير منها، لأن هذا سيفرغ مساحة ذهنية لما هو أهم. ليس الحل بالطبع في الوقاحة والمواجهة المستمرة، كثير من الأمثلة التي ذكرناها لا ضرر منها، لكن الهدف هنا أن يكون المرء صريحًا مع نفسه، وألا يتحول الكذب إلى عادة مستمرة تربك تعاملنا مع الواقع.