«حقوق المرأة هي حقوق الإنسان في كل مكان على هذا الكوكب، ولذلك نقول الحرية والعدالة لفلسطين». كان هذا جزءًا من خطاب «أنجيلا ديفيس»، المناضلة اليسارية والنسوية الأمريكية، في مسيرة النساء ضد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تحدثت فيها عن القضايا التقاطعية للنسوية.
وفي لقاء آخر لها تقول إن «النضال في جنوب إفريقيا ضد العنصرية حصد كثيرًا من الدعم، وأُدرج في أجندة كثير من مؤسسات وتنظيمات العدالة. قضية فلسطين يجب أن تحصل على المثل، يجب أن تتضامن معها المنظمات والحركات العالمية لأجل أن تتقدم أكثر. لكن للأسف، القضية بدأت تأخذ منحًى آخر، أصبحت كالقضايا الهامشية، لذلك يجدر بنا تنبيه كل من يؤمن بالمساواة في الحقوق والعدالة أن يدعو إلى تحرير فلسطين».
ما الذي دعا ديفيس إلى الربط بين حقوق النساء والقضية الفلسطينية؟ وما العلاقة بينهما؟ وهل حقًّا تتقاطع القضيتان بحيث توجب كلٌّ منهما دعم الأخرى؟
هناك من يعارض تسييس العلاقات الجندرية واستخدام النساء لخدمة أجندات أخرى، يرى المعارضون بأن إدخال القضايا النسوية في القضايا الأخرى تمييع لها وحشدها في ما لا ينفعها، ويرون أن مناهضة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والوقوف ضد التطبيع معه، موقف سياسي بغض النظر عن الهوية الجندرية لصاحبه، وأنه من الخداع تصوير ارتباط القضيتين على أنه خدمة للنساء.
شخصيًّا، أرى أن للقضايا النسوية سياقًا مرتبطًا بعدة قضايا، ولا ينفع القضايا النسوية نزعها من هذا السياق.
الدولة كبناء قمعي
الدولة هي اللبنة الأساسية في تشكيل الأفراد وهوياتهم، تعكس توجهات مجتمعية، لكنها أيضًا تكرس مفاهيم وتخلق توجهات وفروقات بين الشرائح. فهي المُكرِّس للفروق الجندرية عن طريق صياغة القوانين، وهي الأساس المكرس للفروق بين الهويات الأخرى. بنية الدولة المضطهدة للأقليات قائمة على إعلاء جنس على آخر، وعرق على آخر، وتوجه على آخر. وكما ترى الفيلسوفة الأمريكية «نانسي فريجر»، فإن تفكيك التمييز يعتبر تفكيكًا لبنية الدولة سياسيًّا واقتصاديًّا، والتمييز الجندري على الأخص.
من غير الواقعي توجيه النقد بخصوص تردي وضع المرأة للعادات المجتمعية والعقائدية، دون ربطها بدور الدولة في المحافظة عليها ودعمها.
الدولة هي اللبنة الأولى في اضطهاد المرأة، وأي تهميش لدور الدولة وإلقاء اللوم على المجتمع وحده منافٍ لحقيقة أن الدولة هي الكيان السياسي الذي يسمح للذكر باضطهاد الأنثى، ويخيط القوانين، ويمنهج القمع، ويكرس النظرة الدونية للمرأة حتى تجاه نفسها عبر الوسائل التربوية والإعلامية.
يُذكِّر الكاتب السعودي فيصل أحمد، في شأن ارتباط الحراك النسوي السعودي بالقضايا التقاطعية، بأن «كل اضطهاد لأقلية أو طبقة في الدولة الحديثة يبدأ من البُعدين السياسي والاقتصادي. فعند الحديث عن حق البدون في التعليم في السعودية مثلًا، تتشارك النسوية ذات الهم والتمييز الحاصل من خلال سياسة الدولة بعدم الاعتراف بحق التعليم، الذي تواجه النساء فيه عراقيل سببها بنية الدولة السياسية القائمة على تمييز جندري، يضع النساء في درجة أقل ويرهن مستقبلها التعليمي بموافقة الرجل».
«أو عند الحديث عن حقوق العمال، ومطلب إسقاط الكفالة الذي تتشارك فيه النساء مع العمال في بُعد إعادة التوزيع الذي يواجه إشكال التمييز الاقتصادي في بنية الدولة، ويمنح أفضلية للرجل في العائد المالي أو امتيازات التملك والتحكم بالقرارات المالية الخاصة بها. هذا يعني أن النسوية، ولأنها تحاول تفكيك البنية التمييزية للدولة، فهي تيار مَعنيٌّ بالإشكالات الحقوقية لكل الفئات والجماعات العرقية والطبقات المضطهدة».
لذلك، من غير الواقعي ما تفعله بعض النسويات من توجيه النقد وأصابع الاتهام حول تردي وضع المرأة إلى العادات المجتمعية والعقائدية، دون ربطها بدور الدولة الأساسي في المحافظة عليها ودعمها وخلقها في أحيان أخرى.
ليس من العدل إقصاء دور الدولة في مقابل تضخيم دور المجتمع، كأن يكون الهاجس هو قضية فرض الحجاب على المرأة من المجتمع والدين، والتغاضي عن قوانين التمييز ضدها كالولاية، والمنع من بعض الوظائف، والفرق في الدخل بين الرجل والمرأة وغيرها، وهو ما تطبقه النسوية الليبرالية في المنطقة العربية، إذ تقف في مواجهة التيار الديني الذكوري، بينما تصفق للدولة ذات البنيان الأبوي، بما يناقض أساس الفكر النسوي.
هذا التناقض يأخذنا إلى النقطة المهمة: إذا كان الفكر النسوي أساسًا قائمًا على رفض الأنظمة الأبوية بأشكالها كلها، وأي وقوف إلى جانب أحد هذه الأنظمة يعارض أساس هذا الفكر، فهل يعني هذا أن ترفض النسوية فكرة الاحتلال؟
الاحتلال كنظام أبوي
تمهد النسوية الاستعمارية احتلال البلاد بتقديم مبررات متعلقة بحقوق المرأة، وهو ما حدث في أفغانستان والعراق.
تأتي سيادة الرجل على المرأة من أسس سياسية ودينية واقتصادية، والنسوية في صراع دائم مع الدولة التي تعطيه السيادة على أسس الاضطهاد هذه، فمن باب أولى أن تكون في صراع مع كيان محتل يرتكز على هذه الأسس بشكل متطرف، قائم عليها بشكل محوري، إذ ليس الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين سوى عملية سياسية ذات جذور دينية وأطماع اقتصادية.
ترى نادرة شلهوب، أستاذة علم الإجرام والناشطة في القضايا النسوية والقضية الفلسطينية، أن أجساد النساء تُعامَل كأسلحة في المناطق الاستعمارية وأماكن النزاع، التي تعمل على تسليح أجساد النساء وجنسانيتهن. وتؤكد أن تحويل أجساد النساء إلى أسلحة ليس حدثًا هامشيًّا، بل قضية جوهرية تتحقق تحت ظروف استعمارية، وأن العنف ضد أجساد النساء الفلسطينيات يتعزز بيد المحتل لتقوية البِنى الذكورية الأصلية، وللإسهام في طرد الفلسطينيين من أرضهم.
توضح نادرة أن الاعتداءات الجنسية العسكرية تفاقمت في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والتهديد بالعنف الجنسي ضد النساء الفلسطينيات.
المفاهيم الذكورية للجنسانية و«الشرف» استغلتها الدولة الإسرائيلية والقوات العسكرية من أجل تجنيد الفلسطينيين كمتعاونين خلال الثورات، ولردع محاولات المقاومة المنظمة، وبهذا يكون العنف الجنسي ضد أجساد النساء الفلسطينيات مترسخًا في آلية القمع الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية.
الاغتصاب، الفعلي والمجازي لأجساد النساء الفلسطينيات التي يرى الكيان الصهيوني أنها قابلة للانتهاك، يستند بطبيعة الحال إلى منطق العنف الجنسي، الذي يدعم الانتهاكات التي يمارسها المشروع الاستعماري الاستيطاني والمصادرة المستمرة لأراضي الفلسطينيين.
تكمن مشكلة النسوية الاستعمارية في أنها تمهد للمستعمِر احتلال البلد واضطهاد سكانه عن طريق تقديم مبررات متعلقة بحقوق المرأة، وهو ما حدث في أفغانستان والعراق، إذ اتُّخذت حقوق المرأة مبررًا من مبررات الاحتلال الأمريكي للبلدين، الذي كان من المفروض أن يقدم الحرية والديمقراطية والمساواة لهذه البلاد.
هكذا تكون النسوية الاستعمارية مهتمة باللباس المفروض على الأفغانيات أكثر من اهتمامها بحياتهن الفعلية والعنف الجنسي الممارَس ضدهن واستخدام أجسادهن أداةً لقمع المقاومة، الأمر الذي يتضاعف في وجود احتلال أجنبي للبلاد، لكن التغاضي عن حق النساء الفعلي في حياة خالية من العنف يُنسى لصالح الصورة الكبرى لاستعمار يأتي باسم الديمقراطية، ويكون تبرير الاحتلال بأنه هدم لنظام ذكوري، فيما هو مجرد إعادة إنتاج لنظام ذكوري آخر أبيض، وله عينان زرقاوان، قد يكون أكثر قسوة وعنفًا ضد النساء.
النسوية الإسرائيلية: التناقض يكشف وجهه
«النسوية الهُدشعراوية (على نسق حركة هدى شعراوي) نموذج مألوف من النسوية الأرستقراطية التي عرفها الغرب، وكانت في منطلقاتها ترسيخًا لاستعلاء طبقي من نساء الأرستقراطية والبرجوازية ضد الرجال الفقراء. لم تفهم هدى شعراوي، ولم تتقبَّل أن يتمتع العامل البسيط بحقوق لا تتمتع بها، مثلما اعترضت نساء البيض في أوائل القرن العشرين في أمريكا على حصول رجال السود على حق التصويت قبل حصول النساء البيض عليه». أسعد أبو خليل من مقال «المرأة العربية: ملاحظات في قضايا النسوية».
هذا الترفُّع ليس بعيدًا عن النسوية الإسرائيلية، التي تعاني العنصرية اليهودية-اليهودية بين الإسرائيليات من أصل شرقي (المزراحيات) والإسرائيليات من أصل غربي (الأشكنازيات)، ما أنتج حركتين نسويتين: المزراحية والأشكنازية، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية حين انفصلت النسوية إلى سوداء وبيضاء.
بحسب تقرير مركز الراي للدراسات، فإن الحركة النسوية المزراحية تنتقد الطبقية والعنصرية الأشكنازية التي تُعامَل بها نساء المزراحيين والفلسطينيين في إسرائيل، فحتى سنة 1991، ظلت القائدات المتحدثات باسم الحركة النسائية في إسرائيل أشكنازيات، ما عدا مزراحية واحدة وفلسطينية واحدة. كانت النكتة المتداوَلة حينئذ في أوساطهن أن «أدوات السيد لن تفكك بيت السيد»، بمعنى أن على المرأة المزراحية أن تظل تخدم في البيت الأشكنازي، وتنظفه، وتجلس مع الأطفال فيه، لتتفرغ المرأة الأشكنازية لأنشطتها الخارجية.
يوضح التقرير أن «قدرة الحركة النسوية المزراحية على تحدي النظام محدودة، بسبب تهديد مصادر التمويل لها إن هي تمادت في مطالبها. وهي لا تستطيع الإشارة إلى الأيديولوجيا الصهيونية الأشكنازية الخبيثة الخاصة بتحديد النسل وممارساتها ضد المزراحيين، يوم كانت تجبرهم على التعقيم، وتعرضهم لجرعات مرتفعة من أشعة إكس في تجاربها عليهم دون موافقة مسبقة، وانتزاع أطفالهم من أحضان أمهاتهم ليتبنَّاهم الأشكناز، وإن ذلك ينعكس اليوم على معاملة الفلسطينيين السيئة. ولكن المزراحيين صامتون، فلا يتحدثون عن هذا التشابه المزراحي الفلسطيني».
هنا يذكر موقع «أرشيف النساء اليهوديات» أن أي إنكار لاضطهاد المزراحيات شبيه بإنكار الهولوكوست، وأن المزراحيين رجالًا ونساءً يستحقون الحياة الكريمة مثل رجال ونساء الأشكناز، بصفتهم مواطنين إسرائيليين لا مواطنين من الدرجة الثانية.
أضف إلى ذلك أن ما يجعل صوت النسوية المزراحية خافتًا هو الوقوف ضد عدوها المشترك مع الأشكناز، أي الفلسطينيين، ما يجعل الأمن القومي أولوية على الحق النسوي والعنصرية ضد النساء المزراحيات، فإذا كانت النسوية الإسرائيلية نفسها منقسمة من الداخل بتعنصُر فئة ضد الأخرى، فكيف إذًا تتعامل مع قضايا المرأة الفلسطينية؟
هنا يُطرح سؤال مهم: كيف يمكن للنسوية الإسرائيلية أن تكون مناهضة للنظام الأبوي وهي جزء من منظومة احتلال صهيوني ينتهك حقوق الفلسطينيات حتى الوقت الحاضر؟
أعلنت جمعية كيان النسوية في فلسطين، عبر محاميتها شهرزاد عودة، اتخاذ خطوات ضد «الظروف التي تتعرض لها النساء في السجون من اعتداءات وتحرشات تبلغ حد الاغتصاب الصريح، ليستخدموا ذلك في ما بعد كأداة ضغط على الرجل المقاوم الفلسطيني، ولردع المقاومة، الأمر الذي يشكل خطرًا جسيمًا على النساء المعتقلات داخل السجون، وأيضًا على النساء بشكل عام».
الحالة الوحيدة التي يمكن ألا تناقض فيها النسوية الإسرائيلية نفسها هي مناهضتها للصهيونية ومساندة النساء الفلسطينيات ضد العنف الجنسي الاستيطاني الممارس ضدهن، إذ يستخدم الاحتلال أجساد النساء سلاحًا ضد أصحاب الأرض الأصليين، عن طريق مفاهيم الشرف أو الإبادة لإنهاء العرق الفلسطيني.
بحسب تقرير «قراءات على الحرب الإسرائيلية على غزة 2014»، فإن «الإجلاء والإبادة العِرقية التي يعتمدها المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي، والاغتصاب والممارسات المختلفة للعنف الجنسي ضد النساء الفلسطينيات، لطالما كانت جزءًا من محاولات الكيان الاستعماري الاستيطاني لإبادة الفلسطينيين وإجلائهم عن أراضيهم».
ها هو السؤال مجددًا: هل يمكن أن تكون نسويًّا، وفي نفس الوقت جزءًا من كيان ذكوري يستخدم أجساد النساء كسلاح استعماري؟
التحرر من الاستعمار تحرر من الأبوية
تواجه المرأة الفلسطينية نظام الاحتلال الصهيوني بصفتها فلسطينية، والنظام الفلسطيني الذكوري بصفتها امرأة.
في معادلة منطقية: بما أن الاحتلال نظام أبوي وذكوري، وبما أن النسوية نظام مناهض للأبوية يعمل على التحرر منها، إذًا، فالتحرر من الاحتلال تحرر من الأبوية، وعلى هذا، فإن كل رفض ووقوف في وجه الاحتلال رفض ووقوف في وجه الأنظمة الأبوية أيضًا.
عودة الهوية الفلسطينية للفلسطينيين، وهو الشيء الذي يحاول الاحتلال نزعه وإلغاءه، يتماثل مع عودة هوية المرأة واستقلالها، وهو الشيء الذي يحاول الأنظمة الأبوية طمسه وتهميشه. يجب ألا ننكر أن المرأة الفلسطينية تواجه نظام الاحتلال الصهيوني بصفتها فلسطينية، والنظام الفلسطيني الذكوري بصفتها امرأة.