لو افترضنا أن للمشاعر تاريخ انتهاء، فعلينا أيضًا أن نفترض أن لها تاريخ بدء. ولكن، ما الذي يحدد تاريخ ولادة المشاعر؟ وهل للمشاعر تلك المرونة التي تمنحك سهولة اكتشافها وتأريخها؟ هل المشاعر شيء واضح يسهل علينا أن نربطه بشيء متغير كالزمن؟
لكن، أليست المشاعر متغيرة أيضًا؟ إذًا، كيف لنا أن نضبط شيئًا متغيرًا على شيء أساسه متغير كالزمن؟ ولو كان بمقدورنا تحديد بداية المشاعر، فهل لنا أن نتوقع المدة المحددة لتلاشيها؟ هل هناك مؤشرات على اقتراب انتهاء صلاحيتها، كالفتور والبرود ونحوهما؟
الجواب نسبي حتمًا. ليس بمقدورك أن تطلق الحكم قبل أن تحلل معنى الشعور، والغريزة التي دفعتك نحوه، وحالتك السيكولوجية حينما واجهت مشاعرك، والكثير من العوامل الأخرى التي عززت لديك الشعور الذي تود تحليله.
كيف لنا أن نحلل مشاعرنا؟
تسمى القدرة على تحليل المشاعر والعواطف والتعبير عنها على مستويات مختلفة من الزمن «التطور العاطفي» (Emotional Development)، ويظهر هذا السلوك لدى الأطفال من الصغر، حين يكون بإمكانهم إدراك مشاعر أساسية كاحترام الذات والشعور بالحب والعطف، لتتطور شيئًا فشيئًا وتتوسع نحو مفاهيم ومشاعر أخرى.
تظهر العواطف عادةً على سطح عقلنا الواعي، أما المشاعر فتحتاج إلى عملية أدق وأدوات لتحليل وتفكيك بعض الشفرات من اللاواعي.
حتى نفهم عملية تحليل الشعور، يتحتم علينا أولًا أن نعرف الفرق بين العواطف (Emotions) والمشاعر (Feelings). لنفترض أن شخصًا عزيزًا عليك أصيب بمرض ما، مما أدى إلى شعورك بالقلق والخوف عليه. شعور الخوف «اللحظي» هنا متولِّد من شعور أعمق ودائم هو الحب، والحب هنا يمثل «المشاعر»، أما الخوف فنابع من «العواطف»، التي تُعرف بسرعة تغيرها وتنقلها وتبدلها المستمر.
تمثل المشاعر الأساس الثابت والدافع للعواطف، إذ إن الأخيرة لحظية، أما الأولى فدائمة إلى حد ما. تتميز المشاعر بأنها ما يحدد هوية الإنسان، فهي كالمفتاح الذي يُسهل عليك الدخول إلى عوالمك وأعماقك..
في مقالها المنشور على مجلة «Psychology Today»، توضح البروفيسورة «جون هاندلر» أننا، بصفتنا بشر، واعون وقادرون على تعريف عواطفنا بشكل أسرع من مشاعرنا، لأن العواطف عادةً ما تظهر على سطح عقلنا الواعي، أما المشاعر فتحتاج إلى عملية أدق وأدوات لتحليل وتفكيك بعض الشفرات من اللاواعي، وذلك قد يُكتسب مع الخبرات والوقت، ويمكن أن يتعلمه الإنسان حتى يستطيع أن يفهم نفسه من خلال شعوره، كما يستطيع على المدى البعيد أن يطور ذكاءه العاطفي (Emotional Intelligence).
مِمَّ تتولد المشاعر؟
ذكرنا أن المشاعر تتسم بالثبات مقارنةً بالعواطف، لكن كيف تتكون وتصبح ثابتة؟ وكيف لها أن تتبدل أو تضمحل؟
ترتبط المشاعر ارتباطًا وثيقًا بالأحداث والتجارب التي تكوِّن المفاهيم، مما يؤدي إلى ترجمة تلك المفاهيم إلى ردود أفعال وعادات تُبنى على أساسها مشاعرنا. المشاعر دون تلك الأحداث لا معنى لها، وقد لا تتعرف إلى شعور ما ببساطة لأنك لم تخض تجربة تؤدي إليه.
الدماغ هو المسؤول والمحفز والقائم على عمليات ترجمة المشاعر، بمجرد أن يستقبل مؤشرات لفعل ذلك، إذ إنه يتنبأ برد الفعل المناسب الذي ينتج عنه شعورك وانطباعك لتتكون إثره تجاربك، أو كما تقول البروفيسورة «ليزا فيلدمان»: «المشاعر التي تبدو أنها تحدث لك، في الحقيقة هي من صنعك».
أثبتت الدراسات أن اضمحلال أو تلاشي الشعور يرتبط ارتباطًا تامًا بأهمية بالتجربة أو الحدث الذي عزز حدوثه. فمثلًا، كلما كان وَقعُ تلك التجربة شديدًا على النفس وأدى إلى رد فعل حاد، بغض النظرعن ماهيتها، فإن استمرارية الشعور تكون أعلى وأطغى مقارنةً بالمشاعر الأخرى.
هل الوقت سبب كافٍ لأن يفنى الشعور؟
التحكم في المشاعر ليس دائمًا في متناول اليد، فللمشاعر أصول ضاربة في النفس، كالشجرة، ليس بمقدورك أن تقتلعها من جذورها الممتدة على مدى أعوام، وكذلك لا تستطيع أن تمنع نفسك من الشعور فقط لأنك تريد ذلك، ولا تستطيع أن تحدد له مدة معينة وتفنيه بعدها.
على سبيل المثال، لا يمكنك أن تقول: سأحب شخصًا ما لمدة سنة واحدة، وبعدها يمكنني أن أكرهه أو أنسى وجوده.
الشعور شيء أسمى من الوقت، شيء يذوب فيه، ويُظلم كلما حاولت أن تُذيِّله بتاريخ ما. الشعور حالة تصنعك لا تصنعها، الشعور يجدك قبل أن تهمَّ بالبحث عنه. لذلك قد يكون تاريخه مغلوطًا بالنسبة إليك، قد يَسكنك منذ أعوام بسبب أحداث ماضية، لكنك للتو تعرفت إليه، فبأي تاريخ تظن أنك ستؤرخه حينها؟ وقد تحسب أنه انتهى بمجرد أنك لم تعد تشعر بوجوده السطحي فيك، غير مدركٍ أنه لا يزال قابعًا في أعماقك، بل وهو الدافع وراء أفعالك غير المبررة.
إحساسك باختفاء أو تلاشي الشعور ليس دليلًا على عدم وجوده، ولهفتك في أَوجِه ليست مؤشرًا على بدايته. أؤمن تمامًا بأن المشاعر متقلبة وموجودة دائمًا، إنها فقط تتهيأ لنا بحُلة جديدة في كل مرة نظن أنها تلاشت، لكنها هناك، دون بداية أو نهاية.
لذلك، حين تظن أنك تخطيت أمرًا ما ولم تعد تأبه به، وأنك لم تعد تحمل أي شعور تجاهه، ستُصدم حين يباغتك مجددًا، وتظن أنك انتكست وعدت إليه، وفي الحقيقة قد لا تكون تخطيته منذ البدء، إنما تشكل بهيئة شعور آخر فحسب وعاد مجددًا كما هو.
نحاول دائمًا أن نكون أقرب إلى أنفسنا عن طريق التعرف إليها. والتعرف الدائم إلى مشاعرنا سبيل مُجْدٍ لمعرفة ذواتنا، ولكن علينا أن لا ننشغل عن الشعور بتفصيله، ومحاولاتنا المطولة باكتشافه وتعريفه، لأن ذلك سيفسده حتمًا. خوفك المستمر من مشاعرك سيبعدك عنها وسيقرب تاريخ انتهائها، إن كان لها تاريخ انتهاء.
في كل مرة تكتشف بداخلك مشاعر جديدة، حاول ألا تربطها بالزمن، حاول ألا تتوقع مدة لانتهائها، وجرب أن تعيشها حتى وإن اختفت بعد ثوانٍ فقط، فثوانٍ من شعور صافٍ خير لك من سنوات من شعور يشوبه التوجس والخوف.