لم يعد الخطاب العام في الخليج العربي اليوم بمعزل عن الخطاب العالمي حول القضايا السياسية والاجتماعية، فمثلًا حين تظاهر السود في أمريكا الصيف الماضي بعد مقتل جورج فلويد على يد الشرطة، تصدرت قضايا العرق المنصات الرقمية في الخليج، وانطلق حوار ثقافي عن التمييز العرقي الذي تعاني منه العمالة الوافدة في المنطقة.
وقبلها حين انطلقت حركة Me Too التي استقطبت اهتمام الإعلام الأمريكي ومشاهير الغرب، بدأت محاورة واسعة في الخليج وباقي دول العالم عن مدى شيوع قضايا التحرش والإغتصاب في كل مكان، وبذلت النسويات جهودًا واسعة عبر السوشيال ميديا للحرص على ألا تمر تلك اللحظة التاريخية التي سمحت للنساء أن يشاركن تجاربهن، دون أن يحدث تغيير جذري في ديناميات القوة بين الرجال والنساء.
أدت هذه الجهود إلى نزوح الفكر النسوي من هامش الخطاب العام الخليجي إلى مركزه، فأصبحت النسوية كلمة شائعة جميعنا نعرفها ولدينا رأي ما حولها.
من الانتقادات المتكررة عن الحركة النسوية في الخليج أنها «مشروع مستورد» لا يحترم خصوصية مجتمعاتنا. لكن، وإن كان مصطلح النسوية نفسه مستوردًا، فإن الجندر كعلاقة اجتماعية يتمحور حولها هذا المصطلح هو مركزي في تشكيل خصائص المجتمعات الخليجية كما في باقي المجتمعات. طالما هناك رجال ونساء في مجتمع ما، هناك ديناميات معينة تنظم طبيعة العلاقة الاجتماعية بينهم والفرص المتاحة لكل منهم وموضعيتهم في الأسرة والمجتمع والدولة.
تنطلق النسوية من واقع أن هذه الديناميات قد وضعت النساء في موقع اضطهاد، تختلف صوره التاريخية بين مجتمع وآخر حسب عوامل عديدة مثل الثقافة والدين والسياسة والاقتصاد. ولأن هذه الديناميات تتنوع بتنوع الثقافات، فإن النسوية تتضمن مدارس فكرية ومنهجيات واستراتيجيات عديدة، ربما ليست جميعها تحاكي واقعنا المحلي، ولكن العديد منها يشكل، كحد أدنى، نقطة بداية مهمة للتنظير والعمل من أجل تحقيق العدالة لنسائنا.
خصوصية المجتمعات واختلاف القضايا
رغم شعبية النسوية الليبرالية في الإعلام الأمريكي ونسوية الدولة في الإعلام الخليجي، فإن العديد من المدارس النسوية تنتقد نزعاتها البرجوازية التي تجسد المرأة على أنها تلك القادرة ماديًا، المتحررة من قيود رجال عائلتها، التي لا يعيقها إلا صعوبة أن تجد مكانًا على طاولة صنع القرار. هذه المدارس البرجوازية التي تنظر لتمثيل المرأة في كل المحافل كحل للتمييز الجندري، لا تلقي بالًا لحال النساء في المجتمعات الإسلامية، حيث يعانين من تسليح العديد من الرجال للقرآن والسنة من أجل تبرير القمع الذي يمارسونه ضد النساء.
لهذا نشأت النسوية الإسلامية التي تتحدى بالعلم والفقه العديد من المغالطات في التفسير، وتُنظّر لقراءة حديثة للنص الإسلامي أساسها المساواة بين المرأة والرجل. وبسبب تجاهل هذه المدارس لمعاناة الفقراء والمهمشين، نشأت النسوية التقاطعية التي تمركز تقاطع الطبقة الاقتصادية مع العرق والجندر وحق المواطنة والقدرة الجسدية، والذي أنتج ذاتيات تتفاوت في امتيازاتها ومدى اضطهادها. ونظرًا لمرونة إطارها النظري، سمحت لنا هذه النسوية التقاطعية بأن نمركز فئات اجتماعية لطالما تعرضت للتجاهل في نطاق الخليج، وأن نفهم موضعياتها من خلال تحليل أسس بناء الاقتصاد السياسي القائمة على اضطهاد الوافدين والعاملات المنزليات والنساء الشيعة والبدون.
لذلك فإنه وإن كانت النسوية الليبرالية قائمة على تجربة المرأة البيضاء من ذوات الامتيازات، والتي تتقارب كثيرًا مع تجربة بعض النساء الخليجيات البرجوازيات اللاتي يتصدرن المشهد النسوي من خلال دعم الدولة والشركات الخاصة، فإن الفكر النسوي الإسلامي والتقاطعي وُلد من رحم معاناة أغلب نسائنا، ويتآلف معها بحميمية محزنة، وهي تلك الألفة التي مكنت النسويات في الخليج من خلق نسوية خليجية خاصة بنا: نسوية تُمركز تسليح الدين في القضاء والمجتمع ، ودور خصوصيات اقتصادنا السياسي في إنتاج ذاتيات مهمشة في مجتمعاتنا والفكر النسوي الغربي على حد سواء.
جوهريًا، ما تقدمه النسوية هو عدسة تحليلية نقدية لقراءة ما كان يبدو لجداتنا مجرد تجارب شخصية أو قلة حظ، إذ أنها تربط تجارب النساء بأسبابها الهيكلية بدل النظر إليها كأحداث منفصلة أو سلسلة طويلة من الصدف السيئة، لأنها حتمًا ليست صدفة أن جميعنا نعرف نساء تعرضن للضرب أو الاغتصاب أو التحرش. وهي حتمًا ليست عبثية أن مجتمعنا لا يرى الخلل في أن يسامح ويعذر الرجال حين يقتلون أخواتهم وزوجاتهم تحت مسمى «الشرف»، بينما يطالب بأشد العقوبات حين ترقص امرأة في مكان عام.
يبدأ تعزيز التمييز الجندري في هيكلية الأسرة النووية، التي تضع عاتق التربية على الأم والإعالة المادية على الأب، فتربي الأم ابنتها كي تصبح زوجة جيدة، وتربي ابنها كي ينجح في حياته المهنية.
لا ينكر أحد وجود صور عديدة من التمييز ضد المرأة نراها حولنا كل يوم، ولكن الفرق بين أن نعتنق النسوية أو نرفضها يكمن في رأينا حول مشروعية هذا التمييز. فكثيرًا ما نسمع أن الرجال يمارسون المهنة الفلانية لأن بنيتهم أقوى، وأن الستر واجب على المرأة بسبب غريزة الرجال، وأن المرأة بحاجة إلى ولي لأنها ناقصة عقل، وغيرها من الموروثات الأبوية التي ترتدي غطاء الموضوعية المزعومة.
تفند هذه الموروثات المستهلكة ادعاء المناهضين للنسوية بأن قضايا المرأة في الخليج «مستوردة»، لأن جميعها تحتوي ضمنيًا على إقرار أصحابها بأن ديناميات القوى في مجتمعنا تتحيز للرجل. بينما يدافع المناهضون للنسوية عن تمركز القوة في يد الرجال باسم الدين والعلم والطبيعة البشرية، ترفض النسوية هذه النزعات الرجعية التي تفتقد للتحليل النقدي، وتدعونا إلى أن نحلل ونفكك الهيكليات والمؤسسات والموروثات الثقافية التي تعزز وتشرعن التمييز ضد المرأة.
في كثير من الأحيان يبدأ تعزيز التمييز الجندري في هيكلية الأسرة النووية، التي تضع عاتق التربية على الأم والإعالة المادية على الأب، فتربي الأم ابنتها كي تصبح مربية وزوجة جيدة، وتربي ابنها كي ينجح في حياته المهنية من خلال غرس ممارسات وأفكار يبطنها كلا الأبناء ويموضعان ذاتيتهما حولها. هذه الهيكلية تستمد تماسكها من مؤسسات أيديولوجية عديدة مثل المدرسة والمسجد والإعلام، التي تعيد إنتاج فكرة أن للرجال والنساء أدوارًا منفصلة في حياتهم العائلية والمهنية.
الدولة كشريك في التمييز
لا تزال الحركة النسوية الخليجية تجد نفسها في موقع نضال من أجل مصداقيتها.
على المستوى المؤسساتي، هناك ممارسات عديدة تميز ضد المرأة وتختلف من دولة إلى أخرى، ومنها قوانين تجريم الإجهاض، أو إجبار المرأة على الزواج من مغتصبها أو الخضوع لولي أمرها. أما الثقافات التي تعزز التمييز والاضطهاد الجندري فقد تتضمن من جهة جعل المرأة دلالة رمزية على سمعة وشرف عائلتها، مما يعرض حياتها للخطر حين تقرر أن تعيش حياتها خارج القيود المفروضة عليها. ومن جهة أخرى قد تتضمن هذه الثقافات التكتم على الجرائم الجنسية خوفًا من «العيب»، أو لوم المرأة على ما تتعرض له من مضايقات وتحرشات واغتصاب بتسليط الضوء على دورها المزعوم في ما ارتُكب في حقها.
ولأن خاصية الهيكليات والمؤسسات والثقافات التي تشرعن التمييز ضد النساء تختلف بين مجتمع وآخر، يأتي دور التأطير المحلي، الذي تتصدره الكثير من النسويات في الخليج من خلال مركزة قضايا النساء المسلمات والبدون والعاملات المنزليات الغائبة ضرورةً في التحليل الغربي. سمح لنا هذا التأطير المحلي بخلق حركة نسوية تقرأ واقع مجتمعاتنا، وتعمل جاهدة لنشر الوعي ومناشدة المؤسسات المعنية بغرض إيجاد حلول تقضي على صور الاضطهاد الشائعة حولنا.
وبناء على هذا، فإنه من المحزن بل والمخزي أنه إلى جانب نضالها ضد الآليات المؤسساتية والأيديولوجية للمنظومة الأبوية، لا تزال الحركة النسوية الخليجية تجد نفسها في موقع نضال من أجل مصداقيتها، ومن أجل أن تُأخذ على محمل الجد كتعبير عضوي عن رغبات نسائنا ومخاوفهن، وقبل هذا من أجل أن يقر مجتمعنا، كحد أدنى، أننا نعاني.