فتحي سلامة: من أجدَر بأن يُسمع الموسيقى المصرية للعالم؟

أحمد يونس
نشر في 2018/07/30

يفتقر المشهد الموسيقي في مصر، في ماضيه وحاضره، إلى أي صلة تربطه بجذور الموسيقى المصرية وهويتها، ولا أقصد هنا الإنتاج العربي أو الشرقي، والذي هو، بالطبع، جزء من هوية الموسيقى المصرية التي يمكن أن نستمع لها بين الحين والآخر، في بعض الأعمال الفنية، بل أقصد الموسيقى المصرية الشعبية (التقليدية) بآلاتها وأدواتها وأشكالها الفنية.

الموروث الثقافي الشعبي المصري يزخر بكثير من الآلات الموسيقية، سواء نغمية، مثل الربابة والمزمار والأرغول والسمسمية، أو إيقاعية، مثل الدف والمزمار البلدي والطبل السيوي. ويزخر كذلك بكثير من الأدوات، مثل المسبحة والعصا التي يستخدمها المنشدون للتوقيع (إصدار الإيقاعات)، والملاعق التي تستخدمها فِرَق السمسمية لنفس الغرض.

هذا الموروث غني بعدد من أشكال الغناء المختلفة، مثل الموال والزار والعديد. وعلى الرغم من هذا الغِنَى، فإن أحدًا لم ينتبه إليه طوال تاريخ مصر الموسيقي، سوى الموسيقار فتحي سلامة.

سلامة هو المؤلف الوحيد الذي انتبه إلى الموسيقى المصرية الشعبية وأدركها تمام الإدراك، ثم أعاد تقديمها مرة أخرى بشكل معاصر في مؤلفاته. وهنا لا أتحدث عن استخدام الآلات الموسيقية المصرية «حِلْية»، في بعض الأحيان، ولا عن إستخدامها في الموسيقى التصويرية، حين تتطلَّب الدراما ذلك، ولا حتى عن الفِرَق الموسيقية التي تعيد تقديم تراث الموسيقى المصرية بشكل تقليدي.

بالطبع لا أنكر هذه الاستخدامات، ولا هذا النوع من الفِرَق، فكل ذلك عظيم ومهم. لكني أتحدث هنا عن إعادة تقديم هذه الموسيقى بشكل معاصر، باعتبارها قائمة بذاتها، وليست عاملًا مساعدًا.

فرقة «شرقيات»

استمعتُ إلى مؤلفات سلامة للمرة الأولى منذ نحو ست سنوات، وكانت أول مقطوعة من تأليفه أستمع لها مقطوعة «يللا». استوقفتني كثيرًا، إذ كانت المرة الأولى التى أستمع فيها لمؤلف موسيقي يعيد استخدام الآلات الشعبية المصرية بشكل معاصر. قبلها كنت أتساءل كثيرًا: لماذا انحصر استخدام تلك الآلات في الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات التي تتحدث عن الصعيد أو الريف؟ لماذا لا يُنظَر إليها خارج سياقها الفلكلوري التقليدي الذي اعتدنا عليه؟ 

قبل تأسيسه فرقة «شرقيات»، عمل سلامة موزعًا موسيقيًّا لسنوات مع مجموعة من أهم المطربين في المنطقة العربية وأشهرهم، مثل عمرو دياب في ألبومي «ميال» و«خالصين»، ومحمد منير في ألبومي «شبابيك» و«اتكلمي»، إلى أن قرر ترك هذا الاتجاه بعد أن رأى أنه صار مكرورًا وتجاريًّا أكثر من اللازم، بسبب التدخل الزائد من المنتجين الذين لا يعنيهم إلا المكسب.

قرر سلامة تأسيس مشروعه الموسيقي الخاص، فرقة «شرقيات»، عام 1989. وبعد عدة حفلات في مصر وأوروبا واليابان وعدة دول، أصدر أول ألبوماته، عام 1991، باسم «رقص الجمل»، من إنتاج شركة «Face Music» السويسرية، وهي نفس الشركة التي ستُصدِر لاحقًا ثاني ألبومات الفريق عام 1996.

ظهرت نية فتحي سلامة، منذ أول أعماله مع فرقته، إنتاج موسيقى تحمل الهوية المصرية، ليس فقط باعتبارها عربية أو شرقية، بل أيضًا باعتبارها مصرية تمتلك طابعها الخاص، مثلما تمتلك آلاتها وأدواتها وأشكالها الفنية الخاصة. نستطيع أن نلمس ذلك في استخدامه لعدد من أشكال الغناء الشعبي المصري، مثل الموال الذي نستمع إليه في أغنية «مواويل مصرية»، والزار في أغنية «الزار»، والعديد في أغنية «رسِّيني» لجمالات شيحة.

جدير بالذكر، أن سلامة كان الموسيقار الوحيد الذي تعاون مع جمالات شيحة، وقدمها في شكل غير تقليدي، وتعاون معها في أغنيتين من ألبوم «جاية من بلد الأهرام»، إضافة إلى «رسِّيني».

الألبوم غلب عليه الطابع المصري والشرقي، فنستمع للعود والقانون والكَوَلة والطبلة والصاجات.

أما الألبوم الثاني، فكان باسم «درب الجمل»، وشغلت فيه آلات الموسيقى الشعبية المصرية مساحة أكبر من التي شغلتها في الألبوم الأول.

جاءت غالبية مقطوعات الألبوم معتمدة على آلات مصرية، مثل الربابة التي نستمع لها في مقطوعة «الليل في القاهرة»، وأيضًا بصحبة المزمار وصوت جمالات شيحة في مقطوعة «يللا»، ومثل الأرغول في مقطوعتي «رقصة النار» و«راست» مع الربابة والمزمار، ومثل الطنبورة في مقطوعة «القبيلة/نوبي»، وهي المقطوعة المؤلَّفة على السلم الخماسي النوبي، ونستمع فيها للكورال النوبي وبعض الأصوات التي تبدو كأنها من جلسة سمر في إحدى القرى النوبية.

غير ذلك، معظم الآلات الإيقاعية في الألبوم شرقية ومصرية، مثل الدف والرق والطبلة والصاجات.

هذا الألبوم، من وجهة نظري، هو الأهم في مسيرة فتحي سلامة، وأحد أهم الألبومات في تاريخ الموسيقى المصرية. فلأول مرة نستمع إلى آلات الموسيقى المصرية الشعبية، ليس باعتبارها عاملًا مساعدًا، ولا ضرورة درامية، بل باعتبارها آلات موسيقية ذات شخصية مستقلة ولون موسيقي خاص وطابع فريد وأصيل، تستحق أن ننظر إليها نظرة مختلفة، ونعيد إحياءها وتقديمها في مؤلفات موسيقية معاصرة تُكتَب لها بشكل خاص.

يعد الألبوم سبيلًا للنهوض بالموسيقى المصرية، ليس فقط بتقديمها في شكل مستقل، بل أيضًا بمزجها بأنواع موسيقية أخرى، كما فعل فتحي سلامة في الألبوم الثالث لفرقة شرقيات.

استمر مشروع سلامة في تقديم الموسيقى المصرية. لكن هذه المرة، ليس بشكل منفرد، كما فعل في الألبومين الأولين، بل عبر مزجها بموسيقى «الروك» الغربية.

ألبوم فتحي سلامة «لا تتسلق الأهرامات»

تعاون سلامة مع المنشد الصوفي الشهير الشيخ محمود التهامي، وقدموا مشروعًا باسم «الصوفية مقابل العصرية».

تعاون في الألبوم الثالث الذي صدر باسم «لا تتسلق الأهرامات»، عام 1998، مع فرقة الروك السويسرية «Maniacs»، ليقدم لنا عملًا موسيقيًّا تختلط فيه أنغام الموسيقى المصرية وأصواتها بموسيقى الروك، فنستمع فيه إلى آلة المزمار وتقاسيم الأكورديون بصحبة الغيتار الإلكتروني و«السينثيسايزر» (Synthesizers)، وإلى الطبلة والصاجات بصحبة الدرامز.

ربما يجب أن نذكر هنا مشروعًا آخر أنتجه سلامة، مزج فيه أيضًا الموسيقى المصرية الشعبية بموسيقى غربية أخرى، هى الإلكترونية. هذا المشروع الذي جاء مصري الطابع والتسمية، فغلبت عليه صولوهات المزمار والإيقاعات المصرية والشرقية، وأُطلِق عليه اسم «كُشَري» (الأكلة المصرية الشهيرة). وقد قدَّم سلامة هذا المشروع عام 2003 في حفل بمهرجان فني في مدينة تورينو الإيطالية.

ما زالت فرقة شرقيات مستمرة في تقديم الحفلات حتى الآن، سواء في مصر أو خارجها، بالتعاون مع كثير من الفنانين، مثل المطربة الجزائرية كريمة نايت والتونسية غالية بن علي.

تعاون فتحي سلامة، وفرقته شرقيات، مع المنشد الصوفي الشهير الشيخ محمود التهامي، وقدموا مشروعًا باسم «الصوفية مقابل العصرية»، أعاد فيه سلامة تقديم مجموعة من مؤلفاته رفقة صوت التهامى، وأعاد كذلك توزيع أشهر أغانى الشيخ، وقدم أكثر من حفل في دار الأوبرا المصرية.

ألبوم «مصر» وجائزة «غرامي»

ألبوم «مصر» نتج عن تعاون مشترك بين فتحي سلامة والمغني السنغالي الشهير «يوسو ندور» (Youssou N'Dour)، وقد صدر عام 2004، من إنتاج شركة «Warner Music Group»، واحتفظ فيه سلامة بروح الموسيقى المصرية، لكن هذه المرة بمزجها بموسيقى غرب إفريقية.

جمع الألبوم تأثيرات الموسيقى الإسلامية الصوفية في مصر وغرب إفريقيا، وفيه نستمع إلى آلات الموسيقى المصرية الشعبية، مثل الكَوَلَة والمزمار والأرغول والطبلة والصاجات، والإيقاعات الإفريقية وآلة الكورا المستخدَمة بكثرة في دول الغرب الإفريقي.

حصل الألبوم، في نفس عام صدوره، على جائزة «غرامي» فئة أفضل ألبوم موسيقي عالمي معاصر، وسلامة هو الموسيقار العربي الوحيد الحاصل على هذه الجائزة الأرفع في العالم، وحصل الألبوم أيضًا على جائزة «BBC» في نفس الفئة.

إيقاعات وأصوات الفجالة: موسيقي «صنايعية» مصر

بالتعاون مع 18 حِرفيًّا و3 موسيقيين محترفين، صنع فتحي سلامة ألبومه «إيقاعات وأصوات الفجالة»

لم يقف تأثر فتحي سلامة فقط عند موسيقى بيئته، فقد تأثر أيضًا بكل ما في تلك البيئة من أصوات. هناك كثير من الأصوات التي تميز الشارع المصري وتسمعها يوميًّا، مثل صوت الدق الذي يصدره بائع أسطوانات الغاز، وصوت حركة صاجات بائع العرقسوس، وصوت دقدقة مطارق الحدَّادين ومناشير النجارين، وكثير من الأصوات الأخرى.

كل هذه الأصوات يسمعها المصريون يوميًّا فى الشارع، ويمرون عليها مرور الكرام، لكنها لم تمر على فتحي سلامة، بل وقف وانتبه للأصوات، وقرر أن يصنع منها مشروعًا فنيًّا حمل اسم «إيقاعات وأصوات الفجالة»، وهو المشروع الذي نفذه بالتعاون مع مجموعة من الموسيقيين المحترفين، مثل أيمن صدقي ورمضان منصور ووائل الفشني، إضافة إلى 18 من حِرفيي حي الفجالة في القاهرة.

فتحي سلامة: سؤال العالمية

ما فائدة الفن إذًا؟ ما فائدة الفن إذا كنا سنقدم جميعًا نفس الموسيقى، ونعالج قضايانا من نفس المنظور؟

حين سُئل سلامة عن رأيه في الأغنية العربية الحالية، قال إنها تفتقد الفكرة والهوية، ومعه بالطبع كل الحق، ليس فقط بالنسبة إلى الأغنية، بل للموسيقى ككل، فنحن أمام مشهد موسيقي فقير، تنعدم الصلة بينه وبين جذوره المصرية الغنية، سواء باعتبارها عربية أو شرقية أو شعبية.

ليس فقط من حيث التكوين الآلي، أقصد الآلات الموسيقية، بل أيضًا من حيث روح اللحن والنغم، فلا نستمع في المشهد الموسيقي الحالي، إلَّا في ما ندر، سوى لأغاني البوب والروك والميتال والكانتري وغيرها من أشكال الموسيقى الأمريكية والغربية بشكل عام، لكن بلغة مصرية، دون حتى إضفاء أي طابع مختلف أو تأثير متميز، لكن ما السبب؟

ربما يرجع السبب في اغتراب المشهد الموسيقي وتقربه من كل ما هو غربي وتنصله من كل ما هو مصري، إلى الفهم الخطأ لمفهوم العالمية. فبعضهم يعتقد أنك حتى تكون فنانًا عالميًّا يستمع لك الناس في كل مكان، يجب عليك أن تقَدِّم ما يقَدَّم في العالم، بغض النظر عن موروثك الثقافي وهويتك الفنية.

لكن إذا كان الأمر هكذا، فما فائدة الفن إذًا؟ ما فائدة الفن إذا كنا سنقدم جميعًا نفس الموسيقى، ونعالج قضايانا من نفس المنظور؟ ما فائدة الفن إذا لم يُطلعنا على ثقافاتنا ومشكلاتنا ورؤانا المختلفة؟

أحد أهم أدوار الفن التواصل الذي يُحدِثه بين الشعوب، فعندما ينتج كل فنان فنًّا يُعبِّر عن ذاته وبيئته وجذوره وموروثه الثقافي، تكون هناك ضرورة للاستماع لهذا الفنان كي يرينا جانبًا آخر من العالم، هو لا شك أفضل الناس، وأجدرهم على التعبير عنه.

في حوار أجرته مجلة «ذا باريس ريفيو» مع نجيب محفوظ، سألته المحاورة عن شخصية عبد الجواد (سي السيد)، فقالت إنه يجسد شخصية الرجل المصري النمطية في زمنه، لكن هل لا يزال هذا النمط شائعًا اليوم؟ أجاب محفوظ: «نعم، لا سيما في صعيد مصر، في الريف. رغم أن عبد الجواد اليوم قد يكون أقل تطرفًا. أليس في كل رجل أصلًا ظلٌّ منه؟». أضافت المحاورة: كل رجل مصري، أم كل رجل؟، فرد: «لا أستطيع أن أتكلم عن بلاد أخرى، لكن يقينًا هذا حال الرجل المصري».

إجابة محفوظ الأخيرة تلك تكشف لنا كيف يفكر هو ومَن مثله من المبدعين. يقول إنه لا يستطيع أن يتحدث عن بلاد أخرى، لكنه يقينًا يستطيع أن يتحدث عن بلده، عن الشارع المصري الذي يعرفه جيدًا، ويُدرك كل ملامحه ومكوناته، عن الرجل المصري الذي يشعر بمثل ما يشعر ويمر بكل ما يمر به.

هكذا يفعل الفنان الحقيقي، يتكلم عما يعرف، وليس ذلك من باب الشعارات القومية الزائفة، ولا من باب البكاء على أطلال موروث ثقافي مهمَل أوشك على الاندثار. لكن ببساطة يفعل الفنان ذلك لأنه ما من أحد سيكون أصدق منه فى التعبير عن ملامح وطن هو غارق فيه ومتشبع بكل تفاصيله، وإلا فمَن الأقدر على التعبير عن الشارع المصري وهمومه غير الفنان المصري؟ من أجدر بالتعبير عن هموم شعب ما وأحلامه وطموحاته وهواجسه غير أبناء هذا الشعب؟

سلامة مثال لذلك الفنان الذي يتصل ببيئته ويحفظ هويتها، فهو فنان غارق في مصريته، يستمع لما يستمع له الشعب المصري، ويُطرَب لكل ما يطرب له. مَن منا لا يطرب لصوت الموال الشعبي؟ من لا يطرب لصوت المزمار والربابة والعود والقانون؟ مَن أجدر بأن يُسمِع هذا كله للعالم؟

أدرك فتحي سلامة هذا مبكرًا وعمل عليه، فقدم أعمالًا فنية رائعة تعبر عن ذاته وبيئته وموروثه الثقافي، وكان مِثله في ذلك مثل الموسيقار الهندي «رافي شانكار» والإيراني «حسين عليزاده»، فكلاهما وفتحي سلامة طوَّروا موسيقى بلادهم ثم أعادوا تقديمها مرة أخرى في أعمالهم بشكل معاصر، فكسبوا احترام العالم، إذ إنهم، وغيرهم من المبدعين في كل الدنيا، أدركوا مبدأً في غاية الأهمية: لا جديد إلا بالنظر إلى القديم والبحث في سبل تطويره وتحسينه، وعندما يغرق الفنان في مَحَلّيته، وقتها فقط، يصبح عالميًّا.

مواضيع مشابهة